غالبا ما توصف الصحافة بأنها السلطة الرابعة، قياسا على السلطات الكلاسيكية الثلاث للديمقراطية: السلطة التنفيذية (الحكومة) والسلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة القضائية (المحاكم). وكما هو الحال تماما في هذه السلطات، فإن من الضروري للصحافة أن تتمكن من العمل باستقلالية تامة عن باقي القوى، حتى تتمكن من أداء وظيفتها الأساسية: الإخبار.
لا نجد هذا الأمر مطبّقا في كثير من الدول العربية، إذ هناك تاريخ طويل من الصحف المرتبطة ارتباطا وثيقا بالأحزاب السياسية، إلى حدِّ أن وصل هذا الأمر في المغرب مثلا خلال سنوات التسعينيات، أن إحدى الصحف اليومية المعروفة لم تكن تابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (اليسار) فحسب؛ وإنما كانت تحمل اسمه كذلك، وطوال عملها في المعارضة كانت تتمتع بشعبية كبيرة، حتى بدأت المشكلة تتبدى بعد وصول الحزب إلى السلطة.. كيف يمكن لصحيفة مملوكة للحزب الحاكم أن تتمتع بالنزاهة والمصداقية؟
في العالم العربي يعاني جزء كبير من الصحف اليومية من المشكلة ذاتها، فهي إما تنتمي للأحزاب، أو لشركات أخرى غالبا ما ينقاد مالكوها إلى الانخراط في شغل وظائف سياسية. وإن إنشاء وسيلة إعلام مستقلة ليس بالأمر السهل إطلاقا، وسط أجواء ينتظر فيها الناشرون والسياسيون والمنافسون بل وحتى القراء من كل وسيلة إعلامية أن تختار طرفا من الأطراف المختلفة، وأن تدافع عنه بإيمان يتجاوز كل الحقائق والبيانات.
وفي هذا السياق تحديدا، غالبا ما تبرز -مثل جزر من الحياد- بعض وسائل الإعلام، وخاصة الرقمية منها، التي تكون ممولة من مصادر أجنبية. وهنا لا نقصد تلك الوسائل الممولة من مؤسسات في دول الجوار؛ فهذا شائع جدا، حيث إن جزءا مهما من القنوات التي تبث في لبنان مثلا مملوكة لمستثمرين سعوديين، وإنما نقصد الوسائل الإعلامية الممولة من مؤسسات أوروبية أو أميركية، هي في بادئ الأمر ليست لها مصلحة مباشرة في النزاع السياسي بين الأحزاب والمرشحين والوزراء، أو على الأقل هذا ما تدّعيه.
عادة ما يكون ذلك صحيحا، فأغلب المؤسسات الغربية التي تعمل لصالح حرية الصحافة في الشرق الأوسط، تتمتع بقدر كافٍ من المصداقية، ولكن دائما ما يبرز خطر أن ينطوي ذلك عن أهداف أخرى على المستوى السياسي، وهذا ما يحدث في بعض الحالات كما تقول أولغا رودريغيث، وهي صحفية إسبانية تعمل منذ عقدين من الزمن في التغطية من بلدان مختلفة في المنطقة. ولكن بغض النظر عن وجود الأجندات الخارجية التي "بعضها أكثر من غيرها" بتعبير منسق مرصد أوراسيا البروفيسور مانويل فانكيث لينيان، فإن التأثير الأساسي للتمويل الأوروبي والأميركي هو في العادة إتاحة المجال لوسائل الإعلام في الرصد والتعامل مع قضايا خارجة عن الإطار السياسي المعتاد، مما يتسبب في إحداث حالة من الانزعاج لدى بعض القطاعات.
المثال التقليدي على ذلك هو حقوق المرأة، وأوضاع الأقليات العرقية والدينية، والهامش الذي يتيحه المجتمع للحريات الجنسية...، فهي مواضيع غالبا ما يبتعد السياسيون عن التطرق إليها من أي جانب، فهم يتنافسون جميعا على أصوات الناخبين في أوساط محافظة ودينية، ويهابون وضع أنفسهم في صدارة المشهد لاجتراح هذه القضايا، لذلك فإن الصحف المقربة إليهم تتجنب التطرق إلى تلك الموضوعات، ولا يستطيع فعل ذلك سوى الوسائل الإعلامية الممولة من الخارج.
