ما قبل البداية
عندما أفاق العالم على خبر مقتل الصبي الأميركي ذي الأصول الأفريقية ترايفون مارتين عام 2011، وبينما كانت وسائل الإعلام التقليدية منهمكة في التواصل مع مراسليها وإعداد التقارير والمواد الإخبارية، أملاً في تسجيل السبق إلى المعلومة، كانت كاميرات الهواتف الذكية تنقل الحدث مباشرة من الميادين. وبسرعة الضوء، انتشرت مقاطع الفيديو المسجلة والصور الملتقطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وبعد ساعات قليلة، اقتحم الخبر الأجهزة الإلكترونية الصغيرة لسكان القارة السوداء، متجاهلاً فارق الساعات بين القارتين!
في العام 2014، كان عدد القتلى السود على يد الشرطة قد ارتفع إلى أربعة مواطنين. بدأت شوارع أميركا تعج بالمتظاهرين المحتجين، بينما كان حراك من نوع آخر يتسع مداه على مستوى العالم.
انتفاضة من نوع آخر
لقد تحول مقتل السود إلى انتفاضة شعبية في القارة العذراء؛ على مستوى العالم الافتراضي. كان وسم (هاشتاغ) "حياة السود مهمة" #BlackLivesMatter مادة خصبة لكثير من الصحفيات الأفريقيات لرصد معاناة السود، وفرصة ذهبية لتسجيل وجودهن.
"معاناة السود هي معاناتنا بالأساس قبل أن نكون صحفيات"، بهذا علّقت إزيلدا دي بريتو، وهي أفريقية مقيمة بلندن وناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، مضيفة "وجدنا عزاءنا كنساء أفريقيات يعشن في أكثر الدول دكتاتورية وبُعداً عن حقوق الإنسان، في أفارقة قتلوا على يد شرطة أكثر الدول ديمقراطية".
عندما سألتها إن لم يكن المزيد من القتلى الأبرياء هو ما جنوه من الحملة، قالت: "على العكس تماماً، أصواتنا كصحفيين إلكترونيين ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلت الإعلام التقليدي أيضاً يركز اهتمامه على الحدث.. بعد سنتين، حصلنا على دعم مادي مهم من حزب المبادرة النسوية السويدي.. أظن أنها ثمرة الحراك الإلكتروني بالأساس".
لقد ساعد نشاط هذا الوسم الصحفيات الأفريقيات في تسليطهن الضوء على قضايا لم تتطرق لها وسائل الإعلام التقليدية.
فوسم "أعيدوا إلينا بناتنا" #BringBackOurGirls مثلاً، لم يكن حملة لتحرير 300 تلميذة مختطفة في شيبوك بنيجيريا فقط، بل انتقل مع التفاعل الدولي إلى صدارة الأجندة السياسية في البلاد.
وفي العام 2015، عقب إصدار كتاب جديد للكاتبة النيجيرية شيماماندا نكوزي، وجدت الناشطات النسويات في عبارة الكاتبة "علينا جميعاً أن نكون نسويات"، دعوة إلى حملة جديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتصدر بعد بضعة أيام وسم "أن تكوني امرأة في نيجيريا" #BeingFemaleinNigeriaعناوين الصحف الإلكترونية.
تكسير الحدود، ولكن!
تعتقد كثير من الصحفيات الأفريقيات أن عملهن الإلكتروني ساهم في كسر الحدود بينهن وبين العالم، وأن أصواتهن ساهمت في كثير من الأحيان في تحرك فعلي من السلطات وأصحاب القرار. وبحسب مريم أوتاها الصحفية في مجموعة إذاعة وتلفزيون "لاباري" (RTL) الخاص بالنيجر، فإن الصحفيات "لا يخشين الصحافة الرسمية بقدر خشيتهنَّ من عدسات الكاميرات المستقلة"، متابعة أنهن "كصحفيات أفريقيات، أصبحنا أكثر توحداً بفضل الصحافة الإلكترونية.. لقد وفرت لنا حرية لم تستطع أي جهة أخرى أن تضمنها لنا".
غير أن المتحدثين في الحدث الذي عقدته لجنة الأمم المتحدة المعنية بوضع المرأة (CSW) عام 2015 برعاية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، قالوا بأن المدى الذي استطاعت من خلاله الصحافة الإلكترونية أن تغير السياسات، أو أن تكون سبباً في اتخاذ الإجراءات العملية؛ ما زال غير واضح تماما.
