لعل البعض قد يستهجن العنوان قليلاً، وربما يجد البعض الآخر غضاضةً في كلمة "حارات"، لكنها باختصار هي الحقيقة، حقيقة أنني كنت أرسل أخباراً من بعض الحارات والأحياء في عاصمة الشرق السوري المنسية، دير الزور، ومن الحدود العراقية-السورية ثم حلب وإدلب وبعدها من حواري عنتاب وأورفا وصولاً إلى تغطيات صحفية لقناة الجزيرة في ثلاث قارات. لكن كيف بدأت القصة؟
"نحتاج فدائيا يتحدث العربية والإنجليزية"
في منتصف عام 2011، وبعد أن بُح صوتي في قيادة المظاهرات الكبرى في ميادين وساحات دير الزور، وكتابة الهتافات الثورية، اقتحم الجيش السوري المحافظة للمرة الأولى برتل كان قوام طلائعه 90 دبابة ومدرعة وعدداً من فرق المشاة من بينها فرق للوحدات الخاصة والحرس الجمهوري.
في تلك اللحظة أدركت - بيقينٍ لا شك فيه - أن الخروج في أي مظاهرة يعني الموت، وأنه لا مكان للرومانسية أو للتفاؤل الساذج بالوقوف أعزَل أمام الدبابات لاستدرار عاطفة قائديها. فهذه ليست ساحة تيان آن من، ولن يكون المصير كمصير رجل الدبابة الصيني الذي شاهده العالم كله وكان ملهما لنقل ما يجري في سوريا ساعتئذ.
كانت أغلب المدن السورية الثائرة - آنذاك - قد اقتحمها الجيش وتطور الأمر فيها إلى الصدام المسلح منذ الأيام الأولى، إذ تساوى عند الكثير من أولئك الموت والحياة وهان عليهم الظهور أو الحديث على وسائل الإعلام والخروج بالصوت والصورة، أما عندنا في دير الزور فقد كان الأمر عسيرا حتى وإن سبق للبعض من أبنائها المغتربين أن ظهروا عبر برامج الاتصال من خارج البلاد متحدثين عن الحال هناك.
دار النقاش سريعاً بيننا بأن سبب الضعف في نقل ما جرى عندنا في المدينة هو عدم وجود متحدث بالعربية والإنجليزية يتجنب البكاء والشكوى مثلما كان يطلع من بعض المحافظات، باستخدام هاتف ورقم واحد غير مسجل يستخدمه شخص واحد حتى لا يتعرض الجميع إلى التهلكة.
ولأن الناس ربما رؤوا في أني أمتلك هذه الصفات، استقر الرأي عليَّ، وأيضا لأني قد هجرت بيت والدي رحمه الله منذ اندلاع الحراك كما كنت مطلوباً كمئات آلاف السوريين للأفرع الأمنية، ولأنني أيقنت أن لا سبيل لمواصلة تعليمي الجامعي في مثل تلك الظروف.
كانت أول مداخلة لي أثناء مداهمة الجيش وتمشيطه للأحياء واحدًا تلو الآخر. في ذلك الوقت كنت في منزل خالي، وكانت المداخلة مع الجزيرة الإنجليزية.
انتهت المكالمة في اللحظة نفسها التي ارتفعت فيها الأصوات وعمّ الاضطراب في المبنى؛ فقد بدأ الجيش بتفتيش الحي الذي يقع فيه بيت جدي وأخوالي.
لكن العناية الإلهية صرفتهم عن بيتنا، من غير حولٍ منا ولا قوة.
ولادة أوس العربي
كنت أشاهد مداخلة لناشط صار من المشاهير في إحدى القنوات العربية، فبكى قبل أن تقاطعه المذيعة بطريقة تشبه تعنيف الأم لابنها عند إفراطه بالبكاء، مطالبة إياه بالكف عن النحيب لأنها لم تفهم ما يقول. سرعان ما بدأت تسأله عن تفاصيل لم يألفها هو وناشطو الثورة، إذ شعرت بمبالغة في روايته. منذ ذلك اليوم عزمت ألا أقول إلا ما رأيت بعيني، وألا ألتفت للأخبار المتداولة في المدينة حتى أتحقق منها بنفسي، سواء كانت تفريقًا بالقوة أم إطلاقًا للنار. وقد ظهرت فيما بعد في الكثير من وسائل الإعلام.
