بعد ساعات قليلة فقط من إغلاق صناديق الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كانت الصحافة العالمية منشغلة بالنتائج التي ستحسم مستقبل البلاد سياسيا واقتصاديا. صحيفة "واشنطن بوست" حاولت الذهاب في مسار مختلف لمتابعة التغطية المدفوعة بالبيانات، عوضا عن استعراض التحليلات والآراء، ولجأت إلى محرك البحث "غوغل" للتعرف على أكثر ما يشغل المواطنين البريطانيين.
كان السؤال الأكثر بحثا بعد إغلاق صناديق الاستفتاء: "ماذا سيحدث إذا غادرنا الاتحاد الأوروبي؟".. يبدو السؤال منطقيا وعاديا حتى الآن، مثل "كلب عض رجلا". لكن الخبر يكمن في السؤال الذي احتل المرتبة الثانية في محرك البحث داخل بريطانيا: "ما هو الاتحاد الأوروبي؟".. حتما هنا "الرجل عض الكلب" بقوة.
المعلومة الصادمة التي لم تتطلب مشقة كبيرة سوى تفقد محركات البحث، تفصح عن حقيقة الأجواء التي واكبت الاستفتاء، وتشي بأن كثيرين لا يعرفون شيئا عن الاتحاد الأوروبي، وماذا يعني خروج أو بقاء بريطانيا فيه. والنتيجة: التصويت لصالح خيار لا يدرك مآلاته كثيرون ممن شاركوا في التصويت.
ربما يفسر هذا لماذا تعالت الأصوات لاحقا لإعادة الاستفتاء بحجة أن النتيجة لا تعبّر حقيقة عن توجهات البريطانيين. فكرة بسيطة، لكنها مكّنت صحيفة "واشنطن بوست" من مقاربة موضوع الاستفتاء على غير المألوف. وهذا يضعنا أمام سؤال مع اقتراب الانتخابات الأميركية: كيف يمكن للصحفي أن يذهب في الاتجاه المعاكس لتيار التغطيات الإخبارية، والتدفق المحموم للمعلومات على المنصات الرقمية؟
قد تبدو الصورة الأكثر أهمية للمراسل الصحفي في الولايات المتحدة هي الظهور على الشاشة من أمام البيت الأبيض مركز السلطة في العالم، فسطوة حضوره على الشاشة قد تجعله في مركز التغطية أكثر من الانتخابات نفسها. وإذا تطلب الأمر بعض العناء، ظهر المراسل الصحفي من أمام تجمع انتخابي هنا أو هناك، مستعرضا التحليلات المدفوعة بالرأي حينًا أو بالمعلومات التي توردها المصادر الأجنبية حينًا آخر.
التعميم أو التجني على المراسلين الصحفيين غير مقصود بالطبع، لكن الصورة المنقولة للجمهور العربي تبدو تقليدية وتغلب عليها صحافة الرأي، في حين لا مكان في عصر السرعة لأي ثرثرة غير ضرورية.
الجمهور والصحفيون والانتخابات
أصوات الناخبين الأميركيين التي تسقط في صناديق الاقتراع، يدوّي صداها في العالم العربي.. هل يفوز دونالد ترمب الجمهوري بدورة ثانية؟ هل يتمكن جو بايدن الديمقراطي من إزاحته؟ تُعقد الآمال على استطلاعات الرأي، ويميل البعض إلى تصديق ما ينسجم مع تلك الآمال، إلى أن يأتي يوم الحسم.
المواطن العربي الذي حرمته الدكتاتوريات من الانتخابات النزيهة في أرضه، يودع صناديق الانتخابات الأميركية أمنياته، يميل إلى أحد المرشحين بقدر ما تميل مواقفه من القضايا العربية. وبين من يؤيد هذا المرشح أو ذاك، ثمة من يعتقد أنْ ليس هناك ما يعوّل عليه بفوز أي منهما، فالسياسة الأميركية تجاه العالم العربي واحدة وظالمة. وإذا استثنينا أولئك الذين يتمتعون بقدر من الموضوعية، يمكن للصحفي هنا أن يمعن في مخاطبة عاطفة الجمهور العربي، وفي أغلب الأحيان تبعا لموقف المؤسسة التي يعمل بها، مع أو ضد ترمب أو بايدن.
