التهمة: الصحافة الآنية تعزز من السطحية وتخدم النمط الاستهلاكي، وهي صحافة "ما يطلبه الجمهور"..
المتهمة: الصحافة الرقمية!
حيثيات الادعاء: مذ أصبحنا في عصر السرعة، عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، صار الجميع يتسابق لينال السبق لا ليصيب الحقيقة ويقوم بدور الصحافة الأصلي في كشف الحقائق والإخبار عنها. والحل هو "الصحافة المتأنية".
الدفاع: حين طُلب مني كتابة هذا المقال، وجدت نفسي محصوراً في خانة الدفاع عما سُمي بالصحافة الآنية التي قُرنت بشكل غير منطقي بالصحافة الرقمية، في مقابل الصحافة المتأنية. لكن لا أجدني في محل الدفاع عن الصحافة الآنية، بل أجدني مضطراً للقيام بدور تفكيكي قد يوضح ما في التهمة وتوجيهها للصحافة الرقمية من تهافت.
ما هي ثقافة الإبطاء؟
سأبدأ هنا بلوم الترجمة العربية التي حاولت تغيير معنى ووصف حركة الإبطاء العالمية التي انبثق من رحمها مفهوم صحافة الإبطاء (Slow Journalism)، حيث حولت ترجمة كلمة "Slow" إلى التأني وليس الإبطاء أو البطء، ربما مراعاةً للصوابية السياسية (Political Correctness)، وهروباً مما يحمله الإبطاء من معانٍ سلبية. لكن استمرار استعمال التأني محل الإبطاء يعد انسلاخاً من المعنى الأولي للحركة وخيانة لتلك الثقافة، فهي لا تحارب التسرع فقط، بل تحارب السرعة وما تقتضيه من الاستهلاكية.
من المهم معرفة دوافع حركة صحافة الإبطاء التي يصفها أبرز روادها كمجلة "الإرضاء المتأخر" في موقعهم على الإنترنت، بأنها "مثل بقية حركات الإبطاء كالوجبات البطيئة (لا يمكن نعتها بالمتأنية كما هو واضح)، والسفر البطيء، فإننا نأخذ ما نحتاجه من وقت كي نقوم بالشيء بشكل صحيح".
بدأت ثقافة الإبطاء في إيطاليا خلال ثمانينيات القرن الماضي مع مشاركة كارلو بيتريني في حملة مناهضة لافتتاح فرع لسلسلة مطاعم ماكدونالدز قرب أحد أهم معالم روما التاريخية. الحركة كانت مناهضة للوجبات السريعة، وهدفها كان استعادة النظام البيئي الأفضل للأكل والطعام عبر الزراعة الطبيعية العضوية والطبخ البطيء التقليدي للطعام وتناوله بهدوء.
انتشرت ثقافة الإبطاء وتوسعت وامتدت إلى مجالات مختلفة كصرخة في وجه "عصر السرعة"، وأصبحت جزءاً من دعوات أكبر تشكل حركة مناهضة للاستهلاكية.
رغم أن مصطلح "Slow Journalism" حديث نسبياً، فإن الممارسة نفسها ليست كذلك، وهو ما وضحه بالتفصيل مايكل بلاندينغ في مقاله حول حاجتنا إلى صحافة الإبطاء. فإذا كانت الممارسة الصحفية تلك موجودة قبل ذلك وليست جديدة، فما الدافع وراء صعودها في هذه الفترة من الزمن تحديدا؟ هل الصحافة الآنية هي الجديد الذي طرأ؟
يمكن اعتبار ثقافة الإبطاء ثورة على نظام عام جعل السرعة ضرورة لا يمكن التفريط بها، تتجلى في بيئات العمل وعادات التسوق وكل ما يمثل أجهزة ذكية، فالسرعة في حد ذاتها صارت هدفاً مرجواً وصارت مرادفة للذكاء والكفاءة والفعالية والرقمنة. لكن الأهم من كل ذلك أنها صارت الطابع المسيطر على الاستهلاكية بكل جوانبها.