لكن مغالبة المشاعر لم تكن أمرا يسيرا. ما زلت أذكر ظهوري على قناة الجزيرة العربية ضمن نشرة هذا المساء حين تحدثت عن مجزرة بعثة المراقبين الدوليين. وأمام عيني قتل الصديق والأخ حذيفة غدير رحمه الله في قلب مدينة دير الزور وأمام لجنة المراقبين.
لم أدرك أثناء المداخلة أنني انسقت إلى تفاصيل كثيرة غلبت فيها المشاعر، في حين كان الأجدر أن أكتفي بسرد خبر الجريمة التي ارتكبها الأسد ونظامه.
لأسباب أمنية لا تخفى على من يعيش تجربة المواطن الصحفي في العالم العربي كان لابد من اختيار اسم لا يمت للبيئة ولا لأسماء العوائل المشهورة، خاصة وأن المدينة تركيبتها عشائرية، وزج أي اسم بغير احتياط لغرض التمويه قد يعرض حياة الآخرين للخطر. كان لصديقي مثنى ابن شقيقة اسمه أوس، وكان الأمين العام للجامعة العربية آنذاك هو نبيل العربي. مزجنا بين الاسمين، فصرت أوس العربي.
لكن مغالبة المشاعر لم تكن أمرا يسيرا. ما زلت أذكر ظهوري على قناة الجزيرة العربية ضمن نشرة هذا المساء حين تحدثت عن مجزرة بعثة المراقبين الدوليين. وأمام عيني قتل الصديق والأخ حذيفة غدير رحمه الله في قلب مدينة دير الزور وأمام لجنة المراقبين.
لم يقتصر التنكر والتخفي على الاسم فقط، بل رحنا نبتدع طرقاً أخرى من شأنها أن تخفي هويتنا. تغيير الصوت أثناء الحديث على الهاتف كان خيارنا الأول وإن بدا الصوت مضحكا في بعض الأحيان. كانت حينها باكورة ثورة أجهزة الهاتف الصينية التي كانت تغير صوت المتحدث لكن الكثير من القنوات كانت تشتكي من ذلك وتطالبنا بوقف استخدامها.
عمار الحاج
منذ أواخر سنة 2011، أصبحت صحفيا في شبكة الجزيرة، كنت أظهر بصفة شاهد العيان ثم اختفت تلك الصفة. لم أتلق أي تدريب – حينها - لكنني كنت قد بدأت بإرسال الصور والأخبار المكتوبة والظهور في المداخلات الصوتية بشكل منتظم، واستمررت بهذه الوتيرة حتى منتصف عام 2012 حين استدعيت للمرة الأولى إلى تركيا. قابلني الاستاذ تيسير علوني الذي كان من تواصل معي باسم الجزيرة منذ البداية ثم أشرف على تغطية الثورة حقبة من الزمن. زودني بعدها بالمعدات وأجرى لي تدريبا سريعا، وقال لي حان وقت الظهور على الشاشة: الآن وعليك اختيار اسم جديد.
لأسباب أمنية لا تخفى على من يعيش تجربة المواطن الصحفي في العالم العربي كان لابد من اختيار اسم لا يمت للبيئة ولا لأسماء العوائل المشهورة، خاصة وأن المدينة تركيبتها عشائرية، وزج أي اسم بغير احتياط لغرض التمويه قد يعرض حياة الآخرين للخطر. كان لصديقي مثنى ابن شقيقة اسمه أوس، وكان الأمين العام للجامعة العربية آنذاك هو نبيل العربي. مزجنا بين الاسمين، فصرت أوس العربي.
حين عدت إلى سوريا، كان الهاجس الأكبر يطاردني: منزلنا يقع قبالة فرع أمن الدولة، وعيون المخابرات لا يعجزها أن تعرف من أكون أو أين أسكن. كنت أخشى أن يُختطف والدي وإخوتي الذين سبق أن اعتقلوا جميعاً إبّان الثورة، لإجباري على تسليم نفسي، كما حدث مع كثير من الناشطين.
