في الحرب التي تشهدها اليمن منذ أكثر من أربعة أعوام، يدفع الصحفيون بشكل شبه يومي ثمناً باهظا يتنوّع بين التهديد والاعتداء بالضرب والاعتقال والخطف والتغييب القسري والسجن، والقتل (مصدر الفيديو)، والإعاقة الدائمة، وإغلاق المؤسسات والوسائل الإعلامية، وحجب المواقع الإلكترونية، وفقدان مصدر الدخل، ومداهمة المنازل، وتجميد الحسابات المصرفية، والتشريد داخل البلاد وخارجها.
بحسب الأرقام المتاحة وفق تقرير لمرصد الحريات الإعلامية "مرصدك" (1) حول الحريات الصحفية في اليمن، فإن 2041 انتهاكا تعرّض له الصحفيون اليمنيون في الفترة بين عامي 2015 و2018، قتل خلالها 43 صحفيا وشرد 176 آخرون خارج البلاد و78 داخلها، حسب تقرير (2) صادر عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، في حين يقبع في سجون الحوثيين منذ أربعة أعوام 15 صحفيا مهددا بأحكام الإعدام. كما يختطف تنظيم القاعدة الصحفي محمد المقري منذ أكتوبر/تشرين الأول 2015، ومصيره مجهول حتى الآن.
أما عدد الذين قتلوا بالقنص والاستهداف المباشر فقد بلغ عشرة صحفيين، وفقاً لتقريريْ الإجهاز على الشهود (3)، وثمن الخذلان (4) الصادرين عن المنظمة الوطنية للإعلاميين اليمنيين "صدى"، بينما تعرّض 33 صحفيا للإصابة بجروح دامية، نصفهم أصيب بقص القذائف المدفعية، والنصف الآخر بالرصاص الحي.
مؤشر وتساؤلات
كانت المعطيات التي ذكرناها كفيلة بأن يكون اليمن في المرتبة 168 ضمن مؤشر (5) حرية الصحافة الصادر عن مؤسسة "مراسلون بلا حدود" في أبريل/نيسان الماضي.
وعلى الرغم من أن استهداف العاملين في المجال الإعلامي في مناطق النزاع مخالف للقانون الدولي، فإن المتابع للمشهد الصحفي في اليمن، سيجد أن مجموعة كبيرة من الصحفيين يذهبون إلى جبهات القتال المشتعلة دون الاستعانة بأدوات الحماية الجسدية وتتبع وسائل السلامة المهنية، وهو ما تسبب في مقتل بعضهم وإصابة البعض بإعاقات دائمة.
وهذا ما يدفع إلى التساؤل عما يدفع هؤلاء الصحفيين للمخاطرة بحياتهم؟ وما مسؤولية المؤسسات الإعلامية إزاء ذلك؟ وما واجباتها في حال تعرض صحفييها لمكروه؟
قبل الإجابة على هذه التساؤلات، نستعرض أنواع الصحفيين والإعلاميين في الحرب اليمنية، إذ هناك الصحفيون المستقلون، ومراسلو وسائل الإعلام المحلية والدولية، وهناك صحفيو ما يعرف بالإعلام الحربي التابع للمليشيات، أو الإعلام العسكري التابع للجيش النظامي. وفي الحقيقة، فإن هناك خلطا -بجهل تارة وتعمد تارة أخرى- عند تناول وضع الصحفيين سواء العاملين لمصلحة مؤسسات إعلامية أو لجهات عسكرية.
دوافع ذاتية
يتفق الصحفيان اليمنيان وليد الجعوري وماجد الغولي على أن الصحفيين يقومون بالتغطية الإعلامية لإيمانهم بالقضية التي يحملونها، على الرغم من أنها تهدد سلامتهم الجسدية لعدم توفر وسائل السلامة والحماية، بحسب الغولي الذي يعمل مراسلا لقناة "اليمن" الحكومية التي تبث من الرياض، مضيفا "عملت بجهود شخصية ومن دون وسائل السلامة المهنية لكوني أعمل في مؤسسة لا تحترم نفسها، مستغلة دافعي الذاتي لمناصرة القضية الوطنية".
بدوره، يُحمّل الجعوري الصحفيين بدرجة أولى مسؤولية ذهابهم إلى خطوط النار من دون ارتداء أدوات الحماية واتباع وسائل السلامة، ويقول لمجلة "الصحافة" إن "من يتحمل ذهاب الصحفي إلى خطوط النار بدون وسائل السلامة هو الصحفي نفسه.. هناك روح المغامرة موجودة لدى البعض، ولا توجد ضغوط تمارس عليه للذهاب إلى تلك المناطق".
ومع ذلك، يؤكد الجعوري أن القنوات لا توفر لصحفييها ومصوريها أي وسائل سلامة، لاسيما أن لدى هؤلاء الصحفيين رغبة في نقل أخبار المعارك من خطوطها الأمامية وتصوير مواد مهمة.