الإعلام الرقمي ضرورة حقيقية أم اختراع استهلاكي؟
يعدّ الإعلام الرقمي نوعاً من المنتجات الإعلامية التي تتخذ وسيلة رقمية كوعاء وقالب تتم عبره عملية الاتصال وتتميّز بالتفاعلية (أي القدرة على طرح وجهة نظر الجمهور وصانع المحتوى بنفس القدر والقدرة على عرض تفاعل الجانبين).
ونشأ الإعلام الرقمي بشكله الحالي استجابة لتطور تقني.. الأمر يسير على النحو التالي: التقنية تجد وسيطاً جديداً لإرسال الرسائل، تدرك الإرادة الإعلامية أهمية الوسيط الجديد، فيصنع الإعلام قوالب جديدة تناسب الوسيط.. ورق مطبوع، موجات راديو، بث تلفزيوني، مواقع إلكترونية، وسائل تواصل اجتماعي.. إلخ.
ليس القصد في وضع الترتيب بهذا الشكل مجاراة تصوّر دارويني يجعل البقاء للأصلح ويقتل ديناصور الصحافة الورقية أو التلفزيونية، لكن خط الزمن سار هكذا. الصلة بين استعارة الوسيط والقالب الإعلامي ومقاربته بالترتيب التطوري، هي حالة الطبيعة الإعلامية والصحفية في استغلال الوسائط المختلفة والقدرة المرنة على التكيف معها. ومحرك هذا التكيّف هو الإرادة الإعلامية.
لا يمكن اعتبار كل تطور تقني في حد ذاته اختراعاً استهلاكياً، وبالتالي فالإعلام الرقمي هو الآخر ليس بالضرورة استهلاكياً يخدم ما يطلبه الجمهور، بل تبقى الوسائط الذكية أداة يمكن استعمالها لإيصال رسائل صحفية رصينة أو الاكتفاء بنشر الرائج (Trends).
حالة الإعلام الرقمي تعبّر عن حقيقة "استهلاك" الجمهور لنوع من القوالب الإعلامية عبر وسائط محددة استهدفتها الإرادة الإعلامية للوصول إلى هذا الكم الهائل من "المستهلكين". من هم هؤلاء المستهلكون؟ ملايين الملايين من البشر أغلبهم في سن الشباب، بعضهم مقتنع بأن بقاءه لمدة أطول داخل هذا الوسيط يحقق نوعاً من الإشباع لحاجة ما، والبعض الآخر يزور الوسيط كي لا ينقطع عن هؤلاء الملايين.
ومن هي الإرادة الإعلامية؟ ببساطة: هي ثنائي رؤوس الأموال والإرادة السياسية. فلا تخلو أي صحافة أو إعلام من هذين الجانبين، فهما المحرك الأساسي لتطور الإعلام وتوجيهه وصنع أبعاد جديدة له. لذلك، قضى فقدان رؤوس الأموال الإعلانية على العديد من محاولات صحافة الإبطاء، وفي المقابل استطاعت الإرادة السياسية دعم بعضها. لذلك والصحافة والصحفيون رهائن لتلك الإرادة الإعلامية، وليسوا رهائن لطبيعة معينة من الصحافة سواء أكانت آنية أو بطيئة.
الإعلام الرقمي على الطرف المقابل للإعلام الورقي والتلفزيوني، يستطيع أن يمنح الصحافة المتأنية منصات واسعة، من شأنها الوصول إلى الجمهور المقصود باستهداف مخطط لخلق حلقة الوصل بين الحاجة والإمداد. في هذا الصدد، يبدو الإعلام الرقمي طريقة منخفضة التكلفة لتحقيق الانتشار وتوسيعه وترويج فكرة صحافة المقالات التحقيقية الطويلة التي أصبحت بالفعل تلقى قبولاً من الجماهير.
هنا يتجلى مجدداً دور الإرادة الإعلامية، فحتى وإن كان الإعلام الرقمي يوفر تلك المنصة والانتشار، فإنه لا يمكنه أن يوفر الأمان المالي لصحفيين ومؤسسات يريدون أن يعملوا على نشر الصحافة المتأنية، عبر صرف الكثير من الوقت والجهد والمال الضروري ليس فقط لصنع هذا النوع من الصحافة، بل لوضعها في قالب ملائم للنشر ومحفّز للانتشار.
