عندما كان الاستعمار الفرنسي يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، كان المثقف الكبير فرانز فانون الذي قاتل مع الجيش الفرنسي ضد هتلر، يدافع عن استقلال الجزائر وتحررها، وكان منزل جون بول سارتر في باريس يتعرض للحرق من طرف منظمة سرية مسلحة فقط لأنه فضح "فظاعات بلده" في بلد المليون شهيد. أما اليوم فقد انبرى إيريك زمور، الكاتب الجزائري الأصل ليقول في برنامج مباشر على قناة CNews الفرنسية إن المارشال بيجو قائد الحملة الكولونيالية كان على حق عندما ارتكب مجازر ضد الجزائريين.
المجلس الأعلى للسمعي البصري وجه إنذاراً للقناة لأنها تحضّ على العنف والقتل والكراهية، لكن شبكة "Canal +"، دافعت عن إيريك زمور الذي يحمل أكثر الأفكار اليمينية تطرفاً ضد المسلمين والمهاجرين، وصلت حد وصفهم بالغزاة والمستعمرين المهددين لأركان الجمهورية الفرنسية.
وبالرغم من أن الرجل سبق له أن أدين من القضاء الفرنسي بنفس صك الاتهام، إلا أنه ظل زبونا يغري القنوات الفرنسية الباحثة عن الإثارة، مما دفع بصحافيي "لوفيغارو Le Figaro، إحدى أعرق الصحف الفرنسية، إلى كتابة رسالة إلى مالكيها: "إنه ينفث خطاب الكراهية ولا يشرف أن يكون كاتبا بيننا".
وقد حرك صدى رسالة "لوفيغارو" صحافيي القناة التي يشتغل فيها زمور المطرود في وقت سابق من إذاعة (أرتي ARTE) رافضين بَثَّ البرنامج المباشر الذي يشارك فيه. لكن المفارقة أنه حيثما ذهب إيريك، يجد دعم المالكين ورفض الصحافيين، وهذه الفكرة تحديدا ترشَحُ من شعارات اليمين، المعلَن منها والخفي: "أن ينتصر المال والشعبوية والتطرف على المهنية والمصداقية".
ضد الصحافة ومع الكراهية
هناك مشهدان متناقضان يختصران أزمة التمييز والكراهية ضد المهاجرين والمسلمين في أوروبا: الصحافة الهولندية والعالمية تحتفي بتوقف مباراة من الدوري الهولندي دقيقة واحدة تنديدا بالعنصرية في الملاعب، ثم مشهد إيريك زمور، الكاتب اليهودي الجزائري، الذي يشتم المسلمين على قنوات التلفزيون ويعتبرهم خطرا استعماريا يتهدد قيم الجمهورية الفرنسية، ويرى في المهاجرين، عموما، خطرا داهما قد يدمر مستقبل أجيالها.
إن قضية إيريك زمور، التي تحتل اليوم مساحة كبيرة من الجدل الإعلامي بفرنسا، لا تتعلق فقط بتصريحات وجه تلفزيوني معروف، بقدر ما تتعلق بتفشي خطاب الكراهية والتمييز، الذي يغذيه اليمين المتطرف، على وسائل الإعلام العمومية وغير العمومية.
وبلغت الكراهية ذروتها، بتسويق خطاب التمييز بين العرق الأبيض والأسود، والدفاع عن طرد المهاجرين وعدم قبول الأسماء العربية والإسلامية التي لا تنتمي إلى تاريخ فرنسا، وطرد سكان الضواحي. وواضح أن الضغط الشعبي المدعوم من مثقفين فرنسيين، لم يعد كافيا وحده، أمام سطوة المتحكمين في رأسمال، فاقتصرت القناة المحتضنة لزمور على تقديم نصف اعتذار، مقابل دعم كلي أمام المجلس الأعلى للسمعي البصري، لتصبح الدعوة للقتل وتمجيده مجرد وجهة نظر تنتمي إلى باب حرية التعبير.
ومع ارتفاع حدة الانتقادات، سحبت كل من شركتي BMW و "Nutella" إعلاناتها المصاحبة للبرنامج الذي يقدمه إيريك زمور، إثر حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة على تويتر وفيسبوك، كما دفعت الحملة نفسها معلنين كبارا إلى إعلان استهجانهم لتصريحاته، وباتت القناة بين كماشة المجلس الأعلى للسمعي البصري وبين انسحاب المعلنين من دعم برنامج "Face à l'Info ".
"ذَبَحَ الصحافة" و"حرض على الكراهية والعنصرية ضد المسلمين والمهاجرين"، كانت صرخة الصحافيين في قاعة تحرير القناة التي تمسكت من جديد بزمور، الذي أصبح أيقونة لليمين المتمثل لقيم معاداة المهاجرين المسلمين على وجه التحديد. إن هذه السياسة تضرب قيم القناة المحسوبة على المجموعة الإعلامية الضخمة "كنال بلوس"، التي أصبحت منذ سنة 2007 في ملكية رجل الأعمال "فانسون بولوري"، المقرب من، الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي.
لقد تبنى الخط التحريري المنحرف جهة اليمين، والذي كان موضع احتجاج من طرف 35 صحافيا، من المدافعين عن القيم الاجتماعية للثورة الفرنسية، أفكار زمور واحتضنها. وكما كان متوقعا دشن البرنامج حلقاته بنبرة هجومية ضد المسلمين. فكانت الحلقة الأولى عن قضية الخمار والحجاب، ثم خصصت الحلقة الثانية لمعاداة السامية وانتشارها في الضواحي وربط ذلك بالجالية المسلمة، ثم توقف طويلا عند ما زعم أنه تيار كبير للإخوان المسلمين بفرنسا قبل أن يتجاوز في إحدى حلقاته الهجوم على المسلمين إلى تبرير ما قام به المارشال بيجو عام 1840 عندما أباد آلاف الجزائريين.
