مهما كانت درجة احترافية المؤسسات الإعلامية المستقلة الحاصلة على تمويل أجنبي، ومدى التزامها بمعايير الصحافة المهنية، إلى جانب تحلّيها بالشفافية في الخطط والإنفاق المالي ومصادر التمويل، تبقى تهمة حملها لأجندات خارجية بسبب هذا التمويل تلاحقها من عدّة أطراف في الساحة العربية، بدعوى أن لا شيء مجاني وأن إنفاق الملايين على الإعلام لا بد أن يكون له هدف غير بريء.
تعود جذور عدم الثقة بالتمويل الأجنبي إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حينما رفض الاتحاد السوفياتي حزمة مساعدات خطة مارشال الساعية لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب. الخطة أسفرت عن تشكيل منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي التي تطورت إلى ما يعرف اليوم باسم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (1) ، ومثّلت المعسكر الغربي منذ ذلك الحين.
وعلى الرغم من أن المساعدة الإنمائية الرسمية (ODA) التي حصلت عليها الدول العربية من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بين عامي 2000 و2006 بلغت 82.5 مليار دولار (2)، فإن موجة التشكيك في الانتماء لا تطال الحكومات ومؤسسات الدولة التي تحصل على هذه المساعدات، بذات القدر الذي يتم فيه انتقاد مؤسسات المجتمع المدني والإعلام المستقل الحاصل على التمويل.
شبهة الأجندات
تخوض بعض الدول العربية حروبا معلنة أو باردة على التمويل الأجنبي للإعلام، أكبرها كانت القضية التي عُرفت في مصر بقضية التمويل الأجنبي وتم فيها محاكمة 43 شخصا حصلوا على البراءة بعد 6 سنوات من المحاكمة. خلال الحكم الأولي عام 2013، أقرت محكمة الجنايات في قرارها الأول بإدانتهم أن التمويل الأجنبي "أصبح أحد أشكال السيطرة والهيمنة الجديدة"، وأنه "استعمار ناعم" يهدف إلى "اختراق أمن مصر القومي وإفناء موجباته وتقويض بنيان مؤسسات الدولة وتفكيك أجهزتها، وصولا إلى تقسيم المجتمع وتفتيته وإعادة تشكيل نسيجه الوطني" (3).
في الجزائر حجبت السلطات في أبريل/نيسان 2020 راديو محليا يبث عبر الإنترنت بسبب التمويل الأجنبي، معتمدة على قانون الإعلام وقانون النشاط السمعي والبصري اللذين ينصان على منع الدعم المادي المباشر وغير المباشر الصادر عن أي جهة أجنبية. واعتبرت السلطات أن الراديو "تابع للقوة الناعمة، ووصفته بالذراع الثقافي والإعلامي لدبلوماسيات أجنبية تشتغل ضمن هذه المسارات التي يُطلق عليها مسارات الدمقرطة". واعتبر وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة عمار بلحيمر أن تمويل وسائل الإعلام شكل من أشكال التدخل الأجنبي (4).
كما منعت السلطات في الأردن أن تحصل أي جهة على تمويل أجنبي ما لم يمر طلب التمويل على لجنة مكونة من أعضاء من وزارات الداخلية والتخطيط والصناعة والتجارة ورئاسة الوزراء، إلى جانب الوزارة ذات الاختصاص بموضوع المنحة، ومراجعة الطلب خلال شهر بإجراءات بيروقراطية معقدة (5).
ولا يتوقف التشكيك في نوايا الإعلام الممول عند هذه الدول فقط، فلا تختفي النبرة الاتهامية عن أفواه الكثير من السياسيين بل وحتى الصحفيين أنفسهم في مختلف الأوساط العربية، حتى يصبح التمويل وصمة عار أو نقطة ضعف تُضعف ما تقوم به المؤسسات الصحفية من عمل مهني.
فتحة في جدار احتكار الإعلام
تدافع المؤسسات الإعلامية المعتمدة على التمويل الأجنبي عن هذا التمويل بأنه السبيل الوحيد أمامها في ظل ثلاث مشكلات أساسية متعلقة بمصادر الدخل للإعلام في العالم العربي:
الأولى- احتكار الدولة للإعلام الرسمي وتوجيهه بخطاب موحّد يخدم نظامها السياسي، بعيدًا عن الاستقلالية أو حتى المهنية.
الثانية- سيطرة الدولة على قطاع الإعلان اللازم لديمومة واستمرارية المؤسسات الخاصة، سواء باعتبارها مُعلنا أساسيا أو بالتأثير على الإعلانات الخاصة ومنعها عن المؤسسات الإعلامية التي لا ترغب في حصولها على تمويل.
