الحياة في مقاطعة شينجيانغ في أقصى غرب الصين، محاطة بالسرية؛ كاميرات للتعرف على الوجوه منتشرة في كل مكان تقريبا، وطائرات تجري مسحا يوميا فوق الحدود، نقاط تفتيش تابعة للشرطة في كل زاوية.
يفصّل تقرير حديث لـمنظمة حقوق الإنسان النظام الذي تستخدمه الشرطة الصينية لمراقبة السكان في المقاطعة، عبر استخدام برمجية مخصصة لمراقبة وتخزين بيانات أكثر من 13 مليون من الإيغور وغيرهم من المسلمين الأتراك في شينجيانغ.
التغطية الصحفية تبدو معقدة داخل وخارج الصين. يروي الصحفيون الذين يسافرون إلى شينجيانغ لتغطية ما يحدث للجالية المسلمة الإيغور، قصصاً عن الشرطة التي تتبع كل خطوة. يقول مجتمع الإيغور في الخارج إنهم يشعرون أنهم مراقبون، على الرغم من أنهم يعيشون على بعد مئات وآلاف الكيلومترات من الصين؛ إذ يزعم البعض وجود مخبرين في عدد من الدول أرسلتهم الحكومة الصينية للتوغل داخل مجتمعات الإيغور في الشتات. لذا يتحفظ كثير من الإيغور في الخارج عن التحدث إلى وسائل الإعلام، خوفًا من تداعيات على وضعهم القانوني في الصين أو خوفا على مصير أقاربهم هناك.
أما أولئك الذين اختاروا الخروج عن الصمت والتحدث عما يحدث في شينجاينغ، برروا ذلك بأنهم يأملون في أن يساعد تسليط الضوء على الأحداث في إبراز قضيتهم، أو ببساطة لأنهم يشعرون أن ليس لديهم ما يخسرونه لأن أقاربهم سجنوا بالفعل.
"يبدو الأمر كما لو أن أحدهم يتتبع كل تحركاتك وأن حياتك كلها تحت رحمة أحدهم - يصبح الأمر فجأة حقيقيًا ويهدد حياتك".
لذلك ، كيف يمكننا أن نروي القصة في خضم كل هذا، وفي واحدة من أكثر المناطق تقييدا في العالم؟ كيف نُغطّي موضوعًا معقدًا مثل قضية الإيغور -موضوع ينطوي على تاريخ طويل من التوتر وشبهات كثيرة حول وجود انتهاكات لحقوق الإنسان- كيف نحوّل ذلك إلى فيلم وثائقي قادر على نقل جزء من تلك الصورة؟ وكيف يمكننا أن نلقي نظرة قريبة على حياة الناس هناك - المسلمين الإيغور- والكيفية التي تأثروا بها في ظل تعرضهم لمراقبة حثيثة من السلطات الصينية ضمن محيط مغلّف بالسريةا؟
هذه كانت مهمتنا خلال الأشهر الماضية، لقد نشرنا فيلما وثائقيا مصوراً بتقنية الواقع الافتراضي بعنوان "العيش في المجهول"، وفيه استخدمنا مزيجاً من القصص الشخصية واللقطات الأرشيفية والرسومات لعرض محنة شعب الإيغور، داخل الصين وخارجها.
ولتحقيق ذلك:
1. عملنا مع الطاقم الصحيح.
"العيش في المجهول" لم يكن أول عمل لنا في تغطية قضية الإيغور. فبعد بدء انتشار الأنباء عن الاعتقالات الجماعية التي تمارسها الصين في شينجيانغ، نشرنا قصتنا الأولى التي توثق هذه القضية من وجهة نظر الأم وابنتها من الإيغور في أغسطس 2018. ومن خلال فيديو مصور بتقنية 360 درجة، رافقنا خديجة عبد الرشيد في يوم طبيعي لها في مدينة إسطنبول التركية، حيث لجأت وابنتها بعد اعتقال زوجها في مصر عام 2017 -حيث احتجزت الشرطة المصرية العشرات من طلاب الإيغور بناءً على طلب من بكين-. في فترة التصوير، لم تكن خديجة قد سمعت أي شيء عن زوجها منذ ما يقرب العامين.
