أرقام مخيفة نشرها مركز تونس لحرية الصحافة حول الوضع الإعلامي في البلاد، في ظلّ جائحة كورونا التي أعادت إنتاج الأعطاب الموجودة سلفا وأضفت تحديات جديدة على القطاع.
ووفق نتائج الاستبيان الذي نشره المركز يوم 2 مايو/أيار 2020 عن آراء الصحفيين التونسيين و"هواجسهم" حول تغطية أخبار فيروس كورونا المستجدّ، فإن 64.5% من العينة أكدت "التعرض للتضليل الإخباري".
وكشف 40% من المستجوبين أنهم تعرّضوا للتضليل من طرف وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 40%، ومن الصفحات والمواقع الإلكترونية بنسبة 29%.
كما يعتقد 29% منهم أنّ المنظمات والهياكل المهنية لم تساهم في مكافحة الأخبار الزائفة، مقابل 12.9% يرون أنها ساهمت في ذلك.
غالبية المستجوبين ونسبتهم 58.1% أكدوا الدور المحدود للهياكل المهنية في التصدي لهذه الأخبار. وبالنظر إلى المصادر الصحفية المعتمدة، أقرّ المستجوبون بأنهم اعتمدوا على جهودهم الخاصة بنسبة 87.5%.
الصحافة التونسية في قبضة الفيسبوك
رئيس مركز تونس لحرية الصحافة محمود الذوادي اعتبر أن الأخبار الزائفة تنامت في البلاد منذ انتشار فيروس كورونا، وتعطّل صدور الصحف المكتوبة التي تبقى ركيزة أساسية للعمل الصحفي المحترف في البلاد، مقابل تعاظم دور الفيسبوك.
ويُرجع الذوادي وقوع الصحفيين في فخّ الأخبار الزائفة إلى ضعف الإمكانيات المادية لأغلب المؤسسات الإعلامية، وظروف الحجر الصحي التي دفعتهم للاعتماد على الشبكات الاجتماعية -خاصة الفيسبوك- كمصدر رسميّ.
في تونس -وفق الذوادي دائما- يكاد الفيسبوك يتحكم في الرأي العام، مهدّدا الصحافة المحترفة الجادة، كما يساهم في اهتزاز صورة الصحفي لدى الجمهور، باعتبار أنّ ما يروّج على صفحات التواصل الاجتماعي يؤثر على سمعة الصحفي الذي يخضع لضوابط مهنية وأخلاقية معينة.
منذ صدور النتائج، اعتبرت الأرقام "صادمة" في قطاع يقوم أساسا على التحرّي والتثبت من المعلومة مهما كان مصدرها، وقد كان صداها سلبيا في الوسط الإعلامي، في ظلّ التحولات الإيجابية التي يعرفها القطاع، رغم الخطوات المتعثرة.
ويبدو أن "ثقافة السبق" دفعت الصحفيين إلى الانخراط في عجلة نشر الأخبار دون التحقق من صحتها. ويرى الذوادي أنّ الصحفيين في تونس تخلوا عن دورهم كصانعي الخبر وفاعلين في المجال إلى متأثرين وتابعين حدّ ترويج ما ينشر على الفيسبوك دون تحقق، رغم أنّه مصدر غير رسمي للخبر.
وكانت بعض هذه الأخبار على درجة من الخطورة، واستغلتها أطراف سياسية في حروبها الإلكترونية وتصفية حساباتها، وفق مدير مركز تونس للصحافة. هذه الحروب ساهمت في انتعاش الأخبار الزائفة خلال الحجر الصحي الذي وفر أرضية لاستمالة الجمهور نحوها في ظلّ الفراغ الحاصل، وأكسبها شرعية وإقبالا غير مسبوق.
صحافة التحري.. العملة النادرة
تعدّ "فالصو" المنصّة المستقلة الوحيدة التي تعنى بالتحقّق من الأخبار الزائفة في تونس منذ انتشار فيروس كورونا في البلاد. تقول مؤسسة المنصة زينة ماجري إنّ المبادرة انطلقت منذ الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2019 للتحقق من الأخبار الزائفة المصاحبة للحملات الانتخابية، وفي ظلّ الظروف الاستثنائية وتخوّف التونسيين من فيروس كورونا، تم تأسيس المنصة للحدّ من انتشار الأخبار الكاذبة وتصحيح المعطيات للمتلقي. وتراقب "فالصو" حوالي 100 صفحة على موقع فيسبوك، يتراوح عدد المتابعين فيها بين 37 ألفا و1.25 مليون متابع.