من الأمثلة الجيدة في هذا السياق؛ الموقع الرقمي اللبناني"درج" الذي يتلقى تمويله من مؤسسة "المجتمع المنفتح" الأميركية والمنح الأوروبية للديمقراطية، حيث يضم قسما مخصصا لحقوق المرأة، وينشر تقارير عن العنف ضد المرأة في مقدمته، وأعمدة تحريرية للتنديد بتلك الانتهاكات. وكمثال آخر تبرز هناك عالمة الاجتماع والصحفية المغربية سناء العاجي التي تنشر بانتظام على موقع "الحرة"، وهو موقع عربي ممول من حكومة الولايات المتحدة، حيث تنتهج نظرة علمانية نسوية تجلب لها الكثير من الانتقادات من قبل التوجهات الأصولية.
لا يمكننا إنكار أن وسائل الإعلام هذه -بفضل التمويل الأجنبي- تستطيع أن تعكس وجهة نظر البعض، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة، التي تعتبرها الكثير من المجتمعات أفكارا أجنبية غير متوافقة مع الأعراف أو "القيم الوطنية". أما بالنسبة للصحفيات اللواتي يكتبن هذه التقارير والأعمدة الصحفية فسيسمونهنّ مستغربات. لكن، لو سألناهنّ أنفسَهن -ولا أقصد هنا ضحايا العنف ضد المرأة- فسيعترفن بأن الحرية والمساواة قيم عالمية وليست غربية.
رغم ذلك، لا يمكننا إنكار أن مجال الاهتمامات التي تتولاه صحيفة ما سيكون ترجمة مباشرة لتوجيهات الجهة الممولة. إن حقوق المرأة، استمرارا للمثال الذي طرحناه، وحتى الحريات الجنسية، تشكل جزءا من النقاش السياسي العام في البلدان التي يتم تحويل الأموال منها إلى وسائل الإعلام في المغرب ولبنان وغيرهما من دول المنطقة. وعندما يتم تسخير الجهد والمساحة لمثل هذه القضايا، ألن يكون هناك خطر من تشكّل وسيلة إعلام بقالب يتبع المصالح الأوروبية والأميركية؟ لا نقصد هنا بالضرورة الأهداف السياسية لحكومة ما، ولكني أقصد مصالح المجتمع ككل. ألن تبرز هناك خطورة من أن تعكس هذه الوسائل واقعا عربيا مطابقا لما تريده أوروبا؟ باختصار.. ألا يقع ذلك فيما أسماه إدوارد سعيد "الاستشراق"؟
هذا صحيح، ومما لا شك فيه أن الاستشراق بالمفهوم الذي صاغه إدوارد سعيد يشير إلى مرض يصيب الصحافة الأوروبية (لا أقول الأميركية)، فهناك توجه لتصوير البلدان العربية كلها بالمنظور ذاته، والمنظور الديني تحديدا، فغالبا ما يتم إبراز مظاهر التشدد الأصولي في الحياة الطبيعية. ومن الأمثلة على ذلك أن صورة الصفحة الرئيسية لأي تقرير عن بلد عربي دائما ما تكون لسيدة ترتدي الحجاب! يبرر التحرير ذلك بأنه إن لم تكن صورة لسيدة محجبة فكيف يستدل القارئ على أن الخبر يتحدث عن بلد عربي؟ لكن ذلك يسهم في تكوين صورة نمطية موافقة تماما لمفهوم الاستشراق، وهو مصطلح تمت صياغته كانعكاس للأسلوب الشعبي الذي ساد في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، حين جرت العادة على تصوير جناح الحرملك، ورقصة الأوشحة السبعة، والعبيد الذين يحملون سيوفهم القصيرة.
على أي حال، هل هذا ما يحدث في الصحافة العربية الممولة من مؤسسات أوروبية؟ بل العكس تماما سنقول، حيث إنه ليس المجتمع الأوروبي وحده من يفكر بالصورة النمطية، بل حتى المجتمعات العربية ذاتها، خاصة في الأوقات التي يتنافس خلالها السياسيون الشعبويون على كسب أتباع أو ناخبين عبر إطلاق كليشيهات وطنية أو دينية أو مزيج من كليهما. في هذا السياق، ولتجسيد القيم الوطنية، فإنه يتم دائما تجاهل الفروق الكثيرة داخل الواقع الاجتماعي بين الدول العربية؛ العرقية والدينية منها. وقد بدأ هذا مع نشاط الحركات القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث نودي بأمة عربية واحدة، لا حدود ولا فوارق أو خلافات بينها، كان يتم حينها إخفاء وحتى مطاردة العرقيات والألسن الحاضرة في البلد ذاته، كما نشأت في العقود المنصرمة تيارات أصولية متنوعة تنادي بالدين كعنصر أساسي أو وحيد لتحديد الهوية الوطنية، إلى جانب إسكات كافة الطوائف الأخرى الموجودة.