إصابات وخذلان
تعرّض ماجد الغولي للإصابة بشظية في قدمه اليمنى قبل ثمانية أشهر أثناء تغطيته للمعارك في مثلث "عاهم" بمحافظة حجة غربي اليمن إثر انفجار عبوة ناسفة قريبا منه، لكن ذلك لم يمنعه من استئناف عمله، لينجو مرة أخرى من رصاص القناصة.
ووفقا لحديث الغولي لمجلة "الصحافة"، فإن مغامرته وتضحياته لم تدفع القناة إلى توفير وسائل السلامة، ولم يحصل على أي دورة حول السلامة المهنية في مناطق النزاع، بل انتهى الأمر بتوقيفه عن العمل من قبل مدير القناة دون دفع مستحقاته.
كما نجا وليد الجعوري من أكثر من حادثة قصف مباشر، إلا أنه أصيب بقذيفة في منطقة "قانية" بمحافظة البيضاء وسط اليمن، سببت فقدانه للسمع بأذنه اليسرى، في حين قتل زميله عبد الله القادري وأصيب زميله الآخر أديب الشاطري بإصابات بليغة أثناء عمله على مقابلة لصالح قناة "يمن شباب" الفضائية مع قائد عسكري في الجيش اليمني.
ولا يتوقف الضرر عند الإصابة الجسدية، فهناك صحفيون تعرضوا لضغوط نفسية بعدما شهدوا على حوادث إطلاق نار أو قصف جوي أو انفجار ألغام أرضية.
ويشكو الجعوري خذلان المؤسسات الإعلامية لمنتسبيها الذين يتعرضون لإصابات، قائلا إن "المؤسسات الإعلامية غير معنية بالجوانب الأخلاقية، إذ لا تساعد ولا تدعم الصحفيين الذين يتعرضون لإصابة تمنعهم عن العمل، بل توقف عنهم عائداتهم المالية".
الإعلام الدولي
بدوره يؤكد زميل للجعوري يعمل لقناة أجنبية -تحفّظ على ذكر اسمه- أن قناته عادة ما تطالبه بمواد جديدة وقوية، لكنه يضطر للقيام بمهمات خطيرة لأنه يحاسَب بالقطعة.
ويرى الغولي والجعوري أن هناك فرقا بين العمل للمؤسسات الدولية وبين تلك المحلية، فالأولى لا يدخل مراسلوها مناطق الاشتباكات إلا بأدوات السلامة، بينما لا توفر القنوات المحلية لمراسليها أي شيء من مستلزمات الحماية.
النقابة والمنظمات
ويستنكر الجعوري موقف نقابة الصحفيين اليمنيين التي لم تصدر بيانا تضامنيا معه بعد إيقافه عن العمل. وفي حين "يُجمع الصحفيون في اليمن على الدور الضعيف لنقابتهم، تنظم بعض المنظمات دورات لسلامة الصحفيين، لكنها تبقى محدودة لأنها تتركز في المحافظات التي لا تشهد اشتباكات مسلحة".
كما أن هناك غيابا للمواقف المسؤولة من قبل جميع الأطراف والمؤسسات المعنية إزاء التحريض الممنهج والمستمر ضد الصحفيين في وسائل الإعلام الممثلة لأطراف الحرب، أو من قبل نشطاء الحرب على منصات التواصل.
ووفقا للجعوري، فإن الاستفادة تتم من العمل والتجارب وإرشادات العسكريين الذين يعطونهم تعليمات للدخول والخروج والانسحاب في حال الخطر. لذلك ينصح زميله الغولي الصحفيين بتجنب أماكن الخطر لأن المطلوب منهم نقل الحدث لا أن يصبحوا هم مادته.
واجبات المؤسسات
وبالانتقال إلى واجبات المؤسسات الإعلامية في حماية صحفييها، يؤكد مدير قناة "بلقيس" اليمنية أحمد الزرقة أن القناة حرصت منذ اللحظة الأولى على تزويد مراسليها بمعدات الأمن والسلامة، ومنها الخوذات والدروع، بالإضافة إلى كتيب تعليمات السلامة.
وأوضح الزرقة لمجلة "الصحافة" أنهم ينبهون المراسلين على عدم الذهاب إلى الخطوط الأمامية أو مرافقة الأطقم العسكرية أو الجماعات المسلحة باعتبار ذلك خطرًا على حياتهم، وهذا جزء من مسؤوليتهم الأخلاقية، بحسبه.
ويرى أن سلامة الصحفيين عملية مشتركة بين المؤسسات والصحفيين في الميدان، مشيرًا إلى أن الصحفي يسعى أحيانا للحصول على سبق صحفي على حساب سلامته وأمنه.
كما لا يستبعد الزرقة وجود ضغوط من المؤسسات بضرورة الذهاب إلى الخطوط الأمامية والبحث عن صور خاصة أو تقارير خاصة ومرافقة للقوات العسكرية، وهذا يعود إلى عدم إدراك القائمين على المؤسسات أن سلامة الصحفي أهم من الحصول على السبق.
