ما هي خطواتك إذا كنت تعمل على قصّة صحفية حول جريمة قتل وقعت في بلدك، وعلمتَ لاحقًا أن المشتبه به قد غادر إلى بلدٍ آخر بعد الجريمة بساعات واختفى فيه؟ ستُخبرني بأنّك ستبحث عن صحفي يعيش في ذلك البلد ليتعاون معك في معرفة مكان المشتبه به والوصول إليه لمعرفة سبب فراره في ذلك التوقيت ومواجهته.. حسنًا، بالتأكيد إذا كنتَ مهتمًّا بقصّتك فستفعل ذلك.
هذا التصرّف يُعتبر من أشكال "الصحافة العابرة للحدود"، وهو ما استُخدم بالفعل عندما تعاونت صحيفة "أفتن بوست" النرويجية مع شبكة "أريج" لإنتاج تحقيق استقصائي حول مقتل الطالبة النرويجية الشابّة مارتين فيك ماجنوسين في لندن عام 2008، إذ كشف التحقيق أن المشتبه به الوحيد في القضية، والذي وقعت الجريمة داخل شقّته، هو فاروق عبد الحق ابن الملياردير اليمني شاهر عبد الحق، الذي فرَّ من لندن نحو القاهرة عقب وقوع الجريمة، وما زال مختفيا على الأرجح في اليمن بعد أكثر من 10 سنوات على الحادثة.
هناك نموذج أكثر تقدّمًا عن الصحافة العابرة للحدود، ففي مطلع العام 2014 كانت الشرطة البرازيلية تحقّق في ضلوع محطة وقود "بوستو داتوري" (Posto da Torre) في تبييض وغسيل الأموال. تقع المحطة في حي برازيليا هوتيل الجنوبي، ومن هذا المكان، بدأت عملية الكشف عن أكبر فضيحة مالية في تاريخ أميركا اللاتينية، والتي عُرفت باسم فضيحة "لافا جاتو" أو "عملية غسيل السيارات".
أثناء تحقيق الشرطة، أدلى المتورّطون بإفادات تكشف أن العملية لم تكن في البرازيل فقط، بل في دول أخرى داخل أميركا اللاتينية.
فيما بعد، بدأ صحفيون في دول لاتينية أخرى، يكتشفون مؤشّرات وشبهات تدل على أن القضية ليست في البرازيل وحدها، بل امتدت إلى بلادهم، بحسب ما ذكرته "الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية" التي أشارت إلى أن صحيفة "آي.دي.أل ريبورتيروس" (IDL- Reporteros) ومؤسسة "كونفوكا" (Convoca) في البيرو (من أعضاء الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية) كانتا قد نجحتا في الوصول إلى صحفيين استقصائيين في البرازيل ودول أخرى، وبدأت عملية التنافس للحصول على المعلومات المرتبطة بالقضية.
بالتأكيد، فإن شبكة غسيل الأموال المنتشرة على امتداد 12 دولة في أميركا اللاتينية، لا يمكن تفكيك خيوطها وكشفها من قبل صحفي واحد أو مؤسسة إعلامية واحدة، بل كانت بحاجة إلى تضافر جهود عدّة صحفيين في هذه الدول لتفكيك ألغازها وإثراء البحث وجمع المعلومات والوثائق ثم ربطها بعضها ببعض.
قد تكون هاتان الحادثتان قد وقعتا في بلاد بعيدة خلف البحار، إلا أنّهما بالتأكيد تُعتبران نموذجًا حيًّا عن أهمّية "الصحافة العابرة للحدود" ودورها في تفكيك جرائم مترابطة في دولٍ متعدّدة، لم تبصر النور بسبب ضعف التعاون والتنسيق بين الصحفيين.
وثمّة عدة مقولات مفادها أن "العولمة حوّلت العالم إلى قرية صغيرة" بفضل وسائل النقل والاتصال السريع وسرعة تبادل المعلومات والبيانات، ولكن هذه الطفرة التكنولوجية التي ربطت العالم بعضه ببعض بشكلٍ وثيق، سهّلت أيضا على مرتكبي الجرائم الاقتصادية والجنائية وأصحاب عمليات الفساد الضخمة؛ الانخراط ضمن هذه العولمة وتسهيل حركات نقل الأموال أو الأسلحة، والفرار من العقاب.
وبما أن العولمة ساعدت هؤلاء، فإنّها بالمقابل ساعدت الصحفيين وطوّرت أدواتهم لتمكّنهم من التصدّي لعمليات الفساد وإعداد القصص الاستقصائية بتعاون وثيق بين مؤسّسات وصحفيين منتشرين في عدّة دول، وذلك على مبدأ "الكل يطوّر أدواته".
ما زالت المعلومات الأكاديمية شحيحة حول مفهوم "الصحافة العابرة للحدود"، ولكنّها في نهاية المطاف قصّة صحفية قد تغطّي بشكلٍ مهني قضايا البيئة أو الهجرة أو الجرائم الجنائية والمالية والتهرّب الضريبي أو قضايا أخرى، على أن تكون هذه القضايا ممتدة بين عدّة دول، ويقوم كل صحفي بدوره في البلد الذي يعيش فيه.
وكنوع من تعزيز هذه الصحافة، وُلدت أول شبكة متخصّصة في تسهيل عمل الصحفيين حول العالم للعمل على قصص عابرة للحدود. إنّها منظمة "هوست رايتر" (Hostwriter)، وذلك على الرغم من أن هناك مؤسّسات أخرى تسهّل عمل الصحفيين وتربطهم حول العالم، ولكن هذه الشبكة هي الأولى التي تتخصص في هذا النوع من الربط، وتعرّف نفسها بأنّها "شبكة مفتوحة تساعد الصحفيين على التعاون بسهولة عبر الحدود، وتربط أكثر من 4400 صحفي معتمد من 152 دولة للتعاون وتبادل المعلومات".