وأمام هذه الأيدولوجيات ذات الصبغة الشعبوية، والتي لديها أتباعها ومعها وسائل الإعلام التي تمثلهم، فإن وسائل الإعلام المستقلة ماليا هي التي يمكنها بلورة الخطاب، وأن تعكس الحقائق الاجتماعية المزعجة لكثير من السياسيين. وهي في هذا السياق تتصدى -أو على الأقل تمتلك القدرة على التصدي- للصور النمطية والكليشيهات التي يراها المجتمع في نفسه. كما أن بإمكانها كسر الكثير من الصمت الذي تلتزمه وسائل الإعلام الأخرى بسبب الإجماع الضمني للمجتمع على ذلك، حيث إنه في كل المجتمعات لا في المجتمعات العربية وحدها، هناك مواضيع غير مطروحة للرأي العام، لأنها تمس الأعراف الاجتماعية وقد تتسبب في الأذى، إضافة إلى أنها لا تجلب أصوات الناخبين، وأيّ سياسي يريد الفوز بالانتخابات فإنه سيعِد بتخفيض نسبة البطالة وبناء المستشفيات، لكنه لن يطلق حملة ضد التحرش الجنسي في الشوارع العامة مثلا، فهو لا يبدو موضوعا ذا أولوية، على الأقل بالنسبة للرجال الإسبان الذين يرون التحرش بصيغته اللغوية اللطيفة (الإطراء أو المجاملة) جزءا من ثقافتهم المجتمعية، في حين قد يكون أولوية إذا كان الاستفتاء موجها للنساء، وخاصة اللواتي عانين من التحرش الجنسي.
لذا، لا بد للصحف أن تنشر تقارير بالخصوص.. سيكون ذلك مفاجأة لنا بالتأكيد، لكنها مفاجأة جيدة، إنها جزء أساسي من النقاش الديمقراطي الذي يتحتم على الصحافة انطلاقا من واجبها الأخلاقي أن تدعمه وتعززه. ولا ننسى هنا أن الذين يعملون في هذه المؤسسات الممولة من الخارج ليسوا أجانب في العادة، بل في أغلب الأحيان يكونون صحفيين محليين أكفاء، يعرفون بلدهم جيدا، ولكن لديهم رغبة في التغيير، رغبة مشروعة في تحقيق الديمقراطية.
في هذا السياق، إذا طرحنا السؤال: هل تهتم وسائل الإعلام الممولة من مؤسسات أجنبية بهواجس وأولويات المجتمع حقا؟ فإن الإجابة ستكون "لا" في المقام الأول، فهي تعطي اهتمامها لقضايا لا تتنبه غالبية المجتمع إلى أنها أولويات نحو الوصول إلى مجتمع أكثر ديمقراطية، وهنا نقول إن الصحافة التي لا تنشر إلا ما يود القراء سماعه لا تستحق اسمها أبدا، ذلك أن إحداث الجلبة والإزعاج واجب أخلاقي على الصحافة.
ليس هذا دفاعا بالجملة عن كل الصحافة الممولة من منظمات أجنبية، فهناك أعداد هائلة من الأمثلة التي تثبت أن حكومات بعينها -وخاصة حكومة الولايات المتحدة- استخدمت مثل هذه الوسائل الإعلامية بشكل مباشر، بل وفي كثير من الأحيان دون إخفائها، للتأثير على السياسات الإقليمية وإشعال فتيل ثورات اجتماعية. لكن، مع أن هذه الأجندات السياسية مستنكرة، فإن النقاش الاجتماعي الذي يمكن لهذه الوسائل الإعلامية اجتراحه في موضوعات اتفقت معظم وسائل الإعلام على تركها، يمكن أن يشكل متنفسا صحيا لتلك المجتمعات.
وبالتأكيد فإن حكومة الولايات المتحدة ليست النموذج السياسي الذي نطمح إلى بلوغه، ولكن كي نتجنب ذلك، فإن من الضروري بالنسبة للصحافة أن تنسى المحرمات التاريخية وتقديس القيم الوطنية.