أثناء دردشتي مع إسرائيل يوروبا -وهو كاتب وصحفي ومدرب تواصل- قال إن الصحافة الإلكترونية في أفريقيا ما زالت ضعيفة، وإنه لا يمكنها أن تعوض بأي حال من الأحوال الصحافة التقليدية.. "بدأنا نشاطنا في ساحل العاج عام 2006.. هناك 40 موقعاً إخبارياً إلكترونياً مسجلاً عندنا، لكن أغلب تلك المواقع توقفت عن العمل".
لكن إديث برو المدونة والمصنفة سابقاً ضمن الشخصيات الخمسين الأكثر تأثيراً في ساحل العاج، قالت إن التغريدات حول الحركة النسوية على تويتر ارتفعت بنسبة 300% بعد ثورة الربيع العربي.. "كنا نتابع أخبار النساء في الوطن العربي من خلال المدونات من تلك البلدان.. كنا لا نكتفي بالتفاعل، بل إننا كنساء، كنا نحس بالمسؤولية تجاههن، فنشارك صورهن في المظاهرات، وفي السجون، وفي الميادين؛ على صفحاتنا الشخصية". وأضافت: "كانت لي صديقة سورية.. التقينا معاً في إحدى الدورات حول الإعلام الجديد بباريس.. افترقنا، واستمرت علاقتنا بعد ذلك من خلال شاشتينا الخاصة على اليوتيوب.. كنا نتبادل قضايانا النسوية ونكتب عنها بحماس، إلى أن تفاجأتُ بخبر اغتيالها عشية أحد الأيام.. لم أنم تلك الليلة، ولم أنسَها يوماً".
رقابة "قانونية"!
يعد الإعلام الجديد بالنسبة لكثير من الصحفيات في أفريقيا، أسرع الوسائل للوصول إلى المعلومة، وإيصالها.
ففي النيجر مثلاً، وحيث إن نصف سكان البلاد تحت عتبة الفقر، فإن اقتناء هاتف ذكي من إحدى الشركات الهندية أو الصينية الأكثر رواجاً هنا يُعدُّ نعمة كبيرة، أمام عجز جلِّ الأسر عن اقتناء جهاز تلفاز أو حتى الوصول إلى الصحف الورقية التي ينحصر توزيعها على المدن الرئيسية، فضلاً عن المذياع الذي لا تغطي أغلب تردُّداته كل المناطق، وفق أوسمان رحاما -وهي صحفية مستقلة أسست مجموعة "Soleil Levent" للاتصال والتواصل في نيامي- التي أكدت أن أخبارهم اقتحمت أخبارنا في أشد المناطق عزلة.
أثناء الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار 2016 بالنيجر، أوقفت الحكومة تطبيق الواتسآب، مدعية أنه كان يؤثر على مسار الديمقراطية، ويعرقل الانتخابات. وفي تقرير للصحفي النيجري هارونا موموني، كتب أن النساء استفدن من التطبيق "لإثارة الفتن"، وأن أجهزة الحكومة الاستخباراتية استطاعت رصد عشرات المحادثاث المُهينة لرجالات سياسية كان مصدرها نساء.
لكن أوسمان تحكي أن الحكومة أغلقت التطبيق مرة أخرى بعد انقلاب 2010 وأن السبب لم يكن استعمال النساء "غير الأخلاقي" للتطبيق، بل بهدف إبعاد أكبر قدر ممكن من المواطنين عن صوت المعارضة، حيث كان أعضاء الأحزاب المعارضة يستعملون الصحافة الإلكترونية كمنصة وحيدة لهم للوصول إلى الجمهور.
وبغض النظر عن مدى صدق المعلومة، فإن حجم تبادل الرسائل السياسية بين النساء عبر الواتسآب، كان قد وصل إلى حد لا يمكن تجاهله.. "كانوا يغلقون تطبيقاً، فيظهر تطبيق آخر"، والكلام لأوسمان.. "لقد تشاركنا مع المواطنين -كصحفيات إلكترونيات- حجم التعتيم الممارس علينا، فرغم الجهود التي أنجزت من أجل تحرير المرأة في النيجر، ما زلنا كصحفيات نعاني من الاضطهاد".
وتشتكي صحفيات كثيرات من القوانين "غير العادلة" في كثير من الدول الأفريقية. ففي رواندا مثلاً، ما زالت الصحفيات لا يتمتعن بحقهن في إجازة الأمومة، بل ويُهدَّدن بفصلهن إن تغيبن. كانت هناك حالات قليلة سُجلت لصحفيات استفدن من إجازة الأمومة، لكنهن اعترفن أنها كانت إجازة غير مدفوعة.
