كان المشهد الصحفي اليمني معطوباً، لكن دخول إعلانات وسائل التواصل الاجتماعي، أسهم في تردي الوضع أكثر. لقد قرأنا كثيرًا عن تأثير الإعلان على الصحافة الورقية ورسالتها الإعلامية، لكن هذه الظاهرة انتقلت إلى الصحافة الرقمية، بعد أن صارت إعلانات "غوغل" تحيط بواجهة المواقع من كل جانب، وبذلك ضاعت الصحافة والقصص الإنسانية.
هذه الظاهرة التي صارت تشترك فيها غالبية الصحف الرقمية في اليمن، شكلت أحد أهم الأسباب في تغيير المحتوى الصحفي القائم على عُنصر الإثارة بسبب الإعلانات.
ولم تتشكل هذه المعادلة التجارية بين الصحافة الرقمية وإعلانات "غوغل"، إلا بعد أن خضعت البيئة الصحفية -بشكل عام- لظروف متعددة، من أبرزها توسع رقعة الحرب وحالة القمع ضد الصحافة وحرية الرأي، وظروف المعيشة التي قادت الكثير من الصحفيين اليمنيين نحو الصحافة الرقمية القائمة على الاكتفاء الذاتي عبر إعلانات "غوغل".
بداية الصحافة الرقمية
ظهرت الصحافة الرقمية في اليمن -لأول مرة- عام 1996 بإطلاق أول موقع لصحيفة "26 سبتمبر"(1)، ثم تبعته مواقع لصحف أخرى. لكن تلك المواقع كانت تعيد نشر مواد صحفها الورقية، وكان يغلب على هذه المواد طابع القصص الإخبارية المتأنية، والتحقيقات واللقاءات، فضلا عن نشرها بعناوين أكثر وضوحاً وموضوعية، وخالية من الإثارة الصاخبة لغرض "اصطياد" القراء.
ظلت الصحافة الرقمية بهذا المستوى حتى جاءت ثورة فبراير/شباط 2011، و"هاجر" الجمهور نحو وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما "فيسبوك" الذي استقطب جمهور الصحافة الورقية نحو الصحافة الرقمية.
وفي هذه الفترة، بدأ مُلّاك الصحافة الرقمية بالاشتراك في إعلانات "غوغل"، باعتبارها من أهم مصادر الدخل بفعل انتقال جمهور اليمنيين واستخدامهم لوسائل التواصل، فطغى الحس التجاري على المهنية الصحفية، وأصبحت لغة الإثارة بديلة لضوابط المهنة.
وتتقاسم "غوغل" الأرباح مع الناشر وتعطيه نحو 60% منها وتحتفظ بالباقي، ولكن الصعوبة تكمن في أنّ "غوغل" تدفع العائد المادي بحسب عدد النقرات، ومعنى ذلك أنه إذا دخل القارئ إلى الموقع ولم ينقر على الإعلان فلن يكون هناك مردود مالي. الغاية بالنسبة "غوغل" هو إقامة حركة على مواقع المعلنين، على أن يتراوح سعر النقرة بين سنت واحد إلى 15 دولارًا وأكثر في بعض الأحيان، وذلك حسب المعلن وحسب البلد الذي يوجد فيه القارئ(2).
ومع انتقال السلطة إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي، تسلّم نجله جلال مهمة ضخِّ الدعاية الإعلامية لصالح سلطة أبيه، ومهاجمةِ خصومه. وعلى هذا النحو، أنشأ عشرات المواقع الإخبارية وسيطر على محركات البحث التي يعتمد غالبية اليمنيين على استخدامها في متابعة الأخبار.
ومع أن هذا اللوبي الإخباري لم تكن لديه دوافع مادية تجارية مقابل تقديم الأخبار، إلا أنه انتهج الإثارة والغموض الشديدين في صياغة العناوين. كما تطرّق لمواضيع ليس لها أي هدف سوى لفت انتباه القُرّاء إلى محتوى غرضُه تعزيز توجهات السلطة، الأمر الذي ساهم في دفع بقية المواقع إلى نفس الطريقة لاستقطاب جمهور القُراء.
دخول جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) إلى العاصمة صنعاء يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014، رافقه صِدام مع الصحافة الورقية ومكاتب القنوات الفضائية الخاصة بحزب الإصلاح المعارض للجماعة، ما أدى إلى توقف تلك الصحف، بينما استمرت بقية الصحف الأهلية والرسمية الصادرة عن الدولة بعد سيطرة الحوثيين عليها وتغيير سياساتها.
