صحافة ”بائعي المطاط“ بالمكسيك.. قصص الموتى أم الأحياء؟

لماذا لم يقتلوك؟ هكذا سألني كارلوس سانشيس، مراسل صحيفة إيرموسيو، في مدينة سينالوا شمال شرق المكسيك.

لا أذكر بم أجبته وإن كنت أبتسم عادة إذا ما طرح عليّ أحدهم هذا السؤال، فهو نفس السؤال الذي أطرحه على نفسي وأتبعه بضحكة متوترة.

فالصحافة في سينالوا ليست بالأمر السهل. أرض تلك المدينة مفروشة بسكاكين مشحوذة جاهزة في أي لحظة ولغايات كثيرة من أطراف عدة، سيما وأنها مسقط رأس أخطر عصابات البلاد وحاضنة تهريب المخدرات، بل إن عمر تجارة المخدرات وتهريبها في سينالوا وانتشار المجرمين بها وزراعة الماريغوانا والخشخاش يمتدون لأكثر من مائة عام.

كانت الأمور أكثر هدوءا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. إذ رسم أهالي بلدية كوليشي خطُّا فاصلا بينهم وبين من أطلقوا عليهم "بائعي المطاط" أي مهربي المخدرات، لأنهم كانوا يزرعون الخشخاش ويعالجون المادة المطاطية في الأفيون التي يحصلون عليها من بصلات تلك الزهرة للحصول على الهيروين. وفي مناسباتهم الاحتفالية أو أعيادهم، لم يكن أهالي تلك البلدة يدعون هؤلاء الأشخاص للمشاركة معهم، بل كانوا يتهامسون فيما بينهم عن "بائعي المطاط" وخطورتهم. وكانت العائلات تستبعد من أحضانها الأفراد المجرمين، والآباء يحذرون أبناءهم من الاحتكاك بهم أو التعامل معهم أو حتى مصادقتهم. وكان من الواضح انقسام المدينة بين أهالي مسالمين وأفراد مجرمين.. هم ونحن.. لا يتبادلون حتى التحيات حتى نجحت المدينة –لفترة مؤقتة- على الحفاظ على وسطٍ صحيّ آمن.

بيد أن تلك التجارة كبرت وتضاعفت وأغوت لاحقا الكثير من الشبان والأطفال وأرباب الأسر، فقد كان من الصعب الاستمرار في هذا الفصل مع التحاق الكثير من أفراد العائلات بتلك الأعمال غير المشروعة، ثم سيطر زعماء المخدرات الكبار التاريخيون على مدينة سينالوا مثل إسماعيل سامباذا غارسيا، أو "إلمايو" و"إلتشابو" وباتت لهم جيوش مسلحة وتابعون.

ولأنها انتشرت في المدينة وبين الأهالي، فقد كان وحّدهم الشعور بالانتماء لبعضهم البعض للوقوف ضد الحكومة والمنظمات الإجرامية الأخرى.

وبسبب التورط الحكومي أيضا، فمعظم الجناة كانوا محميين بل كان الأهالي يشهدون جريمة قتل يدور مرتكبها في الحي مزهوا دون عقاب.

تزايدت حالات القتل حتى وصلت لنحو 7500 جريمة في السنوات الخمس الأخيرة التي حكم فيها تلك الولاية ماريو لوبيس بالديس. وبات من الواضح أن تلك التجارة محمية من السلطة، ازداد الغنى وزاد العنف، وخصوصا من قبل عصابات أخرى كعصابة الأخوين بيلتران ليفا.

90% من عمليات القتل هذه كانت خلال صراعات بين العصابات أنفسهم في سوق المخدرات، من بينهم 60 امرأة إضافة لـ 2300 مفقود لا يبحث عنهم سوى أقاربهم.

أفلتت تلك الجرائم من العقاب، وباتت المدينة كالرمال المتحركة التي يصعب على الصحفيين السير فيها.

ولم يكن دورنا كصحفيين متخصصين يكتمل في تغطية هذا النوع من الأخبار بالكشف فقط عن جرائم العصابات بل أيضا عن دور الحكومة ورجال الأعمال في التستر عليهم وحمايتهم. وأبعد من ذلك الحديث عن قصص تلك المجتمعات المهزومة التي اعتادت على تجارة المخدرات، وصار انتظار الموت بالنسبة لها أمرا اعتياديا.

