مطلع مارس/آذار 2013، زُرت الولايات المتحدة الأميركية للمرة الأولى في رحلة دراسية استغرقت ثلاثة أسابيع، ضمن برنامج أعده المركز الدولي للصحفيين.
باحثا عن أسرار المهنة وتفاصيلها، جُلت في أشهر صالات التحرير.. واشنطن بوست ويو.أس توداي. وفي الطابق الثامن من واشنطن بوست، كان بانتظاري مدير التحرير ومديرة قسم الشؤون الدولية وشاب يدعى "يوري" عَرَّفَ نفسه بأنه مدير قسم الديجيتال ميديا. يوري الأصغر مني سنا يشغل منصبا حيويا في الصحيفة الذائعة الصيت بأميركا، لذا كان عمله موضع اهتمامي.. سألته عن مهامه اليومية فقال: أحرر قصصا تثير الانتباه وأسردها بطريقة تفاعلية تناسب نمط متصفحي المواقع الإلكترونية، وأستخدم في ذلك بعض الأكواد. ثم أخذ يعرض لي قصته الأخيرة عن حركة الرياح فوق الولاية وكثافة الثلج المتساقط من خلال صورة بانورامية تحمل كما من البيانات.
كان هذا قبل ثلاث سنوات من معرفتنا نحن لهذه التقنية بعدما أتاحتها لنا شبكات التواصل الاجتماعي.. أدركتُ حينها أن الصحافة لم تعد تقتصر على كتابة القصة بحرفة لغوية فقط، وأن الخبر لم يعد أن يعض الرجل كلبا، والصراع ما عاد على الوصول إلى السبق الصحفي. ولا شك أن الصورة النمطية المأخوذة عن الصحفيين في السنوات الأخيرة قد تغيرت بشكل ملحوظ مقارنة بما كانت عليه في القرن الماضي، فلم يعد الصحفي يقف أمام جهاز الفاكس ينتظر وصول إشعار حكومي ليحرره وينشره، ولم يعد يحمل في حقيبته قصاصات الورق الداكنة ليدون عليها تصريحات المصادر. فصحفيو اليوم يمكثون الوقت الأكبر من ساعات عملهم أمام أجهزة الحاسوب يراقبون الأحداث ويبحثون عن المعلومات التي يمكن أن تقودهم إلى قصص صحفية مثيرة لاهتمام القراء. وكذلك تغيرت سمات القارئ أيضا بشكل سريع تماشيا مع تطور التكنولوجيا، فالقارئ الذي كان يستقطع من يومه بضع ساعات ليتصفح الجريدة في شرفة منزله؛ لم يعد موجودا في الوقت الراهن.
لقد جلبت التكنولوجيا معها أسلوبا جديدا في العمل الصحفي، تغيرت بمقتضاه الممارسات الصحفية القديمة. وبالتزامن مع المزج الذي شهدته غرف الأخبار بين ممارسات العمل الصحفي التقليدي، وما يمكن أن تقوم به أجهزة الحاسوب من تخزين وتنظيم للبيانات، وكذلك إخراج وعرض القصة الصحفية بطريقة أكثر تفاعلية وجذبًا للقارئ،تخلصت الصحافة من مشكلة ندرة البيانات بفضل تطور وسائل التواصل الحديثة. فبين الحين والآخر يظهر عدد جديد من التسريبات والوثائق، وكان آخرها "وثائق بنما" التي كشفت الغبار عن شبكات الفساد والتهرب الضريبي حول العالم.
لكن البيانات الخام وحدها لا يمكن أن تصبح قصة صحفية، فمن الصعب أن يتصفح القارئ جداول البيانات الضخمة ليستنتج المغزى منها. مع هذا، لا يمكن الجزم بأن القارئ غير مهتم بقواعد البيانات، فهو يعرف أن خلف هذه الأرقام الكثير من القصص والأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها إلى معادلات حسابية بسيطة وحرفيَّة في سرد الأرقام، فيأتي دور وسائل الإعلام والصحفيين لتقديم قصة صحفية يفهمها القارئ.
