منذ سقوط حائط برلين، بدت أهمية الصحافة في قولبة الرأي العام وفق التوجهات الأيدولوجية الجديدة الداعية إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان ونظام السوق. كانت المراكز المؤثرة في الغرب، وبخاصة في الولايات المتحدة، تنطلق من سابقة إذاعة "صوت أميركا" وكيف استطاعت أن تُقوض غريما كانت له ترسانة عسكرية ضخمة وأيدولوجية مؤثرة.
وكان من الساحات الكبرى التي انصب عليها الاهتمام عقب سقوط حائط برلين، ساحة العالم العربي من أجل صناعة مخيال جديد. وكان من المداخل الكبرى المعتمدة حينها، الصحافة وقضية المرأة وأوضاع الأقليات العرقية والدينية. كما اهتمت مراكز البحث بالمجتمع المدني وقواه الناهضة، واعتبرت أن المؤسسات التقليدية -من أحزاب ونقابات- متكلسة ولا يمكنها أن تواكب التوجه الجديد، ولا أن تكون روافع للمنظومة الحديثة.
ولا جدال أن العالم العربي حينها كان يحتاج إلى خَضّة جراء تكلس مؤسساته السياسية، وهيمنة الحزب الواحد في كثير من الأنظمة، واحتقان ثقافته السياسية التي تأبى الاختلاف، سواء أكان سياسيا أو ثقافيا، وكان يحتاج ساحة للحوار الحر والجريء. من أجل ذلك، خرجت الصحافة التي كانت تُنعَت بالمستقلة عن القوالب المعهودة، من هيمنة إعلام الدولة، أو إعلام الأحزاب، وقلبت -كما في المغرب والجزائر والأردن- كثيرا من الطابوهات. ومن هذه الصحف "لوجورنال" في المغرب، و"الوطن" في الجزائر باللغة الفرنسية، وفي النسخة العربية كل من "الصحيفة" (المغرب) و"الشروق" (الجزائر)، وإلى حد ما صحيفة "الدستور" الأردنية.
أصبحت "الصحافة الحرة" سلطة موازية، وكان السؤال المستتر: إلى أي مدى كانت تلك الصحافة تتمتع بالاستقلالية؟
دون الحديث عن حالات معينة، كان يظهر أن "الصحافة الحرة" لم تكن بمنأى عن أجندات خارجية، وأن عرابي "الثورة الإعلامية" الفعليين كانوا يتوارون وراء قيم نبيلة، ويراهنون على جيل جديد غير مثقل بمخلفات الحرب الباردة، والقومية العربية، والصراع العربي الإسرائيلي.
كانت المنابر الجديدة تتمتع بالسهولة في بلوغ الخبر وإجراء حوارات مع شخصيات نافذة عالميا، والحصول على تسريبات مقصودة، وكانت كذلك تتمتع في ظل العولمة بإمكانية الحصول على الإشهار من شركات دولية. أضحت "الصحافة الحرة" أكثر من قوة موازية، وكان يُنظر لها من قِبل السلطات كأداة من أدوات تقويض مؤسسات الدولة وهلهلة سَدَى المجتمع، مثلما سبق أن أعرب مسؤول جزائري كبير في منتدى مونتانا في خريف العام 1999.
في ظل هذا التحول الجديد، تجندت أجهزة الدولة من أجل إعلام بديل من خلال ضبط سوق الإعلان، وإنشاء منابر صحفية مرتبطة بمراكز القرار، وربط علاقات مع مراكز صحفية غربية من أجل تلميع صورة أنظمة، وتهيئة ملفات حول "التحولات الديمقراطية" وإمكانية الاستثمار. وكانت تلك المنابر الغربية، تهدد أحيانا بفضح قضايا، أو التهجم المجاني، وكانت تلك إشارات من أجل دفع نظام ما إلى إبرام صفقة تندرج في عملية العلاقات العامة أو شراء صمتها. وقد نشطت على ضفاف السين والتايمز صحافة من هذا النوع، مع صحفيين ينقلون ولاءهم في يسر، بلا أدنى حرج.
لقد كشف سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ما كانت تقوم به وكالة قرطاج من تمويل منابر إعلامية تمت الإشارة إليها بالاسم في صحيفة "لوموند"، وكشفت الصحافة في الجزائر مؤخرا عن التسيب الذي عرفه سوق الإعلام لفائدة منابر صحفية وشخصيات نافذة. ولا يشذ المغرب عن هذا التوجه، من خلال ضبط سوق الإعلان بالإغداق على منابر وحرمان أخرى، وعلاقات بمنابر في فرنسا خاصة، غايتها العلاقات العامة أكثر منها الإخبار النزيه والتحليل الموضوعي.