اضطرت عائلتي إلى الرحيل نحو دمشق، التي كانت آنذاك تمتلئ بالملايين من المهجّرين من مختلف المحافظات. هناك غيّرت اسمي إلى عمار الحاج، واتخذت كل ما يمكن من احتياطات، من إطالة الشعر أحياناً إلى قصّه حيناً آخر، ومن تلك اللحظة بدأت حكايتي رسميّاً مع الجزيرة.
من النشاط إلى الاحتراف
كان الفارق شاسعا بين ظهورنا بصفتنا ناشطين وشهود عيان على الشاشات، وظهور المندوب أو المراسل الرسمي للقناة المسؤول عن كلمة رسمية أو عن توصيف طرف في بيئات الحروب أو الثورات المسلحة.
لقد كان النشطاء - وإن كانوا محقين من وجهة النظر الثورية على الأقل - ينعتون عناصر النظام بالمجرمين والقتلة ونعوت أخرى يتعالى المقام عن ذكرها، لكن هذا ليس عمل الصحفي المحكوم بقواعد مهنية وأخلاقية صارمة لكن لا يعني أيضا الانحياز إلى القتلة.
لم يعد بوسعي أيضا قبول أي صورة من الكتائب المنتشرة في المدينة قبل أن أسأل وأتحقق من تاريخها ومكانها وسياقها. كنت أفعل ذلك حتى قبل انضمامي إلى الجزيرة، لكن الحرص الآن أصبح مضاعفا.
بعد انضمامي إلى الجزيرة، لم أعد ابن البيئة التي أعيش فيها فحسب، بل العارف بفصائلها وكتائبها ومدى الأخطار المحيطة بها، والمطلع على مناطق انتشار النظام والمناطق المحظورة. فقد أصبحت مطالبا بالتوجه إلى أماكن لم تطأها قدمي من قبل، حتى في أيام السلم. ولأن عملي صار يفرض علي التعامل مع أشخاص، وإن كانوا من الثوار، كان لزاما أن أتوخى أقصى درجات الحذر، فأستفسر عنهم وعن تبعيتهم ومواقع تمركزهم، ثم أتحقق من ذلك عبر من أثق بهم من أبناء مناطقهم.
الخوف في تلك المرحلة تضاعف، لم يعد مصدره النظام وأجهزته الأمنية وحدها، بل أيضا من بعض من لا يرضيهم أداؤك أو أداء مؤسستك ممن يدعون الانتساب إلى الثورة. وهذا بدوره كان يدفعك إلى مزيد من الالتزام بالحياد، حتى في منشوراتك الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تكن قد شهدت بعد ما نشهده اليوم من انفلات وتحول غريب.
ومع كل هذا الحرص، لم أسلم من الخطر، فقد تعرضت للاختطاف من قبل تنظيم الدولة الإسلامية رغم التزامي بكل ما أوصيت به آنفا. كانت الحادثة محض صدفة، ولمن يرغب في معرفة تفاصيلها، فليعد إلى روايتي "أسير الوالي: مذكرات مراسل الجزيرة في سجون تنظيم الدولة".
الخوف في تلك المرحلة تضاعف، لم يعد مصدره النظام وأجهزته الأمنية وحدها، بل أيضا من بعض من لا يرضيهم أداؤك أو أداء مؤسستك ممن يدعون الانتساب إلى الثورة. وهذا بدوره كان يدفعك إلى مزيد من الالتزام بالحياد، حتى في منشوراتك الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تكن قد شهدت بعد ما نشهده اليوم من انفلات وتحول غريب.
لقد أيقنت حين بدأت العمل مع الجزيرة صواب التزامي بالاحتياط في نقل الأخبار، فعلى عكس ديدن كثير من الناشطين وشهود العيان الذين يغفلون دون سوء نية – غالباً - عن هذه الأمور: لا خبر إلا و يجب نسبه للمصدر، لا داعي للإسهاب في المداخلة إلا للتذكير بالأحداث الجارية، ولا سبيل للمراسل للاستطراد في التحليل و تقديم النتائج و العظات، فهذا ليس من شأنه - وإن كان هناك مجال للتحليل - فلا بد أن يبدأ أولا بعرض الوقائع، ثم الإشارة - مثلا - إلى أنه إذا آلت الأمور إلى كذا، فسيكون السياق على النحو التالي.