وليتماشى الصحفي مع عالم الصحافة اليوم، وخصوصا صحافة البيانات، فإنه بحاجة إلى امتلاك العديد من المهارات التي قد تمثّل نقطة التقاء عدد كبير من المجالات. ومن تلك المهارات القدرة على جمع البيانات من بين مجموعة واسعة من المصادر المختلفة، بالإضافة إلى مهارات التعامل مع محركات البحث على الإنترنت بهدف الوصول إلى البيانات والقدرة على جمعها ونقلها من صورتها الأصلية إلى جداول بيانات داخل تطبيقات الحاسوب التي تسهّل عملية تنظيمها وعرضها.
العديد من تلك المهارات يندرج تحت الممارسات التقليدية للعمل الصحفي، لكن بتغير التقنية أو الأداة، فمن المهارات ما هو مرتبط بتطور أسلوب سرد القصص الصحفية لتأخذ صورا بصرية تفاعلية وجاذبة، ومنها ما هو متعلق بمهارات التعامل مع البيانات للحصول على قصة صحفية بداخلها، مثلالسعي نحو الإجابة على أسئلة معينة، أو العمل على إحصائية اكتشفت أنها خاطئة.. أن تدع الأرقام تخبرك بموضوع القصة الصحفية التي يمكن أن تكون غير مُقررة أو أن تتغير بعد أن تبدأ العمل.
الحصول على البيانات
هناك طرق عديدة للحصول على البيانات، منها ما يتم بطريقة مباشرة من خلال استطلاعات الرأي أو المشاهدة والتجربة، أو غير مباشرة مثل مطالبة المؤسسات والهيئات الحكومية وغيرها بالإفصاح عن حزم محددة من البيانات يحتاج إليها الصحفي لإثبات فرضية تقوم عليها قصته الصحفية.
أما الطريقة الأخرى -وهي أسرع وأسهل- فهي البحث عن البيانات على شبكة الإنترنت من خلال محركات البحث المختلفة أو في المواقع المعنية بنشر قواعد البيانات، وهنا ينبغي على الصحفي التعرف على المهارات المناسبة لكل طريقة، فالجمع المباشر للبيانات يحتاج إلى أسس اختيار العينة وطرق منهجية لبناء استطلاعات الرأي، كما أن مطالبة المؤسسات والهيئات تحتاج إلى معرفة الصحفي بالحد المسموح لحق المطالبة بالبيانات وكيفية التفاوض مع هذه المؤسسات للحصول عليها.
أما الطريقة الأخيرة فتتطلب معرفة الصحفي بمهارة البحث على شبكة الإنترنت واستخدام الكلمات المفتاحية المناسبة التي تقوده للعثور على البيانات التي يحتاجها بالصيغة التي يمكنه التعامل معها.
وقد يستغرق البحث عن البيانات وقتا أطول إذا لم يكن لدى الصحفي مهارات في البحث على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ويُفضّل دائما استخدام الصحفيين حق الحصول على المعلومات الذي يتيحه القانون في بعض بلاد العالم، لمخاطبة الهيئات والمؤسسات الحكومية لتزويدهم بالبيانات المطلوبة.
تجريف البيانات
قد تكون هي المرة الأولى التي تسمع فيها هذا المصطلح يتداول بين الصحفيين، والمقصود به هو عملية استخراج البيانات من الصيغ المختلفة التي عادة ما تكون صعبة التعامل معها حاسوبيًّا، ثم وضعها في صورة يسهل بها تفعيل تعامل تطبيقات الحاسوب مع حزمة البيانات.
قد تنجح في العثور على البيانات المطلوبة، لكنك ستجدها غالبا معقدة، ولن يسعفك الحظ دوما في القدرة على نسخها ولصقها في جدول،إذ قد تأتي البيانات في صيغة ملفات "بي.دي.أف" أو صور أخذت بواسطة الماسح الضوئي.. حينها، يصعب إجراء المعادلات الحسابية المباشرة على هذه البيانات من خلال هذه الصيغ، ويبقى التحدي الرئيسي هو نقل جداول البيانات.
المهارات التي يحتاج إليها الصحفي من أجل معالجة هذه الإشكالية تقنية وليست صحفية، إذ يتطلب الأمر معرفته بالتطبيقات والبرامج التي تعالج كل صيغة من صيغ البيانات المختلفة على حدة، وتجعل منها بيانات يسهل التعامل معها حاسوبيا. ومن بين هذه التطبيقات تطبيقا Import.io وKimono.