حرية أكثر قليلاً
في الذكرى الأولى للاحتفال بمناسبة حرية الصحافة في النيجر عام 2014، شاركت المقدمة التلفزيونية نفيسة أمادو قصتها أمام عشرات الحاضرين في قصر المؤتمرات بعد تجربة أربع سنوات.. "صبيحة تقديمي لملفي في مكتب الوظائف، ألقى موظف المكتب نظرة على طلبي وسألني: هل أنت متأكدة من اختيارك؟ أجبته: نعم.. إنه حلمي، فقال لي: لو كانت ابنتي مكانك لكنتُ رفضت الأمر، ولفضلتُ جلوسها في المنزل على العمل في التلفزيون".. مستذكرةً تلك البدايات تقول أمادو "حتّى اليوم الذي أعلنت فيه نتيجة قبولي كمقدمة أخبار، كنتُ أسأل نفسي مستحضرة كلام الموظف: هل ارتكبتُ خطأ باختياري هذه الوظيفة؟".
وعن الدعم المعنوي للصحفيات، تعتقد أمادو أنه "نحن النساء لا ندعم بعضنا.. وباستثناء رابطة المهنيين للاتصالات (APAC)، لا توجد أي جهة تعنى بدعمنا".
بالنظر إلى الأرقام الواردة بخصوص حرية الصحافة في القارة السمراء، يظهر أن دول غرب أفريقيا تعاني من "وضع صعب" حسب إحصائيات "مراسلون بلا حدود"، تليها دول شرق أفريقيا، التي تعاني من "وضع خطير جدا".
لكن النيجر كانت استثناء في السنوات الأخيرة، فبعد انتخاب الرئيس محمدو إيسوفو عام 2012، أصبحت البلاد تتفوق على معظم دول أوروبا الشرقية في مؤشر الحرية.
غير أن قيوداً من نوع آخر كانت حجر عثرة في طريق ممارسي هذه المهنة، وخصوصاً النساء، حيث تردف أوسمان أن "حقوق المرأة ليست هدية أو صدقة"، كما أن المجتمع النيجري "غارق في اعتبارات دينية إسلامية بحتة.. أعتقد أن هذا هو أكبر العقبات أمام تمكين المرأة النيجرية".
تحرش.. أون لاين
فضلاً عن نظرة المجتمع الدونية لهن، تواجه صحفيات نيجريات كثيرات أثناء ساعات دوامهن مآسيَ يفضلن الصمت عنها مقابل مواصلة العيش، فخلف كل صحفية عائلة كبيرة تنتظر نهاية كل شهر حصتها من الراتب.. "عليكِ أن تكوني ذكية، قد تصبح حياتك مهددة بسبب دفاعك عن نفسك". وتضيف الصحفية مريم عبدو "أحياناً تكونين مخيرة بين قبول دعوة مواعدة ومعلومة.. تكونين مطالبة بكتابة تقرير، ثم تتفاجئين بأن حصولك على المعلومات رهين بمدى استجابتك للابتزازات.. الوضع ليس سهلاً".
غير أن فضاء الصحافة الإلكترونية لم يخلُ في المقابل من التحرشات والابتزازات والتهديدات وممارسة الضغط النفسي على كثير من الصحفيات.
"بلا شك أنه كان فضاء رائعاً لنا لعرض آرائنا بحرية أكثر، لكنه في الوقت نفسه، كان سيفاً ذا حدين.. فكثير من الصحفيات تحولت أيامهن إلى كوابيس وهن يتعقبن بشكل مستمر أي تعليق مزعج على تقاريرهن ليقمن بمسحه، ناهيك عن حظر الأشخاص المشبوهين أو تغيير عناوينهن الإلكترونية عندما يتلقين رسائل تهديدية من أشخاص مجهولين"، بحسب محدّثتنا عبدو التي تابعت قائلة "لكن تلك الحلول الترقيعية كانت تسد -إلى حد ما- الباب أمام المستفيدين من إبقائنا في الزاوية المظلمة من الصورة".
لقد ساعد الإعلام الجديد بلا شك الصحفيات الأفريقيات في إيصال مشاكلهن الحساسة، كما خلقت النقاشات المهتمة بالحركة النسوية نسبة من الوعي، ترى كثير من الناشطات أنها لا تقدر بثمن أمام ما جنته الحركات النسوية الكلاسيكية.
