لم يثر اختصاص ماجستير الصحافة الصحية والبيئية، الذي استحدثته عمادة كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية عام 2015 سوى اهتمام أحد عشر طالباً. بعضهم خبر العمل في البرامج الصحية التلفزيونية، أما البعض الآخر فلا يملك تفاصيل كافية عنه. والحقيقة أننا كنا نحاول البحث عن أجوبة شافية لتساؤلاتنا إزاء مستقبل هذا التخصص، خاصة أن المساحة الأكبر في وسائل الإعلام العربية محجوزة للبرامج السياسية والفنية والرياضية، ولا تعير أهمية لوجود صحافيين متخصصين في المجالين الصحي والبيئي.
الغياب الواضح للصحافة الصحية تحديداً، بدا جليا مع تفشي فيروس "كوفيد - 19"، الذي وإن أخذ طابعا سياسياً في البدء، إلا أن وسائل الإعلام أعلنت حال الطوارئ، مستعينة بكمّ هائل من الأخبار التي أوقعتها في شرك المعلومات المغلوطة.
فمن منا لم يقرأ أو يشاهد التقارير التي ذكرت أن مصدر فيروس "كوفيد ـ 19" هو خفاش؟ مع العلم أن منظمة الصحة العالمية أكدت مراراً وتكراراً أن مصدر الفيروس غير معروف حتى الآن. مثالٌ آخر يعكس حالة التخبط والارتباك التي أصابت وسائل الإعلام، وهي عدم قدرة بعض الصحافيين على استخدام المصطلحات الطبية أو تمييزها، فوقع بعضهم في خطأ التمييز بين العلاج واللقاح، ناهيك عن كثرة الأجوبة العشوائية لبعض المراسلين ودخولهم في تفاصيل لا جدوى منها، والغرق في التخمينات بدل عرض الحقائق بشكل مهني. فما الفائدة من ذكر أسماء المصابين بالفيروس أو المتوفين سوى إلحاق الضرر المعنوي بالمريض وعائلته؟
وفي ظل البحث عن المعلومات لسدّ النقص الحاصل في مجال الفيروسات والأوبئة، غرقت وسائل الإعلام العربية في استضافة أطباء من تخصصات مختلفة، ما أثار موجة من المعلومات المتضاربة، بفعل غياب الكادر الصحافي المتخصص بالشؤون الصحية والذي بمقدوره استقاء المعلومات من مصادر موثوقة ودحض الشائعات، إذ أن الصحافي المتخصص في الصحافة الصحية يتمتع بثقافة ومعلومات علمية دقيقة، تُمكنه من تأْديةِ عمله بموضوعية ومَسؤولية مطلقة، بعيدا عن الانحياز وتجاهُل الواقع.
تغييب الصحافة الصحية
وعلى الرغم من الجهد الذي تبذله وسائل الإعلام العربية في نشر الثقافة الصحية المطلوبة للوقاية من فيروس "كوفيد – 19"، إلا أن الكثير منها ألقت باللوم على المواطن وحمّلته المسؤولية، متناسية تجاهلها لفترات طويلة ضرورة وجود الصحافة الصحية لتجنب الشطط الحاصل والكوارث التي يخلفها الجهل الصحي. وخير دليل على ذلك، تداول الشائعات حول الفيروس وطرق علاجه والوقاية منه كاستخدام بعض الأعشاب أو الاستخفاف بالطرق الوقائية على اعتبار أن الفيروس "كذبة"، والهدف منها تسويق لبعض الأدوات والمختبرات الطبية. الثقافة والوعي الصحي مسألة تراكمية، لا يمكن أن تتحقق بين ليلة وضحاها، وهي تتطلب أبعد من فقرة صحية مقتضبة في برنامج صباحي أو برنامج صحي، مقتصر على تعريف الأمراض وأسبابها وطرق علاجها.
لا يمكن إنكار الأهمية الصحية لهذه البرامج، لكن وسائل الإعلام بحاجة إلى التعمق في تغطية الأخبار الصحية ومواكبتها. وقد اختبرت الاستخفاف بالصحافة الصحية عن قرب من خلال تجربتي المتواضعة في هذا المجال، أولها استهجان البعض من دخولي تخصص الصحافة الصحية واعتباره مغامرة ومضيعة للوقت، ذلك أن وسائل الاعلام تعيش في أزمات متلاحقة، وثانيها عدم تجاوب وسائل الاعلام في دعم الصحافة الصحية.
وبعد دراستي للبرامج الصحية التلفزيونية، تبين لي أن بعض البرامج تعمد إلى تغطية القضايا الصحية بأسلوب سطحي، ينعدم فيه البحث والتحليل وتندر فيها الدراسات الحديثة، كما بدا واضحاً غياب الدعم عن هذه البرامج، وهو ما أكدته منتجة أحد البرامج الصحية، عن أن القنوات التلفزيونية لا ترصد ميزانية خاصة لمثل هذا النوع من البرامج، فيما المنافسة تنحصر في البرامج السياسية أو في برامج الترفية والتسلية، التي يطلبها الجمهور والذي يغيب عن باله أهمية الصحافة الصحية.
ضوء في آخر النفق
إن المتابع لوسائل الاعلام العربية يدرك أن القضايا الصحية تأتي غالباً في أدنى اهتمامات هذه الوسائل، إلا أن جائحة "كوفيد -19" التي شغلت العالم بأسره، استطاعت خلق حاجة جديدة وما على وسائل الاعلام سوى تلبيتها.
إزاء هذا الواقع بات لزاماً على وسائل الإعلام العربية إعادة الاعتبار إلى الصحافة الصحية وتجنيد صحافيين متخصصين، على غرار الدول المتقدمة. الأمر لن يبقى ترفاً بعد اليوم بل أصبح ضرورة ملحة، والمؤسسات الإعلامية في حاجة لإيلاء الاهتمام بهذا التخصص من خلال إقامة دورات تدريبية بصورة مستمرة، لتطوير قدراتهم وتأهيلهم، بغية متابعة القضايا الصحية وتحليلها والتدقيق بالمعلومات والبيانات الصحية، والتي من شأنها رفع مستوى الوعي الصحي في المجتمع. كما يجب أن تتوافر للصحافيين الصحيين الأدوات التي تمكنهم من إعداد التقارير المهنية بعيداً عن الانفعالات والاجتهادات، وأذكر على سبيل المثال ما كان يحثنا عليه أستاذ مادة "ورشة إنتاج اعلامي متخصص" جورج كلاس، معتبراً أن "الإعلامي المتخصص يشكل مرجعية إعلامية ذات صدقية ورصيد علمي في مجاله، إضافة إلى أنه يعرف ماذا يقول وكيف يقول ومتى يقول ومتى لا يقول. وهذه مسؤولية قصوى في التعامل مع المعلومة المركّزة في الزمن الصعب، لا مجال للسبق الصحافي في هذا الإطار. فهنا لا مجال "للخطأ".