وضاعف من معاناة الصحافة والإعلام اليمني -بشكل عام- التدخلُ العسكري للتحالف العربي نهاية مارس/آذار 2015، فتحولت البيئة الصحفية إلى مربع كبير مليء بالألغام، قُتل خلاله 35 صحفيًّا ومصورًا منذ بداية الحرب، وفقًا لما سجلته نقابة الصحفيين اليمنيين في تقريرها السنوي لعام 2019(3).
ورغم خطورة هذه البيئة الملغومة التي يعيش فيها الصحفي، فإنها أحدثت نقلة كبيرة للصحافة الرقمية، فهي البيئة التي يمكن للصحفي العمل من خلالها متخفيًا بعد أن فقد حرية العمل في الصحافة الورقية والقنوات الفضائية المعارضة، سواء في مناطق الحكومة الشرعية أو في مناطق الحوثيين، حتى بلغ عدد المواقع الإلكترونية العاملة في الساحة اليمنية 267 موقعا.
صحافة بدوافع تجارية
فرضت الحرب تأثيرًا سلبيًّا على مسار المهنية الصحفية، إذ لجأ كثير من الصحفيين إلى المنصات الرقمية، والاعتماد على إعلانات "غوغل" كأحد أهم مصادر الدخل بعدما فقدوا أعمالهم.
في هذا السياق، يقول رئيس تحرير "الموقع بوست" عامر الدميني إن إعلانات "غوغل" ساهمت في تردي الصحافة وإضعاف محتواها، وفقدان الثقة بالعمل الصحفي نفسه.
ويضيف الدميني في تصريح لمجلة الصحافة، أن دوافع هذه الإعلانات بالنسبة لشركة "غوغل" تجارية بحتة، لكنها -في وضع الصحافة الإلكترونية- أدت إلى تعزيز انتشار الصحافة الصفراء التي تعتمد على الإثارة في لفت الانتباه للحصول على أكبر عدد من الزيارات، وبالتالي تحقيق أعلى فائدة من الأرباح.
ويوضح في السياق نفسه أن "هذه الظاهرة أثرت بشكل كبير على الصحافة وعلى مفهوم العمل الصحفي نفسه، وتحولت المهنة إلى وسيلة للاسترزاق والتكسب بدلا من تقديم عمل صحفي جاد ومهني. وبالتالي، التحق بهذه الوظيفة الكثيرون ممن جاؤوا من خارج ميدان الصحافة ليمارسوا العمل الصحفي بحثًا عن الربح، وشهدنا ولادة عشرات المواقع الصحفية التي تتكاثر كل يوم بشكل أفقي، بينما ظلت الصحافة الإلكترونية الجادة بعدد أصابع اليد".
وفيما يتعلق بأساليب هذه المواقع في صياغة المواد الصحفية، يؤكد الدميني أنها "تختلق العناوين المثيرة لجلب القراء بعدة أشكال وأساليب، وباتت تغلّب المال على الصحافة، ولا يهمها تقديم المعلومة الصحيحة بقدر ما تركز على كيفية رفع عدد الزيارات اليومية، مما أثر سلبا على جودة المحتوى الصحفي، وأدى إلى ضياع الحقيقة، وانحطاط الرسالة الصحفية، وبروز جيل من العاملين في الميدان الصحفي منسلخ عن أخلاقيات المهنة، وبلا رصيد حقيقي".
من جهته، يقول رياض الأحمدي، وهو مطور تقني في مجال الصحافة الرقمية: "هناك موجة كبيرة من المواقع الإخبارية التي تنتهج الإثارة في العناوين على حساب الدقة؛ وذلك بغرض التربح من إعلانات غوغل".
وعن تأثير هذه الإعلانات على المحتوى الصحفي، يؤكد الأحمدي في حديثه لمجلة الصحافة أنها أثرت سلبا على المواقع المنضبطة بالمواثيق الصحفية والمعايير المهنية، بعدما أصبحت بحاجة إلى المنافسة وجلب الزوار.