تعلمت أيضا أن المراسل ومظهره لا يجب أن يسبق الخبر، لا ثياب ملفتة ولا حلي و لا حتى قصات شعر غريبة تدفع المشاهد للتأمل في أشياء أخرى، ونسيان ما الذي كان يتحدث عنه، والأهم أن يكون المراسل على مسافة واحدة من كل الأطراف لأن حياديته هي طوق نجاته.
تعلمت مهارات أخرى، خصوصا في التصوير، فذلك الشغف غير المحدود لدى الناشطين باستخدام لقطات التقريب والإبعاد (زووم إن وزووم آوت) يختفي تماما في عالم الصحافة المهنية، لأنها أداة فنية تُستخدم وفق شروط محددة، لا بشكل عشوائي كما كان يفعل كثير من الناشطين. فكل صورة لها وظيفة محددة في الغالب، وكذلك الجمل الافتتاحية والختامية، ولقطات البداية والنهاية، والكتابة للصورة لا عنها. كل ذلك كان غائبا عن أذهاننا خلال فترة عملنا كناشطين.
ما لا ينسى
أستطيع أن أعدد ما لا حصر له من الدروس والعبر و الأخطاء والتجارب التي مررت بها خلال ثلاثة عشر عاما من عملي مع الجزيرة، و يمكن أن أسوق ما لا يحصى من الأمثلة عن ضرورة الالتزام بالحياد في مختلف البيئات في نقل الخبر لكن إن كان لابد من ذكر مثال واحد، فلعلي أستحضر تغطية ليلة محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016.
يومها كنت أقف مع زميلي المصور خيري في ساحة تقسيم، حين وصل مئات الجنود وعدد من العربات إلى وسط الساحة. كانت المظاهرات آنذاك في حي الفاتح في إسطنبول، أو أمام مبنى الأمنيات القريب، تطالب برحيل العسكر. كنت أتحدث عن ذلك، لكنني في الوقت نفسه، فاجأت زميلي المذيع حين قلت: "وعلى الرغم من ذلك، أرى العشرات وربما المئات من الأتراك قد التفوا حول الجيش وأخذوا يحيّونه ويؤيدون الانقلاب". استدرك زميلي ظانا أنني أخطأت، لكنني أكدت له ما رأيته، وأوضحت بالصورة ما جرى.
كانت المظاهرات آنذاك في حي الفاتح في إسطنبول، أو أمام مبنى الأمنيات القريب، تطالب برحيل العسكر. كنت أتحدث عن ذلك، لكنني في الوقت نفسه، فاجأت زميلي المذيع حين قلت: "وعلى الرغم من ذلك، أرى العشرات وربما المئات من الأتراك قد التفوا حول الجيش وأخذوا يحيّونه ويؤيدون الانقلاب". استدرك زميلي ظانا أنني أخطأت، لكنني أكدت له ما رأيته، وأوضحت بالصورة ما جرى.
لقد تعرضت للشتم، ساعتها، من بعض المتضامنين مع الرئيس اردوغان ومحبيه، لكن كان لابد من الإشارة إلى ما رأيته، أما إنكاره لن يرفع من قيمتي كصحفي وإنسان كما لن يحط منها أيضا.
الأمر ذاته تكرر في أوكرانيا، حين كنا نغطي القصف الروسي الذي استهدف بعض المنازل والمدارس. كانت وسائل الإعلام الأوكرانية تتحدث عن عشرات القتلى، بينما لم يكن يُنتشل سوى عدد محدود من الجثث. كما كانت تشير إلى أن الأهداف جامعات ومنشآت مدنية، في حين كنا نشاهد استخراج أسلحة وجثث لعناصر من الجيش. ومع ذلك، فإن وجودنا في أوكرانيا لم يمنعنا من نقل الصورة كما هي، دون تبني أي رواية، سوى ما تنقله الكاميرا إلى المشاهد.
هذه بعض الدروس والمسيرة مستمرة.