جدلٌ واسع تشهده ساحة الإعلام الدنماركي تَفجّر بعد إعلان مقدمة البرامج في شبكة الإعلام العمومي الدنماركي "تي.في2" صوفي ليندي وعلى الهواء مباشرة (1)؛ أنها تعرضت لتحرّشٍ جنسي من قبل شخصية قوية في التلفزيون.
واقعة التحرش التي كشفت عنها ليندي حدثت قبل نحو 12 عامًا حين كانت متدربة في التلفزيون عمرها 18 عاما، وتروي أنها تعرّضت للتهديد من قبل شخص وصفته بـ"المدفع التلفزيوني" كدلالة على نفوذه وشهرته، وطالبها بممارسة الجنس معها تحت تهديد إفساد حياتها المهنية في حالة الرفض، لكنّها مع ذلك رفضت.
ممنوعات من تغطية القضايا النسوية
بعد كشف صوفي لواقعة التحرش، جمعت عدّة صحفيات توقيعات على عريضة ترفض التمييز على أساس الجنس، والتعامل مع المضايقات الجنسية بشكل جاد داخل الوسائل الإعلامية. وجاء في العريضة "لقد مررنا جميعا بتجربة مماثلة -بشكل أو بآخر- خلال حياتنا المهنية، كالتعليقات غير اللائقة حول مظهرنا أو ملابسنا، ورسائل البريد الإلكتروني القذرة، والتحذيرات من وجود رجال مختلفين يجب الحذر منهم خلال حفلات عيد الميلاد (الكريسماس)".
بلغ عدد الموقعات على العريضة 1615 عاملة في مجال الصحافة والإعلام خلال أيام (2)، لينطلق الجدل بعد ذلك بين إدارات التحرير حول أهلية الموقعات لتغطية قضية صوفي ليندي أو قضية العريضة نفسها، أو حتى أي قضية متعلقة بالتحيز الجنسي في الإعلام.
الانحياز الخادش للنزاهة
إدارات التحرير الدنماركية انقسمت إلى قسمين (3)، كلاهما لا يضع قيودًا ولا يستنكر مشاركة الصحفيات والعاملات في قطاع الإعلام بالتوقيع على العريضة أو بالنقاش في قضايا التحرش والتمييز الجنسي داخل القطاع، لكن وجهات النظر اختلفت فيما يتعلق بمدى أهلية الموقعات لتغطية قضية العريضة أو النقاش المتعلق بمضمونها.
رئيس تحرير "تي.في2" ياكوب كوون اعتبر أن الموقعات فقدن الكفاءة لتغطية هذه القضية بسبب التصريح علنًا بموقف تجاه قضية ما، وأن التوقيع يشكّل خرقًا لقواعد الكفاءة الصحفية، فإذا وقّع أي صحفي على عريضة فلا يمكنه تقديم تقارير حول موضوعها، وإذا كان مقدّمًا للبرامج التلفزيونية فعليه الإعلان على الشاشة أنه قام بالتوقيع أو مناصرة القضية بطريقة ما.
ويتفق رئيس تحرير صحيفة "غوتلاند بوست" مع هذا الرأي، ويرى أن ذلك يتعلق باستقلالية التحرير ومصداقية الصحفي، وأنه يمكن التشكيك في حياد الصحفي إذا أعلن عن الانتماء إلى مواقف من أي نوع.
أما مدير الأخبار في تلفزيون الدنمارك "دي.آر" توماس فالبي فلا يعتبر أن التوقيع على العريضة يؤثر على أهلية وكفاءة الصحفيات، ولا يرى فيها وجهة نظر خطيرة يمكن أن تؤثر على الحياد، لكنّه يشير إلى فقدان الصحفيات الأهلية إذا شاركن قصصهن الشخصية عن التمييز الجنسي على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويبرر فالبي ذلك بأن الصحفيات اللواتي يشاركن قصصهن الشخصية مع التحرش يصبحن مصدرًا محتملا في القصة الخبرية وأطرافا في نقاش مستمر، وعندئذ يكنّ قد فقدن الكفاءة لتغطية قضية التمييز الجنسي.