الثالثة- الاستقطاب السياسي الإقليمي الذي بات أحد أبرز مصادر التمويل بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، ومن طبيعة هذا التمويل أنه يؤثر على المسار التحريري أيضا.
يرى مدير شبكة الصحافة الأخلاقية أيدان وايت أن الحكومات والسياسيين ومجموعة كبيرة من المؤسسات الإعلامية العالمية يؤثرون على اختيار الأخبار، وبرنامج أولويات وسائل الإعلام، ويضغطون على الصحفيين ويحاولون القضاء على سلطتهم عن طريق قطع وتقييد اقتصاد وسائل الإعلام (6).
وتؤكد المؤسسات الإعلامية الممولة مرارًا على ضرورة الاستقلال التحريري الذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر التمويل غير المشروط إطلاقا، وعليه فإن الإفلات من عقبات الاحتكار والاستقطاب السياسي لا يمكن أن يتم إلا من خلال التمويل الأجنبي. فعلى سبيل المثال، تذكر منصّة "ميغافون" أنها تقبل "فقط التمويل الذي لا يفرض قيودًا تحريرية، لضمان أن يبقى خطّها التحريري غير مساوم" (7).
وتعتبر عدّة مؤسسات ممولة أجنبيًّا أن هذا التمويل ما هو إلا مرحلة إلى حين تمكّنها من جني الربح إما عبر تمويل القرّاء والاشتراكات، أو تقديم خدمات الاستشارات والتدريب، أو الاستثمار صغير الحجم. فمثلا، يذكر موقع "درج" على منصته أنه يبتغي الربح في مرحلة لاحقة، لكن بانتظار ذلك يلجأ إلى تمويل دولي يحرص على مكاشفة مستخدميه بهويّة أصحابه (8).
أما موقع "مدى مصر" فيشير إلى أنه يأمل أن يصبح مستقلا ماليًّا وقابلا للاستدامة، من خلال نموذج يحافظ على استقلاليته ويكون فيه القراء حجر الأساس في دعمه (9).
الإعلام "المستقل" كضرورة للحداثة
تشير ورشة عمل صادرة عن جامعة لندن للعلوم السياسية والاجتماعية إلى أنه "في عصر الديمقراطية الحديثة، يُنظر إلى وسائل الإعلام عمومًا على أنها الحارس أو الوصي على الشفافية والمصلحة العامة. وفي ظل غياب تطور تقليد خدمات الإعلام العمومي المستقل (على غرار الإعلام العمومي في المملكة المتحدة)، لا يمكن لعب هذا الدور المستقل إلا من قبل المؤسسات الإعلامية المملوكة ملكية خاصة. ومع ذلك، من المرجح أن تكون المؤسسات الإعلامية المملوكة للقطاع الخاص أدوات للمصالح الخاصة" (10).
كما يُعلي صندوق تطوير الإعلام من دور وسائل الإعلام المستقلة في الأخبار والمعلومات التي يحتاجها الناس ليكون لهم رأي في كيفية إدارة مدنهم ومناطقهم ودولهم من خلال فضح الفساد ومساءلة السلطات وتوفير منصات مفتوحة للنقاش، باعتبار أن هذا النوع من الإعلام قادر على توفير حاكمية أفضل بسبب تقديمه للمعلومات الموثوقة في الوقت المناسب لاتخاذ قرارات اقتصادية جيدة (11).
صحافة مستقلة أم صحافة خيرية؟
تبرز أمام استقلالية الإعلام الممول إشكاليات عدة: أولاها آلية التنافس على التمويل، حيث على المؤسسات الراغبة في الحصول على التمويل أن تقدّم مقترحات تُقنع الممول وفي مواضيع محددة مسبقًا، ويجب أن يُرفق المقترح "بنظرية تغيير" واضحة وأهداف موضوعة للفوز بالتمويل، أي أن أهداف هذا المشروع مرسومة لتتماشى مع رغبات الممول، ولا يجوز أن تخرج عن مسار المشروع المحدد قبل الحصول على المنحة بزمن، وهذا يعني أن الممول يضع شروطه مسبقًا قبل وصول الدعم إلى غرفة الأخبار.