حدود الإثارة
وبما أن الإثارة تعد من عناصر الخبر الصحفي، فإن محرري ومالكي المواقع التي تعتمد على التكسب، يعتبرون وجودها في العناوين إبداعا في القدرة على صياغة عناوين تلفت انتباه القُراء ولو على حساب المهنية.
لكن هذه الإثارة "قائمة على الانحياز التحريري والمبالغة في إثارة الأحداث والمواضيع في القصص الإخبارية لزيادة أعداد المشاهدين أو القراء. كما تتضمن الإخبار عن الأمور والأحداث التافهة التي لا تؤثر على المجتمع ككل، وتكون عروضها من الأخبار المهمة منحازة نحو الإثارة بطريقة تافهة، وتستخدم أساليب تجعل المادة الخبرية مثيرة للجدل، وتحذف عمدًا الحقائق والمعلومات... وأحيانا يتم تحريف المعلومات والأحداث التافهة ويتم المبالغة فيها على أنها مهمة أو كبيرة"(4).
ويتسم هذا الأسلوب من الإثارة في صياغة عناوين على النحو التالي:
-
عرض معلومات كاذبة في العنوان وغير واردة في ثنايا الخبر، مثل: "اليمن يستفيق على خبر يثلج صدور اليمنيين ويوجه ضربة موجعة للحوثيين والإمارات"، بينما مضمون الخبر لا يتحدث عن الإمارات ولا عن الحوثيين.
-
أن يحمل العنوان أكثر من معنى، مثل: "بن دغر يعلن التعرض لاحتيال نصاب محترف"، في حين يتضمن متن الخبر معنى آخر.
-
الغموض في العنوان؛ بحيث يصبح غير واضح، لأن العنوان المبهم لا يخبر عن وقائع تجذب الانتباه وتدفع إلى معرفة تفاصيلها.
-
الجنوح إلى المبالغة أو التهويل؛ لأن العنوان سيصبح بعد ذلك رأيًا في حين يجب أن يكون الخبر والعنوان محايدين (5).
يواجه المتصفحُ هذه العناوينَ المثيرة أمامه في محركات البحث أو في صفحات وسائل التواصل، فيقوم بالنقر على رابط أحدها، كي يتابع تفاصيل القصة الخبرية بما يكشف غموض العنوان، لكنه لا يحصل إلّا على معلومات مُجتزأة لا تكتمل فيها أركان القصة. فضلاً عن اكتظاظ محيط الصفحة بإعلانات "غوغل" الصاخبة، ليجد نفسه قد تحول إلى سلعة يعرضها الموقع أمام شركات الإعلانات.
ما حدود الإثارة المهنية كعنصر من عناصر الخبر؟
اقترن تعريف الخبر المهني بالإثارة وهو "الخروج عن المألوف" ومثال ذلك "رجل يعضُّ كلبًا"، ولطالما كان هذا المثال هو التفسير البسيط للإثارة المهنية، لأنه خرج عن المألوف وقدم معلومة صحيحة (6). إضافة إلى أن الإثارة المهنية تعمل على تحرير الجمود والرتابة، فتستخدم مثلا صيغة التساؤلات "هل يشهد اليمن نهاية الحرب في 2021؟".
وتقدم أستاذة الصحافة في كلية الإعلام بجامعة صنعاء الدكتورة صباح الخيشني تفسيرًا لحدود الإثارة، وتقول: "إن عوامل الجذب مهمة جدًّا في الخبر وبخاصة في العنوان، وذلك لإثارة اهتمام القارئ ومتابعته، ولكن حين تختزل كل تلك العوامل في الإثارة فقط بدون مصداقية أو سبق أو زاوية جديدة في الحدث، فهي إثارة مؤقتة سرعان ما تنتهي عند السطور الأولى من الخبر، حين يتبين أن العنوان في واد والخبر في واد آخر".
وتضيف الدكتورة صباح في حديثها لمجلة "الصحافة" أن "الإثارة مطلوبة، لكنْ ثمة فرقٌ بين الإثارة المهنية التي توصل الخبر أو الحدث بأدق تفاصيله، وبين الكذب والفبركة الإعلامية لأحداث لم تقع أساسًا، وتصريحات تُنسج من خيال الصحفي".
وترى أن المشكلة الكبيرة التي تعاني منها الصحافة الرقمية في اليمن هي "ضعف المصادر الإخبارية، فمحرِّرو أغلب المواقع يتناقلون الأخبار من بعضهم البعض أو من موقع لآخر، والممتاز فيهم من يُجري تغييرا طفيفا في العنوان ويحرّك الفقرات، لذلك يغلب على هذه المواقع طابع الإشاعات لا الأخبار المهنية المبنية على المصادر".