موفد الجزيرة إلى الولايات المتحدة محمد معوض نجح إلى حد كبير في المواءمة بين ما ينبغي أن يقدمه للجمهور كصحفي يعي مسؤوليته، وبين ما يتطلع إليه هذا الجمهور في فهم تقاطعات السياسة الأميركية مع العالم العربي، والخلفيات التي تؤثر في مشهد الانتخابات، بعيدا عن كومة الأرقام واستطلاعات الرأي والتخندق السياسي.
يفسر معوض مقاربته بأن "الانتخابات عبارة عن اختيار إنسان لإنسان ليمثله ويسهر على راحته، ولهذا فإن عملية التصويت عملية عاطفية بالأساس، وإن كانت ممارسة سياسية في الإطار العملي للديمقراطية. وهنا مربط الفرس، فالمشاهد الذي يتابع في الشرق الأوسط يهمه في هذه القصة بُعدُها الإنساني، يهمه أن يرى الناس العاديين مثله ويسمع قصصهم الإنسانية.. هذا ما ينبغي على الصحفي ألا يغفله، فلا ينبغي أن ينجر إلى سجالات السياسة ويصبح ناقلا لها، بل ينبغي أن يوظف رغبة مشاهده وتطلعاته في التغطية حتى يغتنم متابعته".
يبدأ معوض أول تقاريره عن الجالية المسلمة وأسئلة الهوية في الولايات المتحدة من خلال قصة أول مسجد بناه مهاجرون عرب من سوريا ولبنان في ولاية داكوتا الشمالية مطلع القرن العشرين. لم يقفز معوض مباشرة إلى الأرقام وأهمية تأثير أصوات الناخبين المسلمين في الانتخابات الأميركية، بل اختار الذهاب في رحلة طويلة إلى أقصى الشمال لتعريف المشاهد بالمسجد الذي لا يعرف قصته كثيرون -وأنا منهم- ويطلّ على إحدى مراحل تاريخ العرب والمسلمين في البلاد.
عندما تستمع إلى أحفاد أولئك المهاجرين من الجيل الثالث في التقرير، تدرك مدى تجذر الإسلام، وحرص الأجيال الجديدة على الاندماج ضمن هوية جامعة للمجتمع الأميركي باعتبار الإسلام أحد مكوناتها اليوم. "كانت القصة عن المسجد مثل راية للمهاجرين المسلمين من العرب، فأنت من بعيد ترى المسجد، لكن وراءه حكاية تتجاوز أركانه ومساحته الصغيرة.. إنها قصة الهجرة والهوية كمعنى ومضمون، ولهذا كان اهتمامنا بها". ثم يحكي معوض عن حضور الجالية المسلمة وحجم تأثيرها في المشهد الانتخابي، حيث يمكن أن توظف الأرقام في مكانها الصحيح.
في قصته الثانية يتناول معوض سيدات الضواحي، "قصة انتخابية من واقع السجال، لكنها في الأساس عن دور المرأة في المجتمع الأميركي وحضورها في العملية السياسية. إنها عن الإنسان الفاعل وليست عن الناخب". اختار شخصياتِه في التقرير بعناية تُمكّن المشاهد من فهم المواقف المتناقضة، لا من خلال تصريح عابر، وإنما عبر حوارات بإحدى هذه الضواحي، في سرد لا تنفصم فيه الصورة عن الحوار في رسم المشهد.