الفيديو، الذي تم تصويره من قبل الصحفيين المستقلين أوسكار دوراند وأوزجي سبزيزي في أكتوبر 2018 - وقمنا بعمل المونتاج في Contrast - سرعان ما اكتسب اهتماما واسعاً بعد نشره عبر الإنترنت.
عندها قررنا العمل على أكثر من مقطع فيديو اجتماعي مدته دقيقتان، وفي محاولة لتسليط الضوء على المشكلة قمنا بإنتاج فيلم وثائقي أطول وأكثر عمقاً. ومع ذلك، فإن التعامل مع مثل هذه القضية المعقدة والمتعددة الأطراف - منظمات حقوق الإنسان ونشطاء الإيغور من جانب والصين من الجانب الآخر- عرفنا أن هناك قدرًا هائلاً من البحث وأجرينا عديد الاتصالات التي يتعين علينا القيام بها من أجل الوصول إلى السردية الأكثر دقة في هذه القصة.
ونظرًا لحساسية الموضوع، كان من الضروري أيضًا تشكيل طاقم إنتاج على دراية بالمنطقة، والشخصيات والمسؤولين المعنيين الذين يمكن الوثوق بهم لجمع لقطات نحتاجها لبناء القصة بموضوعية.
طاقم الإنتاج مع إحدى الشخصيات، حبيب الله محمد، وزوجته، في منزلهما في اسطنبول.
سيمينا ميستريانو صحفية مستقلة تعمل حالياً في الصين، شاركت معنا في العمل على فيلم "العيش في المجهول" كمراسلة ومنتجة ميدانية. بعد أن قدمت سابقًا تقريرًا من شينجيانغ نفسها، استفدنا من خبرتها في قضية الإيغور خلال تنفيذ المشروع، الذي كان بمثابة خلفية مهمة وأساسية لتقريرها أيضاً في تركيا.
تقول: "تعد شينجيانغ من أكثر أزمات حقوق الإنسان إلحاحًا في تاريخ الصين الحديث، وهي إحدى القضايا التي يصعب فهمها بشكل كامل".
ومن المثير للاهتمام، وفقاً لسيمينا، أن التحدي الرئيسي الذي يواجه الصحافيين الذين يعملون على تغطية هذه القضية ليس الرقابة الشرطية الشديدة فحسب، "إن زيارة شينجيانغ كصحفية أمر صعب، لأن شرطة الولاية تتبع كل خطوة وتمنعك من التحدث إلى الناس. لكن ربما يكون التحدي الأكبر هو جعل القراء والمشاهدين يتفاعلون مع مصير وقصص مجموعة من الأشخاص الذين لم يسمعوا شيئًا عنهم، في وضع معقد كهذا. كان من المهم بالنسبة لي تغطية هذه القضية من جميع الزوايا الممكنة تقريبًا، بما في ذلك تجارب الأسر التي تعيش في تركيا دون أن أتمكن من التواصل مع أحبائهم في شينجيانغ" تقول سيمينا.
يتألف الطاقم أيضًا من مساعد إنتاج من الإيغور ويعرف المجتمع في إسطنبول جيدًا. عبدولي أيوب كاتب ومعلم فر من الصين، بعد أن أمضى بعض الوقت في معسكرات الاعتقال في شينجيانغ. سهّل وجود عبدولي مع الطاقم الوصول إلى القصص، لأن الشخصيات شعرت بالراحة وكانت على استعداد للتحدث معه. يتمتع عبدولي أيضًا بخبرة كبيرة في العمل مع العديد من وسائل الإعلام العالمية، والتي كانت ميزة مهمة، خاصة عند العمل على إنتاج قصة بقالب صحفي غير مألوف نسبيا مثل الفيديو بتقنية 360 درجة.