لكن اللحظة الثانية التي غيّرت سُلم الأولويات من منظور الغرب هي ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث التقت توجهات الأنظمة العربية مع الغرب، في الحرب على الإرهاب، وفي صياغة مخيال جديد. وأثر هذا التحول على النظرة إلى الإعلام، ولم تعد قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير تحظى بالأولوية من منظور الغرب، ولذلك أصبحت الأنظمة العربية حليفة موضوعية، وأضحى هناك نوع من التطابق في أولويات كل من الأنظمة العربية والغرب، مع التغاضي عن تجاوزات حقوق الإنسان وحرية التعبير.
تَجنَّد الغرب لصياغة مخيال جديد، من خلال الإعلام والمنظومة التربوية والبرامج الدينية والإصلاح الديني. وكان مما أنشأته الولايات المتحدة لهذا الغرض قناة "الحرة" وإذاعة "سوا"، ثم في أعقاب "الربيع العربي" موقع "أصوات مغاربية". وتشترك هذه الأدوات في ذات التوجه، في مناهضة التطرف الديني ودعم الأقليات العرقية والدينية. ويستحق موقع "أصوات مغاربية" لوحده دراسة متأنية حول التوجه الجديد، من خلال ما يقوم به في تفكيك خطاب التطرف والدعوة إلى قراءة النصوص الدينية وخلخلة الطابوهات الاجتماعية.
وعمدت كثير من دول العالم العربي إلى تبني قوانين جديدة للصحافة، وكانت الغاية منها التحكم في توجهات منابر إعلامية مزعجة، والتضييق على حرية التعبير، من خلال عقوبات إن لم تكن سالبة للحرية، تكُنْ غرامات مالية ثقيلة.
لم يكن من السهل تقديم مساعدات مالية أجنبية لبعض المنابر بصفة مباشرة، لأن ذلك يُعرّضها لرد فعل الحكومات، كما حصل بالنسبة لبعض مراكز البحث التي تم تقديم أصحابها لمحاكمات بتهم التجسس والتآمر ضد أمن الدولة. لذلك كان الدعم يتم بطرق ملتوية لمنابر إعلامية، من خلال شركات دولية تمنح الإعلان والدعاية، أو من خلال علاقات مباشرة مع صحفيين يرتبطون بمراكز معينة تمدهم بالمعلومة، وتتيح لهم الظهور في مؤسسات إعلامية دولية، أو من خلال دورات تدريبية للصحفيين المبتدئين، وتنظيم برامج زيارات، أو من خلال إرساء ثقافة اقتصادية عبر برامج تكوينية في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، واستئناس بأدبيات "توافق واشنطن".
هذا ليس معناه أن كل المنابر مخترقة، ولكنها قابلة للاختراق، وأن أشكال الاختراق عدة، منها الظاهر والباطن، ومنها ما يتم دون أن يشعر به القيّمون على منبر إعلامي معين.
أضحت الصحافة رهانا من رهانات السلطة، وأضحت منابر -كما صحفيون- عرضة للضغوط والإغراء، أو -حين يتعذر ذلك- عرضة للتضييق بوسائل عدة، منها التحكم في الإعلان، والملاحقات القضائية، والتشهير والاختراق، واختلاق قضايا جانبية تتأرجح بين التخابر مع قوى أجنبية، وتهديد أمن الدولة وسلامتها، أو ملاحقات ضريبية أو قضايا ذات طابع أخلاقي.
لكن اللافت في تجارب عدة منابر في العالم العربي حظيت بدعم دافق من قِبل مؤسسات مالية أو حكومية أو شركات كبرى، أنها لم تصمد، ذلك أن قوة الإعلام في مصداقيته، ومصداقيته في دفاعه عن القضايا العادلة، وفي استماتة صحفيّيه إلى جانب الحق وانصياعهم لنداء الضمير. استقلال الصحافة ليس بالأمر الهين، ولا يكفي أن تُرتهن لتوجهات منبر ما، أو ضمير الصحفي، ولذلك ظهرت مؤسسات داخل جسم الصحافة تجعل أخلاقيات المهنة على سلم أولوياتها، وتعتمد على الشفافية في مصادر التمويل، ودقة المعلومات في أعداد التوزيع. ويظل الحَكم الأهم هو القارئ.
ورغم التحولات الكبرى التي عرفتها الثورة الرقمية، فإن الصحافة الورقية تضطلع بدور مهم في الإخبار وصياغة الرأي العام، وصناعة رأي عام جديد، فالصحافة مثلما يقول ألبير كامو هي أنبل مهنة كلما مالت إلى الحق، وهي سيئة حين تجنح للدفاع عن مصالح معينة وتكون أداة في خدمة أصحاب المال.
نعم.. تظل الاستقلالية نسبية، وينبغي أن تخضع دوما للتقييم والتقويم، من خلال هيئات تشرف على أخلاقية المهنة، ومنها مصادر التمويل.