عنصرية على المباشر
في تجمع لليمين المتطرف، ألقى إيريك زمور خطابا مليئا بالأحقاد ضد المسلمين، داعيا إلى إحياء فرنسا المسيحية ومواجهة الاحتلال الإسلامي، لكن قناة "إل سي أي" وهي قناة إخبارية تابعة للقناة الشهيرة TF1 بثت كلمته مباشرة على الهواء بدون أدنى رقابة على عبارات الكراهية والتمييز والعنصرية، وهو الأمر الذي دفع جريدة لوموند، إلى مهاجمتها بلغة حادة. كتبت LE MONDE " لوموند" أن فتح المباشر أمام خطابات عنصرية تحض على العنف والكراهية، ليس عملا صحافيا و"ينبغي على الإعلام أن يقاطع هذا الشخص"
ياسين بلعطار، المذيع والكوميدي في القناة نفسها، قدم استقالته مباشرة بعد أن أصبح المباشر مشرعا أمام زمور، وقال إنه لن يقبل هذا الخطاب المخزي، وأن الفرق كبير بين "حرية التعبير" وبين "حرية الاستفزاز". ولم يكن الصحافيون المسلمون وحدهم من واجهوا "حرية الاستفزاز"، بل إن جمعية الصحافيين داخل جريدة لوفيغارو، اعتبرت زمور مجرد "رجل يحب البوليميك (الجدل)، ويشكل خطرا على التنوع الثقافي والديني بفرنسا، ويؤرخ لمرحلة خطيرة من العنصرية".
وتاريخ زمور مع العنصرية في وسائل الإعلام حافل وطويل، فقد سبق له أن تسبب في انقسام حاد في المجتمع الفرنسي عندما قال للصحافية الفرنسية من أصول سنغالية "حفصتو سي" إن اسمها يمثل إهانة حقيقية لفرنسا، فانتفضت في وجهه ووجدت إلى جانبها جزء كبيرا من الصحافيين الفرنسيين الذين قادوا عريضة لطرده من التلفزيون.
وقتها نهضت المقارنة لتفضح سياسة الكيل بمكيالين، حيث منعت جميع القنوات التلفزيونية الفرنسية، الممثل الكوميدي ديودونييه من الظهور بدعوى استخدام عبارات مسيئة لليهود، كما منعته صالات العرض، ولو كانت صغيرة، من الظهور منذ أن صدر الحكم القضائي ضده.
سخر ديودونييه من جميع الديانات، لكنه في لحظة اختصر مأساة الأديان، في تحالف الصهيونية مع الرأسمال، وقلد في إحدى لقطاته الكوميدية مستوطنا إسرائيليا، وهو ما بدا معاداة للسامية في تقدير الحكومة الفرنسية. وهنا لن ينفع لا المُلاك ولا جماعة اليمين. يومها، أدان وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس الممثل الكوميدي حتى قبل أن تدينه المحكمة الإدارية للدولة ومنعته من دخول التلفزيون ومن تقديم عروضه في كل أرجاء فرنسا.
توبيخ من دون أثر كبير
عندما تقاطرت على المجلس الأعلى للسمعي البصري، الهيئة المكلفة بمراقبة المعايير المهنية، أكثر من 4000 مراسلة من المواطنين، اضطر إلى توجيه إنذار للقناة بضرورة احترام التزاماتها وعدم التحريض على الكراهية والعنف والعنصرية. ورأى المجلس في كلام زمور على التلفزيون يفهم منه أنه تشريع للعنف ضد المسلمين، مستغربا كيف أن مقدم البرنامج بقي محايدا دون أن يتدخل للتخفيف من تصريحاته، وجعلها متوازنة على الأقل، ليظهر التحريض على العنف والقتل أمرا مقبولا وليس منافيا للقانون وللضوابط المهنية.
وفي تشريع المجلس، يعتبر الإنذار توبيخا رسميا يليه منع البرنامج أو تجفيف منابع الإشهار في حال تكررت الخطابات العنصرية، وقد يفضي ذلك إلى سحب رخصة القناة بشكل نهائي. لكن "كنال بلوس" وجهت بالمقابل طعنا إلى المجلس قالت فيه إن تصريحات زمور تدخل في باب حرية التعبير وأن إنذاراته تشكل نوعا من التضييق على حريات التعبير.
إن إيريك زمور، ليس حالة معزولة، لترويج خطاب الكراهية ضد المسلمين والمهاجرين بتحريض مباشر من الأحزاب والمنظمات اليمينية المتطرفة، بل إنه ينتمي لموضة اعتنقها صحافيون ومثقفون وفنانون مغاربيون، في انسجام تامّ مع خطاب اليمين. ولم يكن لهذا الخطاب أن يزدهر لولا أن الإعلام الفرنسي وفر له البيئة والوسائل، وفتح قنواته وجرائده لأصوات تناصر الكراهية بشكل انتقائي، متحدية القضاء والأصوات الحرة لصحافيين آخرين.
رحل جون بول سارتر، رائد الفلسفة الوجودية، لكن مقولته عن دور الإعلام الفرنسي في تجميل فظاعات الاستعمار لا تزال حية تفسر قصة أمثال إيريك زمور مع الصحافة. وكان سارتر كتب في مجلة الأزمنة الحديثة Les temps modernes: "الإعلام يكذب علينا بالخداع، والتزييف، والدعاية، وجريمتهم الوحيدة والمريعة أنهم بارعون في التضليل والتركيز على تصوير الآخرين مثل "أوباش".
* الصورة: تشارلز بلاتيو - رويترز