الإشكالية الثانية تكمن في الجهات الداعمة التي لا تطرح التمويل عبر مشاريع تنافسية بحجّة عدم الرغبة في التأثير على أولويات غرف الأخبار، لذلك تكون عملية التمويل حينها من خلال "مغازلة" غير رسمية بين الجهات الداعمة والمؤسسات الإخبارية، يمكن أن تحمل في طيّاتها تساؤلات كثيرة حول اختيار هذه المؤسسة تحديدًا، وهل لعبت العلاقات الشخصية دورًا في هذا التمويل؟ وهل المؤسسة الحاصلة على التمويل تستحقه أم أن التوافق غير المعلن على الأولويات هو الذي تحكّم في حصولها على التمويل؟ وكم كانت المؤسسات مستقلة في مثل هذا النوع من التمويل؟
وتتمثل الإشكالية الثالثة في أنه يتم التعامل مع الصحافة كأي مجال تنموي آخر. وحسب كتاب "قاموس التنمية" للأكاديمي الألماني فولفغانغ زاكس فإن مفهوم التنمية تحوّل على يد الرئيس الأميركي هاري ترومان إلى الهيمنة، ولا يمكن للتنمية أن تنفصل عن الكلمات التي تشكلت بها، وهي النمو والتطور والنضج، وهي مربوطة بالنظام النيوليبرالي مباشرة (12).
أما الإشكالية الرابعة فهي أنه حتى ضمن السياق الأحدث للتنمية -وهو التنمية المستدامة- فإن المؤسسات الصحفية الممولة تغدو يوما بعد يوم أقل استدامة وقدرة على تطوير أدوات تُمكّنها من المنافسة في السوق الحرة، خصوصا مع رفضها دخول سوق الإعلانات من المؤسسات الكبرى المسيطرة على الإنترنت مثل إعلانات غوغل وفيسبوك لموقفها من احتكار فضاء الإنترنت، لذلك فهي مرتهنة بشكل أكبر للتمويل.
وتتعلق الإشكالية الخامسة بدخول الشركات العالمية الكبرى إلى نادي الممولين، فحسب منظمة "ميديا إمباكت" فإن الشركات الخاصة منحت عبر منظماتها الخيرية قرابة 1.3 مليار دولار سنويًّا لوسائل الصحافة والإعلام في مختلف أنحاء العالم بين عامي 2011 و2015 (13)، وهو ما يؤثر على مصداقية هذه المؤسسات الصحفية لأن هذه المنظمات الخيرية تسعى لإحداث تغيير اجتماعي من خلال دعم الإعلام (14).
وأخيرا، فإن الإشكالية السادسة تتمثل في مدى فعالية هذا التمويل، فالمؤسسات الصحفية الممولة لا تقدّم تقارير أو دراسات تثبت أن عملها الصحفي استطاع فعلا إحداث تغيير، سواء في ضمان التعددية، أو خلق فضاءات مفتوحة للنقاش، أو دفع الحريات الصحفية إلى الأمام في مناطق عملها، خصوصا أن تقرير "مراسلون بلا حدود" أشار إلى تراجع الحريات الصحفية عالميًّا بنسبة 11% خلال السنوات الخمس الأخيرة (15)، أي أن نتائج الانفراج الحريّاتي الموعودة تأتي معكوسة إلى الآن.
المصادر
1. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. https://bit.ly/30CdgB4.
2. Azzam Mahjoub. Arab NGO Network for Development (ANND). https://bit.ly/3nkW0Kk.
3. الجنايات تودع حيثيات حكمها في قضية التمويل الأجنبي للمجتمع المدني. https://bit.ly/3lhk3bd.
4. المركز الدولي للصحافة. تمويلات أجنبية للصحافة الجزائرية: وزارة الاتصال تدعو إلى “الاحترام الصارم” للقانون. https://bit.ly/36CF104.
5. الحكومة الأردنية. آلية التمويل الأجنبي في الآردن. https://bit.ly/3d1tCrU.
6. The European Federation of Journalists. Corruption in the media is killing ethical journalism, says EJN. https://bit.ly/2HT9Ovg.
7. ميغافون. https://megaphone.news/.
8. موقع درج. موقع درج-من نحن. https://daraj.com/who-we-are/.
9. مدى مصر. مدى مصر- عن مدى. https://bit.ly/3d477m8.
10. James Putzel and Joost van der Zwan. Why Templates for Media Development do not work in Crisis States. https://bit.ly/3ll56oq.
11. Why independent media. https://bit.ly/36ydMUB.
12. The Development Dictionary. https://bit.ly/2HW3a7v.
13. Mel Bunce & Kate Wright Martin Scott. Foundation Funding and the Boundaries of Journalism. 2019. https://bit.ly/2GI3vKo.
14. University of East Anglia. MAPPING THE FUNDING LANDSCAPE. https://bit.ly/36J7QIa.
15. RSF. Only nine percent of humankind lives in a country where press freedom is good. https://bit.ly/3npi2vp.