"كنا نبث قصصنا تحت أسماء مستعارة في البداية".. وضّحت المدونة بيليندا أوتيس من جنوب أفريقيا.. "لكن الآن، يوجد الكثير من المدوِّنات اللاتي ينشرن على صفحاتهن الخاصة يومياتهن، ويتشاركن مع بقية النساء وجهات النظر.. ففي الماضي كان حديثنا عن التحرش يعد حديثاً محرماً".
بداية القصة
في مطلع العام 2011، أسس شباب نيجري متحمس -كان معظمه من النساء الناشطات- شبكة المهنيين للصحافة الإلكترونية (RPPNL)، قام بتدريبهم جين باتريك مدير ومؤسس أكواندا، وهي منظمة غير حكومية تعنى بالتعليم وحقوق الإنسان والإعلام الجديد. مريم عبدو التي كانت جزءا من تلك المجموعة، تخبرنا أنهم "كانوا قرابة 30 شخصاً أغلبهم نساء صحفيات وناشطات مهتمات، وقد قمنا في ورشة اليوم الأخير بتأسيس موقع إلكتروني (Nigerenligne.net)".
استطاعت شبكة المهنيين للصحافة الإلكترونية أن تحصل على ترخيص قانوني عام 2012، وبعد ذلك لم يعد يُسمع عن المجموعة أي خبر.. أغلِق الموقع وتفرق الجميع.
لم يكن فشل تجربة الشبكة بسبب محدودية فرص الوصول إلى التكنولوجيا، أو عدم القدرة على الاستفادة من وسائل الإعلام الاجتماعية، كما تشير أبحاث منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بل كان جلياً أن السبب يرجع إلى الرقابة المفروضة من الحكومة.. لكن عبدو تشدّد على إصرار الصحفيات النيجريات بالقول "أمامنا معركة كبيرة حتى نتحدث عن حرية الصحافة في النيجر.. لكن علينا مواصلة القتال حتى نيل مطالبنا".
المولود الجديد
ترى كثير من الصحفيات الإلكترونيات في أفريقيا أن عملهن جلب للقارة دعماً واهتماماً دولييْن.. "علينا أن نعترف بأن صوت المرأة أصبح أكثر وضوحاً من أي وقت مضى"، أكّدت المدونة أوتيس.
في العام 2015، أعلنت مؤسسة إعلام المرأة الدولية (IWMF) دعمها للصحفيات الأفريقيات في مناطق الحروب والصراعات، وكذلك المناطق التي تعاني من عدم استقرار سياسي. وقالت المنظمة إنها ستدرِّب الصحفيات وستزودهن بالمعدات اللازمة لتأمين وصولهن إلى الأماكن الخطرة لرصد الحدث، مشيرة إلى التزامها بخطتها حتى نهاية العام 2018. وقد شمل الدعم صحفيات أفريقيا الوسطى ورواندا وجنوب إفريقيا وتنزانيا.
وعن خدمة الفيديو في مواقع التواصل الاجتماعي، تحكي أوتيس: "أصبحتِ ترين تفاعل الجمهور العادي مع الحدث.. علينا ألا ننسى أن نساء الأرياف يفتقدن فرصة التعليم، لكنهن تحولن الآن إلى صحفيات بجدارة".
وكانت ورقة بحثية صادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قد أوصت بزيادة فرص وصول المرأة إلى التكنولوجيا، وتسهيل مشاركتها في وسائل الإعلام المختلفة.
كما أن قادة المؤتمر العالمي الرابع للمرأة المنعقد في بكين عام 1995، اتفقوا على ضرورة زيادة تمثيل المرأة في صنع القرارعلى جميع المستويات، وكذا تعزيز وجودها في وسائل الإعلام.. انتهى المؤتمر ليبدأ جيل المنصات الإلكترونية.
ليست النهاية
في إطار الاحتفال باليوم العالمي لحقوق المرأة، ضمت مدينة مراكش المغربية يوم 8 مارس/آذار 2017فعاليات المنتدى الأول للصحفيات الأفريقيات (Les Panafricaines)، الذي نظمته لجنة المناصفة والتنوع بالقناة الثانية وراديو دوزيم.
وسعى المنتدى الذي ضم تجمعاً نسائياً لـ27 دولة أفريقية، بينهن الصحفيات الإلكترونيات، إلى ربط الجسور بين مختلف وسائل الإعلام، عبر تسهيل تبادل الخبرات بين صحفيات التلفزة والإذاعة والجريدة والمجلة، وبين الصحفيات الإلكترونيات.
الصحافة النسوية الأفريقية في صور