في العام 2010 ذهبت الصحفية تابيا غرزيسيك في رحلة "كوتش سورفينغ" (CouchSurfing) (نوم على الأريكة) إلى تركيا وسوريا ولبنان. خلال الرحلة، كانت تخالط المجتمعاتِ المحلية وتعيش معهم، ولم تنم في الفنادق، مما ساعدها على توسيع بصيرتها وخروجها بمعلومات واسعة من خلال هذا الاحتكاك. وعندما اندلعت شرارة الربيع العربي استفادت مهنيًّا خلال عملها من شبكة المعارف التي كوّنتها في تلك الرحلة.
في ذلك الوقت، تساءلت غرزيسيك عن سبب عدم وجود شبكة "كوتش سورفينغ" للصحفيين، وفي العام 2013 تأسّست "هوست رايتر"، وكانت مهمّتها توفير الاتصالات للصحفيين المحليين ونشر طريقة "الصحافة العابرة للحدود" في جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين.
تعتقد غرزيسيك أن العديد من التحقيقات الضخمة لا تتوقف عند الحدود الوطنية، وأن الصحفيين بحاجة إلى التعاون إذا كانوا يريدون أن يَروُوا القصة بأكملها، وهو ما ينطبق أيضًا على العالم العربي.
وتضرب مثالا في هذا السياق وتقول: "إذا كنا نريد العمل على محاولات الهيمنة بين السعودية وإيران، فإن العديد من القصص المحلية يُفترض أن تكون لها أهمية عابرة للحدود. وإذا كنا نرغب في إجراء تحقيق معين حول جوانب من الحروب في سوريا واليمن، فيستحيل سرد القصة بأكملها دون إجراء بحث وجمع للمعلومات في عدّة دول مشاركة -بشكل مباشر أو غير مباشر- في هذين الصراعين.
توفّر "هوست رايتر" المشورة والتعاون بين صحفيين في 152 دولة حول العالم للدعم المتبادل والتشارك على القصص، وتدير الشبكة غرفة دردشة اسمها "هوست واير" (HostWIRE)، حيث توفّر للصحفيين متابعة فرص العمل أو فرص الزمالة الحديثة والتعرف على أدوات الصحافة الجديدة. وفي أغسطس/آب 2019، أطلقت الشبكة قناة "هوست واير" للصحفيين العرب من أجل مساعدتهم على إجراء التحقيقات العابرة للحدود.
كما توزّع كل عام جوائز للتحقيقات العابرة للحدود التي تم ربط الصحفيين فيها من قبل "هوست رايتر". فعلى سبيل المثال، فازت بالجائزة في العام الماضي الصحفيتان إنغريد جيركاما من هولندا ونتالي بيرترامز من بلجيكا، وكانت قصّتهما حول تجارة الفانيلا في مدغشقر، حيث تواصلتا مع "هوست رايتر" للوصول إلى زملاء محلّيين هناك، مما ساهم في معرفة جوانب أعمق من القصة، تتعلّق بالجريمة البيئية التي تغذّي المضاربة على أسعار الفانيلا. وفي هذه الحالة كانت الصحافة العابرة للحدود وسيلة لنشر قصة كاملة، وفي الوقت نفسه تمكّن الصحفيون المشاركون من مدغشقر من البقاء مجهولين وحماية أنفسهم بفضل التعاون مع صحفيين أوروبيين.
أما بالنسبة للحالة العربية، فترى غرزيسيك أن الصحافة العابرة للحدود مهمّة لرواية قصّة كاملة، سواء في مجال الهجرة أو المناخ أو الجريمة العابرة للحدود، لذلك فهي ليست نوعا من "الترف الصحفي"، وإنما هي وسيلة للتحقيق في القصص التي تهم القرن 21، مضيفةً أنه "من منطلق شخصي، لن أعمل على القصص المحلية مقارنةً بالقصص العابرة للحدود، بل عوضًا عن ذلك، عليَّ أن أتحقق أولا من عدم وجود زاوية عابرة للحدود في قصتي المحلية التي أعمل عليها، وإذا اكتشفتُ أن الزاوية موجودة، وأن هناك زملاء يعملون على قصص مماثلة في بلدانهم، حينها يمكنني الاتفاق معهم على تبادل الأبحاث والمعلومات. وفي النهاية يفوز الجميع وأحصل على بحث أفضل وأدقّ، وتكون الصحافة العابرة للحدود قد وفّرت مكسبًا للجميع".
وتشدد غرزيسيك على فكرة أن الصحافة العابرة للحدود لا تعني دفع أموال لصحفي في دولة أخرى ليكون مساهما في القصة، وإنما يتعلق الأمر بتعاون بين عدّة صحفيين على ذات المستوى لتقديم قصّة مشتركة من قبل فريق متكامل.
وعلى غرار "هوست رايتر"، هناك عدّة منظمات تدعم الصحفيين عبر الحدود، ومنها "الاتحاد الدولي للصحفيين" (ICIJ) الذي سهّل تحقيقات دولية، أشهرها قضية "أوراق بنما" التي عمل عليها أكثر من 400 صحفي حول العالم، وكذلك الحال بالنسبة لمشروع مكافحة الفساد والجريمة المنظمة (OCCRP).