القصة الثالثة التي اختارها معوض هي من أكثر القصص الشائكة في الولايات المتحدة بعد صعود حركة "حياة السود مهمة"، وتنامي اعتداءات الشرطة على أميركيين أفارقة. "قدمت القصة مقاربة بين الماضي والحاضر ونضال لم يتوقف.. قرّبنا المشاهدَ إلى المكان وأعدناه إلى الزمان عبر وسيط إنساني، إنسان مثله، لا عبر محلل أو قارئ تاريخ، بل عبر شاهد عيان على واقعة جسر سيلما". هذا الجسر الذي عبَر منه السود يوما للحصول على حقهم في الانتخاب أسوة بالبيض، يأملون اليوم عبورَه مجددا نحو المساواة دون تمييز وعنصرية في القرن العشرين. يقول جيكوب جيكوب بليك الأب، والد الشاب الأسود الذي أردته الشرطة بسبع رصاصات: "هناك نظامان للعدالة في الولايات المتحدة: عدالة للبيض وعدالة خاصة للسود.. إننا في العام 2020.. هل تصدق ذلك؟".
في التقرير الرابع، يستكمل معوض الشطر الآخر من موجة العنف والعنصرية والتطرف في الولايات المتحدة.. ينجح بعد محاولات امتدت لأشهر في مقابلة توماس روب الأب الروحي والمنظر الأساسي لجماعة "كو كلوكس كلان" (كي.كي.كي) التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض. في بداية الأمر كان معوض مترددا في لقاء روب، قبل أن يقرر مواجهته بعد أن عادت جماعته إلى الظهور مجددا في السنوات الأخيرة، بالتزامن مع مناسبات سياسية مختلفة.
ويفسر معوض قراره بأن "هذه القصة تعقد مقاربة تختصر الشر والخير والكراهية والحب في شخصين (إنسانيْن)، فهي لا تمنح منصة لأعضاء كي.كي.كي ولا تمنحهم الضوء، وإنما تضعهم في مقاربة مع من يكرهون". أما الإنسان الآخر فهو الموسيقي الأسود داريل ديفيس الذي أخذ على عاتقه مناهضة العنصرية.
وضع معوض روب في مواجهة ديفيس الذي استطاع بالموسيقى تضميد جراح العنصرية، وإقناع العديد من أبناء جماعة "كو كلوكس كلان" في عقر دارهم بالخروج منها.
جميع القصص التي اختارها محمد كجزء من مهمته في تغطية الانتخابات الأميركية يعدها "إنسانية، تمثل الوجه الحقيقي لمعركة بايدن وترمب. إن سر عظمة الديمقراطية يتجلى في أن مجموعة من الناس في ضاحية أو ريف أو منطقة بعيدة في ولاية هامشية، قد يغيرون كل هذا ويتحكمون بدفة الأمور، فلماذا لا تكون موضوعاتنا عنهم، ولكل موضوع قصة؟".
القصص الأربع -أو التقارير- أعدت في الأساس للمنصات الرقمية، وناهزت مدتها سبع دقائق أو أكثر، في تحدٍّ للخوارزميات التي تعطي أفضلية للمقاطع القصيرة. كما أنها قُدمت كقصص متأنية ومعمقة لا تعبأ بالأخبار السريعة والمسطحة، فأخذ معوض المعلومات من أفواه الشهود الذين التقاهم، وقدمها في سرد محكم ومعزز بعناصر بصرية ليست فائضة عن حاجة القصة، وإنما تساعد على فهمها.
يصف معوض هذا المنتج الصحفي -الذي يبدو مختلفا على نحوٍ ما عما يقدم على الشاشة- بأنه سريع الإيقاع، يتناغم مع مشاهد اليوم. "وهذه الخصائص الأساسية تحقق ذلك: الإمتاع، الجانب الإنساني، العمق، المباشرة". "وبناء على ذلك فإنني لم أخض مغامرة، بل لم أشك للحظة أنني إذا أنتجت منتجا متلفزا بهذه المواصفات سيكون عابرا للقوالب والمنصات وسيحقق رواجا عليها جميعا، وهذا ما يفسره ردة فعل الوسط الصحفي عليها.. لقد شعر زملائي أن هذا النمط يمنحهم قوة أكبر في الوصول إلى الناس. ولا أحبذ هنا كلمة كسر القوالب، فنحن لم نكسر قوالب، وليس هناك قوالب للصحافة المتلفزة.. هناك قاعدة واحدة أساسية: الكتابة للصورة، وعليك أن تكون حاذقا قدر المستطاع في استخدام كل الأدوات المتاحة عصريا لتفعل".