بعد التزامنا بتضمين أكبر عدد من الأصوات من المجتمع في عملية الإنتاج وما بعد الإنتاج، بحثنا أيضًا عن موسيقيين من الإيغور لتأليف موسيقى الفيلم الوثائقي، ووصلنا إلى رحيمة محمود المترجمة والمغنية المقيمة حاليًا في لندن، واستخدمنا موسيقاها لينغمس المشاهد بتجربة موسيقية أصيلة من الإيغور. وهو ما يقودنا إلى النقطة التالية.
2. إبراز الجانب الشخصي من حياة المصدر
كما هو الحال في جميع أعمالنا، اخترنا تضمين عنصر شخصي قوي في الفيديو، حيث يحقق ذلك صدى كبيرا وتفاعلا من المشاهدين تجاه شخصيات القصة. شاركتنا خديجة قلقها ومخاوفها بشأن زوجها المسجون، وعن الحياة التي كانت تحاول أن تبنيها من أجل زوجها في اسطنبول. من خلال قصة خديجة، تمكن المشاهدون من رؤية وفهم وتذكر الآثار الحقيقية لشبهات انتهاكات حقوق الإنسان المتهمة فيها الصين. أردنا أن نستمر بذلك خلال تنفيذ فيلم "العيش في المجهول"، لذلك حرصنا على متابعة قصة خديجة وتضمين أصوات المزيد من الأشخاص ضمن مجتمع المغتربين الإيغور.
في كل من اسطنبول والصين، كان إظهار مشاعر "الأسرة" أمرًا هاماً من أجل أن يفهم المشاهدون محنة شعب الإيغور. تمكن العديد منهم الخروج من شينجيانغ بحثًا عن مكان يمكنهم فيه ممارسة دينهم بحرية وتعزيز ثقافتهم، لكن الكثيرين يفعلون ذلك على مضض. لأنه في كثير من الحالات، اضطر الناس إلى ترك عائلاتهم وجوانب حياتهم المفضلة في "الوطن".
لقد قارننا بين حياة الشخصيات الحالية وذكرياتهم التي تركوها خلفهم هناك، في شينجيانغ، لنتمكن من وضع المشاهد في صورة الحياة اليومية للإيغور في المهجر (واللاجئ أو النازح من بلده بشكل العام). وكان هذا هو النهج الذي نتبعه في جعل المشاهدين أكثر قربا من موضوع معقد مثل قضية الإيغور، بالإضافة إلى محاولتنا إعادة الهيمنة للعنصر الإنساني داخل السردية الإخبارية، والتي غالبا ما كانت جافة تكتفي بسرد الحقائق المنشورة من قبل المنظمات الإنسانية وتميل للتعامل بلغة الأرقام التي تحول دون تعاطف المشاهد مع الضحية.
بالإضافة إلى ذلك ، كان من المهم سرد هذه القصة من خلال تقنية الواقع الافتراضي. وذلك لأن هذه التقنية تمنح المشاهد فرصة الانغماس في القصة وتمكنه من الشعور بأنه موجود معنا في تلك الغرفة التي أجرينا فيها المقابلة. وبهذه الطريقة، يمكننا تقريب المشاهد قليلاً من الأشخاص الذين يشعرون أنهم "منسيون".
تتعلق الصحافة الغامرة (Immersive Journalism) بالموقع والإعداد، لذا كان من المهم لنا أن نوثق المكان الذي يعتبره العديد من الإيغور "الوطن".
"نأمل أن نتمكن من جلب المشاهدين إلى منازل عائلات الإيغور في تركيا، لنساهم في خلق حالة من التعاطف وبناء التواصل. يشعر الإيغور أن مصيرهم لا يهم بقية العالم، فهم وحدهم. تقول سيمينا: "نأمل أن تساعد الصحافة الغامرة في تغيير ذلك".