بناء قاعدة البيانات
المقصود هنا ليس جمع البيانات بمعنى الحصول عليها من مصادرها، وإنما ضمّها في جدول واحد بعد إحضارها من مصادر وصيغ مختلفة. فإذا كانت بعض الملفات إلكترونية وبعضها مطبوعة، فيجب جمعها بالصيغتين في حزم مرتبطة بعضها ببعض لتكون في جدول بيانات واحد نظيف.
وتتطلب هذه المرحلة من الصحفي مهارة بناء قواعد البيانات باستخدام عدد من التطبيقات المتنوعة مثل برنامج "مايكروسوفت إكسل" (Microsoft Excel)، أو عبر خدمة جداول البيانات "غوغل سبريد شيت" (Google Spreadsheets).
التحقق من البيانات
عليك أن تتحقق أولا من صحة ودقة البيانات التي حصلت عليها، وبخاصة إذا كانت هذه البيانات غير منسوبة إلى مصدر أو جهة رسمية. فما يميز الصحفي المحترف عن غيره هو قدرته على التدقيق في البيانات للوصول إلى الحقائق. وتعد القاعدة الرئيسية للتحقق هي البحث عن مصدر آخر للتأكد.
وتتطلب مرحلة التحقق من البيانات مهارة استجواب، بمعنى طرح العديد من التساؤلات المتعلقة بها.. عن مصدرها وطبيعتها وتوقيت نشرها وطريقة جمعها والمنهجية التي جُمعت على أساسها والغرض من نشرها.
تنظيف البيانات
هذه الخطوة تأخذ الكثير من الوقت والجهد من أجل جعل بياناتك منظمة، فعندما تحصل على مجموعة البيانات فمن المرجح أن تجد بعض الأخطاء. ويمكن أن يحالفك الحظ ولا تحتاج إلى هذه العملية -وذلك في أضيق الحدود- فغالبا لا تأتي قواعد البيانات في صورة تسمح لنا بتحليلها مباشرة، إذ قد تحتوي على الكثير من الخلايا الفارغة وبعض القيم المفقودة، أو بعض الخانات التي تحوي اختصارات، أو قد تكون مكتوبة بطريقة خاطئة تجعل برامج تحليل البيانات غير قادرة على فهمها والتعامل معها.
وفي بعض الأحيان تكون البيانات المرسلة إليك أو تلك التي قمت بتجميعها من مصادر مختلفة مكتوبة بصيغ عدة، بعضها كُتب بطريقة مختصرة والبعض الآخر كُتب بتفصيل، وهو ما يتسبب في حدوث عدم تطابق في العديد من الكلمات والجمل التي تستخدم لتعني الشيء نفسه. في هذه الحالة، تحتاج إلى إيجاد طريقة لوضع معايير لتوحيد تلك الكلمات.
وبالرغم من أن تلك المشاكل تبدو بسيطة ويسهل التغلب عليها، فإن الأمر ليس على هذا النحو إذا كانت البيانات التي تعمل عليها ضخمة، وهو ما يتطلب إيجاد طريقة تحل كافة هذه المشكلات بضغطة زر دون بذل المزيد من الجهد أو فقد الكثير من الوقت. ويعد استخدام "غوغل ريفاين" (Google Refine) الأداة الأفضل للتعامل مع هذا النوع من البيانات التي تحتوي على كلمات مختلفة تحمل نفس المعنى.
تحليل البيانات
المهارات المطلوبة هنا تتطلب قدرة الصحفي على التحليل العميق للبيانات وإجراء المقارنات والاستنتاجات، والتعامل مع برامج الحاسوب المختلفة التي تقوم بجدولة البيانات وحساب المعادلات الرياضية للوصول إلى نتائج تعكس دلالة هذه الأرقام.
وهناك العديد من البرامج والتطبيقات التي يمكن أن تساعد الصحفيين على تحليل البيانات، منها مثلا برنامج "مايكروسوفت إكسل" الذي يتضمن مجموعة كبيرة من الاختصارات لمعادلات حسابية متنوعة تساعد الصحفيين على إنجاز مهمتهم الشاقة في تحليل البيانات، وداخل كل خلية يمكنك استخدام صيغ بسيطة من شأنها أن تساعدك على حساب كل شيء تقريبا.. من المتوسط الحسابي وتحديد القيمة الأكبر والقيمة الأصغر، بالإضافة إلى حسابات أكثر تعقيدا مثل الاتجاهات والانحدارات.