من جانبه، حصر رئيس تحرير مجموعة "نورديك ميديا" الإعلامية كارل إريك ستوغارد فقدان الكفاءة فقط في الصحفيات اللواتي بادرن بجمع التوقيعات، ولا يشمل كل من وقّعت على العريضة، رافضا التعامل مع التوقيع على العريضة باعتباره موقفا سياسيا.
مطلوب مذيع
بعد تعرية صوفي ليندي للإعلام الدنماركي بأسابيع قليلة، نشرت صحيفة "بيلينغسكي" تحقيقا عن تحرش مقدم برامج إذاعية في شبكة الإعلام العمومي بـ12 سيدة، تحدّثت 8 منهن في التحقيق عن انتهاكاته التي تعددت من مراسلات غير لائقة إلى التحرش الجسدي والتهديد بنشر صور عارية لصحفيات (4).
وقعت شبكة الإعلام العمومي الممولة من أموال دافعي الضرائب في حرج بعد نشر التحقيق الذي كشف أن عددا من الصحفيات قدّمن شكاوى على المقدّم أكثر من مرة، دون تحريك ساكن تجاهه، الأمر الذي اضطرّ الشبكة لمناقشة القضية على الهواء مباشرة من باب الشفافية.
المشكلة أمام الشبكة كانت تتمثل في أن محاورة أي موظّف من داخل الشبكة للإدارة والصحفيات قد لا يحقق النزاهة والحياد الكافي، لذلك قررت هيئة التحرير اختيار صحفي من خارج الشبكة لمحاورة مديرها، ووقع الاختيار على الصحفي السياسي ومقدّم البرامج في محطة خاصة هنريك كفورتروب (5).
وبررت هيئة التحرير تصرّفها بأنها غير كفؤة بإدارة الحوار عندما يتعلق النقاش بتغطية تصرفات أحد موظفيها.
النشاط في المواثيق الصحفية
الجدل حول إمكانية أن ينشط الصحفيون في المجال السياسي والاجتماعي ليس جديدًا، لذلك وضعت المواثيق الصحفية بشكل واضح عدّة بنود وقواعد تؤطر مثل هذه الحالات بهدف تحقيق قيمة الموضوعية، وهي أن يكون الصحفيون غير متحيزين في عملهم الإخباري، وأن يكونوا على مسافة واحدة من جميع أطراف القصة الخبرية، وألا تؤثر رغباتهم الشخصية على الأخبار.
أحد المواثيق المهمة في هذا المجال هو لصحيفة "نيويورك تايمز" (6) وينص على أنه "لا يجوز لموظفي الصحيفة تنظيم مسيرات أو حشود لدعم القضايا أو الحركات العامة، أو التوقيع على بيانات تتخذ موقفًا بشأن القضايا العامة، أو وضع اسمهم في حملات، أو حضور حفلات عشاء أو أحداث مماثلة، إذا كان القيام بذلك قد يثير شكوكًا معقولة حول قدرتهم أو قدرة التايمز على العمل كمراقب محايد في تغطية الأخبار".
أما ميثاق وكالة الأنباء الفرنسية لأصول وأخلاقيات العمل التحريري (7) فينص على أن الوكالة تحترم انخراط موظفيها في نشاطات خارجية سواء في جمعيات، أو في السياسة، أو دعماً لقضايا. غير أنه ينبغي أن يكون هناك حاجز واضح يفصل بين النشاطات التي يزاولها الصحفيون بصفة شخصية، وبين ما يقومون به بصفة مهنية. وتعتبر الوكالة أنه من المقبول أن يعرّفوا عن أنفسهم في تلك النشاطات على أنهم صحفيون في الوكالة، لكن بشرط إبلاغها بذلك.