3. عرضنا الحقائق من خلال "رسائل قصيرة"
أردنا تسليط الضوء على القضية بشكل دقيق وواضح. هذا يعني طرح بعض الأسئلة المهمة التي أجبرتنا على التفكير في كيفية الجمع بين القصص الشخصية للإيغور (الذين تأثروا بشكل مباشر بانتهاكات حقوق الإنسان المزعومة) مع سياق مهم:
ماذا تقول الصين عن هذه الاتهامات؟ كيف نمثل موقف الصين من هذه القضية؟
كيف نوضح المحادثات الدولية الجارية بشأن هذه المسألة، بطريقة مثيرة للاهتمام بصريًا ومتناسبة مع بيئة غامرة؟
لذلك، جمعنا لقطات أرشيفية (ومقاطع صوتية ذات صلة) من حزم أخبار الجزيرة السابقة ومختلف وكالات الأنباء. لكننا لم نرد فقط تركيب النص والفيديو والصور ضمن لقطات 360 درجة، لأن ذلك سيكون عبئًا زائدًا على المعلومات، خاصةً في الفضاء الغامر. فقررنا تقديم المعلومات في شكل محادثة ضمن تطبيق مراسلة افتراضي. مع الأخذ في الاعتبار تطبيقات المراسلة التي كانت الأكثر شيوعًا في مجتمع الإيغور، أنشأنا "واجهة" استخدمناها لتضمين جميع المعلومات اللازمة كـ "رسائل" يتم إرسالها مباشرةً إلى المشاهد.
هذه الطريقة التي نقلت الموقف المؤلم الذي يعيشه الأويغورون في الشتات، يشيع استخدامها في جميع أنحاء العالم، لكن في حالة الإيغور فإن وسيلة التواصل هذه تكون غير ذي جدوى لأنهم لا يستطيعون إرسال رسالة لأقاربهم بهذه البساطة. يتذكر الإيغور الذين يعيشون في الخارج كيف يقوم أقاربهم بوقف الاتصال بهم والتوقف عن مراسلتهم؛ خوفا من أن تتهمهم السلطات الصينية بالتواطئ معهم، نظرا لأن الصين تعتبر الإيغور في الشتات كبؤر محتملة للتطرف، وبالتالي، تراقب عن كثب أي اتصال.
بعض الأمثلة:
لإظهار الرد الرسمي للصين: "لن نقبل الاتهامات ذات الدوافع السياسية من عدد قليل من الدول المليئة بالتحيزات وبعيدة كل البعد عن الحقائق ..." مقتطف من خطاب لي يوتشنغ أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، نوفمبر 2018 (فيديو)
لتضمين تقرير حقوق الإنسان: "لقد وثقنا التعذيب. وثقنا سوء المعاملة. "صوفي ريتشاردسون ، منظمة حقوق الإنسان (صورة + صوت)
يريد العالم أن يعرف ما يحدث في شينجيانغ، لكن المنطقة تظل من أكثر المناطق المعزولة في العالم. السرية والافتقار إلى معلومات يمكن التحقق منها، جعلت من إنتاج هذا الفيلم مهمة صعبة للغاية، ولكننا نجحنا في إضفاء الحيوية على القصة من خلال الجمع بين الحسابات الشخصية للشتات الإيغور مع اللقطات الأرشيفية والمعلومات السياقية الأخرى. استخدمنا أيضًا رسومات فريدة لتزويد المشاهدين بوجهات نظر كل من الحكومة الصينية وجماعات حقوق الإنسان بطريقة مبتكرة وخلاقة. كانت هذه التقنيات مجتمعة هي أفضل طريقة لرواية قصة غامرة تغطي التاريخ الطويل للتوتر وانتهاكات حقوق الإنسان المزعومة والمطالبات من أطراف متعددة، مع جعل القصة المحورية تدور حول حياة أولئك الذين تأثروا بشدة المراقبة الصارمة والسرية في شينجيانغ: شعب الإيغور.