فمعرفة الصحفي بالحد الأدنى والرئيسي من المعادلات الحسابية يكفي ليساعده على فك لغز الأرقام وكشف علاقاتها بعضها ببعض. ولا يتطلب الأمر أن يكون الصحفي ملما بكافة أساسيات علم الإحصاء لتحليل البيانات.
السرد البصري للبيانات
في النهاية ينبغي أن يكون لدى الصحفي القدرة على تحويل البيانات إلى قصة صحفية وسرد المعلومات والأرقام في سياق سلس ومنطقي، والقدرة على وضع القصة الصحفية في صورة بصرية واضحة، إذ يعد التصوير البصري للبيانات وسيلة فعالة للمساعدة على اجتياز الفجوة بين البيانات والمعرفة.وذلك لا يتطلب بالضرورة استخدام الصحفي لبرامج التصميم، لأن هناك العديد من التطبيقات المتاحة على شبكة الإنترنت تقوم بالمهمة ذاتها.
عليك أن تتمكن من تحديد الشكل البصري المناسب لطبيعة البيانات التي تمتلكها، وكيفية طرحها. قم بوضع الهيكل العظمي لتصميم -وإن كان بشكل بدائي- بقلم رصاص على ورقة بيضاء، وفكر فيه أكثر من مرة حتى تتأكد من أنه يعبر عن الرسالة التي تريد إيصالها إلى القارئ من خلال حزمة البيانات التي عملت على تحليلها.
كتابة الأكواد البرمجية
هناك طريقة واحدة لمساعدة القراء على العثور على القصة الصحفية بداخل البيانات، وهي دمج التفاعل مع التصور البصري للبيانات، الأمر الذي يوسع نطاق عرض البيانات ويسهل للقارئ اختيار طريقه الخاص في فهمها وتحليلها.وكي تتمكن من توفير القصة الصحفية في صورة تفاعلية، ينبغي عليك مواجهة التحدي الأكبر وهو تعلم كتابة الأكواد البرمجية، أو على الأقل الإلمام بالمهارات الأساسية للبرمجة.
ولأن القصة الصحفية تُنشر وتُقرأ عبر جهاز الحاسوب، فعليك معرفة لغات البرمجة التي يعمل بها الحاسوب، فضلا عن أن الأكواد البرمجية حلت محل الصحفيين في الوقت الراهن، فقد استخدم العديد من غرف الأخبار العالمية أكوادا برمجية لتغطية فعاليات الدورة الأولمبية الأخيرة، فأصبح بوسع كود برمجي أن يؤدي الآن -دون أدنى تكلفة تُذكر- ما كان يفعله الصحفيون في السابق.
وأخيرا، من المؤكد أن الصحافة تتخذ منحى جديدا في هذه الآونة، منحى لا يمكن إنكاره أو الحيد عنه، وإذا لم تتطور مهاراتنا لتتوافق مع هذا التطور الذي تشهده الصحافة ستفقد أعمالنا قيمتها أو لن تجد من يقرؤها، وقد لا نجد لنا متسعا في هذه المهنة، فالعمل الصحفي الآن بات يمثل التقاء عدد واسع من المجالات المتنوعة، والقدرة على الجمع بين هذه المهارات لسرد القصص بات ضرورة ملحة.. وإن كان في الحقيقة ما من أحد يمكنه أن يفعل كل ذلك، إلَا أن الحصول على الحد الأدنى من المعرفة بكافة هذه المهارات السابقة سيصنع دون شك فارقا في مسارك المهني، ومع الممارسة والتطبيق ستكتشف وستتعلم المزيد عن كل مهارة.
حاوِل أكثر من مرة، فبمجرد أن تبدأ لن تجد مفرا من استكمال الطريق الذي بدأته، لأنك مع كل مهارة جديدة تكتسبها ستجد متعة في عملك، وستتمكن من سرد قصص صحفية مختلفة عن تلك القصص التقليدية التي كنت تعمل عليها من قبل، أو قد تجد أن ما كنت تستغرق أياما وأسابيع لإتمامه، أصبح بإمكانك إنجازه في ساعات بفضل واحدة من تلك المهارات السابقة.
ولتتعلم شيئا جديدا، عليك تكرار المحاولة. ولا تنس أن هناك عددا من الأدوات -الكثير منها مجاني- متاحة لاستخدامها لتعبئة الفراغات الناقصة من مهاراتك، مما يسهّل مهمّتك.