والإثارة المهنية، دائماً تكون متلازمة مع عنصري المصداقية والموضوعية، وباجتماع العناصر الثلاثة؛ يكون الخبر جذاباً ومشوقاً وفي الوقت نفسه يحتوي على مادة خبرية مهنية متكاملة، وفي حال اختلت هذه العناصر يفقد الخبر مصداقيته وينزلق نحو الإثارة الصفراء.
البحث عن حل
إن محاولة البحث عن حلول للحد من ظاهرة الإثارة غير المهنية في المواقع الإخبارية اليمنية يتطلب جهداً كبيراً لدى الجهات المسؤولة في البيئة الصحفية، ولا سيما أن البلد يعيش في ظروف حرب مستمرة منذ خمسة أعوام، وتدهور الأوضاع المادية للصحفيين، وضياع ضوابط المهنة.
وقد وضعنا من بين الحلول، خمسة مقترحات تتمثل في الآتي:
-
أن تقدم نقابة الصحفيين دورات تدريبية عبر الشبكة العنكبوتية في مجال أخلاقيات المهنة الصحفية، تستهدف مالكي ومحرري صحافة الإثارة المنفلتة أو غير المهنية، والتواصل معهم باستمرار.
-
صناعة مقاطع فيديو قصيرة دورية تعزز أخلاقيات المهنة الصحفية لدى محرري المواقع الإلكترونية، لتكوين وعي بالمسؤولية الإعلامية كبديل لمغريات إعلانات "غوغل".
-
تقديم دراسات تقييمية للصحافة الرقمية ومدى التزامها بالمهنية، ونشر الأخطاء التي تمس أخلاقيات المهنة وقيم المجتمع، لتوعية الجمهور بحقيقة هذه المواقع وانحرافها عن رسالة الإعلام (8).
-
إنشاء محركات بحث إخبارية تجمع فيها المواقع الإلكترونية المهنية، بحيث تصنع للقارئ وعيًا بمصادر المعلومات الصحيحة، بدلا عن المحركات التي تحتوي على مواقع الإثارة غير المهنية.
-
الدفع بإنهاء الحرب وإحلال السلام، باعتبارها أحد أسباب انتشار ظاهرة مواقع الإثارة التي دفعتهم للتكسب عبر إعلانات "غوغل".
الإعلام في اليمن كان معطوبا في الأصل لكن بعد أن سيطرت عليه إعلانات غوغل، أصبح يعاني من مشكلة بنيوية، تضاف إلى الاستقطاب السياسي الحاد.
المصادر:
(1) رسالة ماجستير، للباحثة سمية عبد السميع أنعم، جامعة، مارا في ماليزيا، بعنوان: "الصحافة الإلكترونية في اليمن: تحليل الممارسات الأخلاقية في مواقع الأخبار" (ELECTRONIC JOURNAILISM IN YEMEN: AN ANALISIS OF ETHICAL PRACTICE IN NEWS WEBSITES)
(2) كيف تكسب المواقع الإلكترونيّة أموالا طائلة؟ موقع النهار، للمزيد كما في الرابط التالي:
https://www.annahar.com/arabic/article/670447-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA…
(3) إحصائية مقتل 35 صحفيا ومصورا لا تشمل القتلى الصحفيين لدى جماعة الحوثي التي تفرض تكتمًا على حجم خسائرها البشرية.
(4) مفهوم الإثارة، ويكيبيديا، للمزيد كما في الرابط التالي:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%AB%D8%A7%D8%B1%D8%A9_(%D8%B5%D8…
(5) د. علي العمار، الخبر الصحفي ومصادره، دار جامعة صنعاء للطباعة والنشر، 2012.
(6) صالح شاكر وتوت، الصحافة والإعلام، للمزيد كما في الرابط التالي:
https://abu.edu.iq/research/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A8%D8%B1-%D8…
(7) قدمت مؤسسة "حرية" اليمنية المتخصصة بشؤون الصحافة والإعلام عام 2013، تجربة في الرصد والتقييم الشهري لتغطيات المواقع الإخبارية، ومدى التزامها بمهنية الصحافة.