إسماعيل بوخوركيس، مدير تحرير صحيفة "ريودوسي"  المعروفة بنشرها معلومات كثيرة وموثوقة عن تهريب المخدرات، يقول" إن ما لا تنشره الصحيفة لهو أكثر عنفا مما تنشره، بل يصل ما ننشره لـ70% مما نعرف.. بل مما نحن متأكدون منه.. لا نستطيع كتابة كل ما نعرف".

أثارت تلك الصحيفة مخاوف الناس نظرا للحقائق المروعة التي كانت تنشرها، وقد حققت نجاحا قوميا ودوليا وحازت جائزة مورس كابوت 2011 التي تمنحها جامعة كولومبيا بنيويورك ونادي "إل بي إي إن" بفضل سياستها التحريرية المتميزة عام 2012.

مع هذا، فقد كانت هذه الصحيفة أشبه بقارب ورقي يغرق أحيانا، وأحيانا يصل لبر الأمان وأخرى يبدو تائها وسط الانتقاد والمحاربة في ظل غياب الحس الوطني والنقد الشجاع في سينالوا والمكسيك.

لويس فيورو، الصحفي والكاتب المكسيكي الحاصل على جوائز دولية ومحلية قال خلال حديثه عن نفس الصحيفة (ريودوسو)، "لا بد أن نروي قصصا من الحياة وسط الموت.. وسائل إعلام أخرى تحصي عدد الأموات سنويا.. آخرون -ومنهم نحن- اخترنا القصص.. نتحدث عن أسماء وعائلات الضحايا..  وأيضا عن الجناة.. عن المجتمع وعن الفقر ونقص الفرص واليأس والنضال ضد هذا كله.. عن كتابة قصص الأحياء، عن الطلقات الضائعة التي أخطأت أهدافها، عن الجدران المليئة بالثقوب.. عن الأطفال الأيتام و"متتبعي الأثر" الذين يبحثون عن مقابر سرية لأفراد عائلاتهم المتوفين وعن جثثهم في أعماق الموت، لأن الحكومة لا تبحث عن المفقودين ولا تحقق بقضيتهم بل إنها حتى لا تعاقب".

لماذا لم يقتلوك؟ لا أعرف. والحقيقة لا أريد أن أسأل. بل أفضل أن أحقن نفسي بجرعات من الأمل والنسيان لهذا الواقع الذي اخترت أن أغطيه.

 

المزيد من المقالات

صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

مع دخول الحرب على غزة عامها الثاني.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024
في تغطية الحرب على غزة.. صحفية وأُمًّا ونازحة

كيف يمكن أن تكوني أما وصحفية ونازحة وزوجة لصحفي في نفس الوقت؟ ما الذي يهم أكثر: توفير الغذاء للولد الجائع أم توفير تغطية مهنية عن حرب الإبادة الجماعية؟ الصحفية مرح الوادية تروي قصتها مع الطفل، النزوح، الهواجس النفسية، والصراع المستمر لإيجاد مكان آمن في قطاع غير آمن.

مرح الوادية نشرت في: 20 مايو, 2024
كيف أصبحت "خبرا" في سجون الاحتلال؟

عادة ما يحذر الصحفيون الذين يغطون الحروب والصراعات من أن يصبحوا هم "الخبر"، لكن في فلسطين انهارت كل إجراءات السلامة، ليجد الصحفي ضياء كحلوت نفسه معتقلا في سجون الاحتلال يواجه التعذيب بتهمة واضحة: ممارسة الصحافة.

ضياء الكحلوت نشرت في: 15 مايو, 2024
"ما زلنا على قيد التغطية"

أصبحت فكرة استهداف الصحفيين من طرف الاحتلال متجاوزة، لينتقل إلى مرحلة قتل عائلاتهم وتخويفها. هشام زقوت، مراسل الجزيرة بغزة، يحكي عن تجربته في تغطية حرب الإبادة الجماعية والبحث عن التوازن الصعب بين حق العائلة وواجب المهنة.

هشام زقوت نشرت في: 12 مايو, 2024
آليات الإعلام البريطاني السائد في تأطير الحرب الإسرائيلية على غزّة

كيف استخدم الإعلام البريطاني السائد إستراتيجيات التأطير لتكوين الرأي العام بشأن مجريات الحرب على غزّة وما الذي يكشفه تقرير مركز الرقابة على الإعلام عن تبعات ذلك وتأثيره على شكل الرواية؟

مجلة الصحافة نشرت في: 19 مارس, 2024