لكن الميثاق ينص أيضًا على أنه لا يمكن لصحفيي الوكالة القيام بما يمكن أن يولّد أدنى شك في قدرتهم أو قدرة الوكالة على تأمين تغطية صحفية محايدة، وتفادي قيام أي تضارب بين المصالح الخارجية ومصالح الوكالة.
وينص ميثاق جمعية الصحفيين المحترفين الأميركية على تجنّب تضارب المصالح، الحقيقي منه والمُتصوَّر، والإبلاغ عن التضارب الذي لا مفر منه، والابتعاد عن الأمور التي قد تضر بالنزاهة أو تضر بالمصداقية.
معضلة القضايا ذات طابع الحراك الاجتماعي
هناك علاقة واضحة بين الإعلام والحركات الاجتماعية، فالحصول على تغطية صحفية لهذه الحركات يعطيها زخمًا وتأثيرًا أكبر، وفي الوقت ذاته تحتاج وسائل الإعلام إلى إبقاء عجلة الأخبار في حركة دائما من خلال هذه الحركات وتطورات أحداث مطالبها أو فعالياتها. ويتأثر الجانبان بعضهما ببعض أحيانًا، دون تدخّل مباشر وواضح من أي من الطرفين.
وعلى الرغم من أن الحدود بين النشاط السياسي والعمل الصحفي واضحة ولا تحتاج إلى نقاش كثير، فإن حدود الانخراط في قضايا ذات طابع اجتماعي تأخذ منحى مختلفا وتزداد فيها المساحة الرمادية والضبابية بالنسبة للصحفيين. القضايا مثل العدالة الاجتماعية والنسوية والمناخ وحقوق المثليين، طرحت أسئلة لم تكن مطروحة مسبقًا على الساحة الصحفية.
وتشير دراسة صادرة عن جامعة أركنساس الأميركية (8) إلى وجود ما اعتبرته "إجماعا تقريبيا" بين الصحفيين يدعم قيم الحقيقة والإنصاف والتوازن والسياق والأخلاقيات المهنية بدلا من الموضوعية، بحيث يسمح هذا الإجماع للصحفيين أن يكونوا ذوي تأثير اجتماعي دون اعتبارهم يمارسون دور الدعوة إلى الحراك الاجتماعي، لكنهم ملزمون أخلاقيًّا بسرد القصص التي تستحق اهتمام الجمهور، سواء أكان ذلك حول نظام العدالة الجنائية أو تغيّر المناخ أو إساءة استخدام السلطة أو غيرها من القضايا الاجتماعية.
فوارق العمر بين أجيال الصحفيين الكبار والشباب، ودور وسائل التواصل الاجتماعي، والمواطن الصحفي، والانفتاح المعلوماتي عبر الإعلام الجديد، كلها أمورٌ أثّرت أيضًا على كيفية النظر إلى موضوعية الصحفيين، لكن هذا الجدل ربما لن يُحسم قريبًا في ظل التطورات الطارئة على الإعلام يوميًّا.
المصادر
1. TV2. Sofies Lindes tale i fuld længde. https://www.facebook.com/tv2zulu/videos/337639814314937/.
2. Politiken Newspaper. Sexchikane - 1.615 kvinder kan ikke tage fejl. Så hvad nu? https://bit.ly/2SMKoBI.
3. Journalisten. Mediechefer dybt uenige om journalisters opbakning til Sofie Linde. https://bit.ly/30UW1es.
4. Berlingske. https://bit.ly/35jodcv.
5. تويتر. https://twitter.com/dittegiese/status/1315713404724801536.
6. New York times. Ethical Journalism. https://nyti.ms/2SN20xv.
7. وكالة الصحافة الفرنسية، ميثاق أصول وأخلاقيات العمل التحريري. https://bit.ly/30URUzb.
8. University of Arkansas. Journalism vs. Activism: How the Social Impact of Journalism Has Evolved . 2020. https://bit.ly/34EHK6w.