تحتل تونس المرتبة 72 عالميًّا والأولى عربيًّا في ترتيب مؤشر حرية الصحافة، وفق التقرير السنوي لمنظمة "مراسلون بلا حدود". واعتبرت المنظمة حرية الإعلام والتعبير "أهمّ إنجاز لثورة الحرية والكرامة في تونس"، لكنّها لم تخفِ قلقها من تدهور بيئة عمل الصحفيين ووسائل الإعلام، خاصة بعد انتشار فيروس كورونا.
من جهته، يقول الأكاديمي والباحث في مجال الصحافة الصادق الحمامي إنه على عكس بعض الدول الأخرى، لا تزال صحافة التحري على وسائل التواصل الاجتماعي نادرة رغم أن السياق الديمقراطي يوفر لها ظروف النجاح، حيث توجد منصة وحيدة تم تطويرها لمحاربة الأخبار الزائفة وهي "فالصو" التي ترصد الأخبار الكاذبة والشائعات والأخبار غير الدقيقة.
والصحافة -وفق الحمامي- مهنة تقوم في جوهرها على تحري الأخبار قبل نشرها، إلا أن الصحفيين التونسيين يعملون -برأيه- في سياقات مهنية غير ملائمة ولا تسمح لهم بتحري هذه الأخبار، أي أن جزءًا من القواعد المهنية الصحفية الأساسيّة غير متوفر دائما.
يقسّم الباحث التونسي الأخطاء الصحفية المتعلقة بالأخبار الكاذبة في الحالة التونسية إلى نوعين: الأول- أخطاء صحفية غير مقصودة بسبب قلة الكفاءة المتأتية من ضعف التكوين، سواء الأكاديميّ أو داخل المؤسسة الإعلامية نفسها، وعدم توفّر الشروط اللازمة للتحري. أما الثاني- أخطاء يقوم بها صحفيّون عن قصد بسبب انخراط مؤسّساتهم في الصراع السياسي الأيدولوجي. ولا يمكن الحد من تدفق الأخبار الزائفة -وفق الحمامي- إلا بتحمّل الصحفيّ لمسؤوليته الفردية، بأن لا ينشر الأخبار التي لم يتأكد من صحتها، وأن يطالب بالموارد التي تسمح له بالتحري، في انتظار إحداث مجلس الصحافة الذي سيقوم بدوره في هذه العملية.
لا سبيل للرقابة القانونية
في تقريرها حول حريات الصحافة للعام 2020، أكدت نقابة الصحفيين التونسيين أنّ الأخبار الكاذبة بوصفها أخبارا زائفة ومصطنعة، تهدف إلى التلاعب بالجمهور المستهدف وإيقاعه في الغلط، وهي ليست مخالفة للقانون بقدر ما هي أيضا مخالفة للأخلاق المهنية. ومعالجتها تستوجب رؤية شاملة، بإجراء دراسات معمّقة حول الظاهرة ضمن خصوصيات الواقع التونسي، يقوم بها خبراء ومختصون في مجال الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
رئيس لجنة أخلاقيات المهنة في النقابة كريم وناس يقول إنّ السبيل الوحيد أمام اللجنة هو التواصل مع الصحفيين المخطئين وإصدار بيانات للتذكير بقواعد العمل الصحفيّ. وفي أقصى الحالات يتم التشهير بصاحب التجاوز إذا عمد إلى تكراره. ولا تمارس اللجنة رقابة قبليّة على المادة الإعلامية في تونس من باب احترام حرية الصحافة، وفي حال وقوع الخطأ تتعامل مع المؤسسة الإعلامية لأنها تتحمّل مسؤولية توظيفه وإعطائه صفة شرعية.
لجنة أخلاقيات المهنة تحمي الصحفيين من المتابعات القضائية لضمان حلّ الإشكاليات المهنية داخل الهياكل المختصة، إلا في حالات استثنائية، دعما لمبدأ التعديل الذاتي وإصلاح المشهد الإعلامي.
إن إحداث مواقع تونسية مختصّة تتيح التثبت من الأخبار، بات ضروريا اليوم لمكافحة الأخبار الزائفة، وتعوّل الهياكل والمنظمات المهنية على كفاءة الصحفيين، وتدعو إلى البحث عن تصوّر يلائم الحالة التونسية والتفكير في نوعية التشريعات التي يمكن اعتمادها. كما توصي بدعم الصحافة الجادة والصحفيين المحترفين ماديا، لأنّ الصحافة الجيدة الملتزمة بالضوابط هي الضامن الوحيد لجودة المعلومة. وتبقى هذه التوصيات اجتهادات في انتظار تأسيس مجلس الصحافة، الهيكل التعديلي الذي توكل له -وفق مشروع قانونه- مهمّة معالجة الشكاوى ومراقبة التقيّد بالقواعد الأخلاقية للممارسة الصحفية لحماية صحافة الجودة.