مسؤولية وميثاق شرف
وفي كل الحالات، يقول مدير قناة "بلقيس" إن وسائل الإعلام تتحمل مسؤولية أساسية تجاه صحفييها نظراً لأنها في أغلبها لا تقدم وسائل السلامة ولا توقع عقودا معهم تكفل دفع مستحقاتهم وعلاجهم في حال إصابتهم.
ويضيف "تتمثل هذه المسؤولية في تحمل تبعات تعرّض طواقمها وأفرادها للخطر، وتأمين حصولهم على العلاج وعلى مرتبات ضمان نهاية خدمة لأسرهم وأقاربهم".
ويدعو الزرقة إلى كتابة ميثاق شرف يلزم القنوات والمؤسسات التي يصاب مراسلوها في الميدان بتحمل نفقات العلاج، ومنحهم مرتبات أثناء العلاج، ورعاية أسرهم بعد ذلك.
وتتجلى أهمية وضع هذا الميثاق في ظل غياب الجهات الرقابية على وسائل الإعلام اليمنية وسط حالة الانقسام والحرب وغياب المؤسسات التي تشهدها البلاد. ففي تونس مثلا، أصدرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري في مايو/أيار 2016 وثيقة (6) توجيهية حول التغطية الإعلامية خلال فترة الأزمات، تضمنت إجراءات السلامة المهنية.
نموذج مسؤول
وحمّلت الوثيقة التونسية المؤسسات الإعلامية مسؤولية السلامة الجسدية للصحفي وألزمتها باتخاذ الإجراءات والاحتياطات اللازمة لحمايته أثناء متابعته لعمله في المناطق الخطرة، واعتبرت أن الرئيس المباشر معنيّ بالمتابعة المستمرة للصحفي وتحديد موقعه ضمانا لسرعة التحرك في حال تعرضه للإصابة أو الاختفاء.
وقبل ذلك، فإن من واجبات المؤسسة الإعلامية تدريب الصحفي على كيفية العمل في البيئة العدائية، بما في ذلك الإسعافات الأولية، وتزويده بأدوات السلامة ووسائل الاتصال في المناطق التي لا تغطيها شبكات الهاتف الجوال، فضلا عن تدريبه على الحماية المعلوماتية.
كما أن المؤسسة الإعلامية ملزمة بالمتابعة الطبية والنفسية للمراسل في حال تعرضه لأي هزة نفسية أو أحداث عنف.
توظيف سياسي
لم تغيّر كل الحوادث الذي تعرّض لها الصحفيون خلال السنوات الأربع للحرب شيئًا، فلا يزال الصحفيون -المستقلون تحديدا- يعملون في المناطق الخطيرة بدون أبسط وسائل الحماية.
وكل ما يجدونه بعد هذه المغامرات هو التضامن معهم باعتبارهم ضحايا، وذلك من خلال الوقفات الاحتجاجية المحلية أو الدولية، وتقارير الانتهاكات ضد الصحفيين، أو من خلال تقرير أو خبر في وسائل الإعلام ومنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي. كما أن تضحيات البعض يتم توظيفها من قبل مؤسساتهم الإعلامية سياسيًّا بدون تقديم أي تعويض.
وعلى الرغم من أن الصحفي يتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية حماية نفسه، فإن المؤسسات الإعلامية يجب عليها أن تحرص على سلامة مراسليها. كما أن من واجب نقابة الصحفيين والمنظمات والجهات الحكومية المعنية أن تضغط لتحسين بيئة عمل الصحفيين، خصوصًا في مناطق الاشتباكات.
مصادر
1- تقرير الحريات الصحفية (2015 - 2018)، مرصد الحريات الإعلامية (مرصدك)، 2018.
2- الصحفيون اليمنيون.. ثلاثة أعوام من التشرد، تقرير، مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مايو/أيار 2018.
3- الإجهاز على الشهود، تقرير واقع الصحافة في اليمن 2018، المنظمة الوطنية للإعلاميين اليمنيين، أبريل/نيسان 2019.
4- ثمن الخذلان، تقرير واقع الصحافة في اليمن (2015 -2017)، المنظمة الوطنية للإعلاميين اليمنيين، يناير/كانون الثاني 2018.
5- مؤشر حرية الصحافة الصادر عن مؤسسة "صحفيون بلا حدود" (https://rsf.org/ar/lymn)، أبريل/نيسان 2019.
6- وثيقة توجيهية حول التغطية الإعلامية خلال فترة الأزمات.. الأحداث الإرهابية نموذجا، الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، تونس، مايو/أيار 2016.
هوامش
لحظة مقتل مصور قناة "اليمن" أحمد الشيباني
https://www.youtube.com/watch?v=hkCk35nCVk4
لحظة استهداف صحفيي قناة "يمن شباب" في منطقة قانية بمحافظة البيضاء (https://www.youtube.com/watch?v=1AFTpmEcp0I)