المميز في الإعلام الرقمي -الذي ربما لا يتوافر في أي نوع آخر في تاريخ الصحافة- هو القدرة على إتاحة مستويات مختلفة من العمق والتفريعات داخل كل موضوع صحفي، وتنظيم تلك المستويات وسهولة الانتقال بينها والعودة إليها والبحث من خلالها وإعادة ترتيبها وتقييمها واستعمالها بصورتها الخام في صنع موضوعات صحفية أخرى.
أين الصحافة الآنية؟
يشير العديد من دعاة الصحافة المتأنية إلى نوع الصحافة الذي لا يفضلونه عبر الإشارة إلى: الصحافة العاجلة غير الصحيحة، أو الصحافة التي توهم الجمهور بشيء مخالف للحقيقة، أو الصحافة التي لا تعطي سياقاً يشرح أهمية الخبر للجمهور وتأثيره عليهم، أو الصحافة التي لا تعود لمتابعة قصصها القديمة. العامل المشترك بين العيوب الأربعة السابقة التي تخالف مفهوم الصحافة المتأنية هو التسرع للوصول إلى النتائج دون انتظار اكتمال الحدث قبل الإخبار عنه.
إذا أردنا تحديد موقع الصحافة الآنية داخل مساحة يُحتمل فيها قبول المستويات المختلفة من العمق والتفريعات الصحفية، فيجب أن نتقبل حقيقة الإعلام الرقمي.. إنه المساحة الوحيدة التي يمكن خلالها للصحافة المتأنية أن تزدهر بجانب الصحافة الآنية، وهذا يتحقق من جانبين: الأول أن الصحافة الآنية يجب ألا تتسم بالعيوب الأربعة السابقة؛ فيمكنها ألا تنقل العواجل إلا بعد تدقيق وتمحيص، وتُصاغ بصورة لا توهم الجمهور، ويجب أن تكون جزءاً من صحافة أوسع تعطي سياقاً لفهم الحدث، ويمكن أن تعود إلى ما نقلت لمتابعته والوقوف على تطوراته.
الجانب الثاني، أن الصحافة الآنية التي تستغل مساحات الإعلام الرقمي بذكاء وكفاءة، هي التي تخلق الحاجة والعطش لدى الجمهور لفهم المزيد والسعي للتحقق من تفاصيل الآنيات لفهمها. نسبة كبيرة من الجمهور لن تلتفت إلى عمق وتفاصيل حدث ما إن لم تعلم به بصورة آنية توضح أهميته وتأثيره عليها.
عدة محاولات صحفية رأيناها تقوم على هذا المبدأ، أغلبها يبدأ بالصحافة الآنية ويطمح إلى تحقيق المزيد من التأني والمتابعة، لكن القليل يحقق ذلك.
محاولات الإعلام الرقمي لشبكة الجزيرة أجدها مثالاً جيداً للتكامل لتحقيق مستويات العمق المختلفة، إذ تقدم "الجزيرة بلس" صحافة آنية عالية الجودة والتدقيق من خلال مقاطعها اليومية، وتتناول الرائج على مواقع التواصل بإعطاء خلفيات سريعة تساعد على فهم سياقه. وعبر مقاطع دورية تقف "الجزيرة بلس" على بعض السياقات لتشرحها بتفصيل أعمق لفهم الخبر الآني، مستعينة بالخبرات الصحفية ومبادئ غرفة الأخبار الأساسية. كما تقدم رؤى متنوعة للقضايا السياسية والعلمية والاجتماعية عبر برامجها المختلفة.
موقع ميدان يهتم أكثر بالمقالات الطويلة التفصيلية التي تغطي السياقات الأوسع والشروحات التي من شأنها الإجابة على عدة أسئلة تطرحها الأخبار اليومية. أما المدونات فتحاول طرح وجهات النظر المختلفة حول الأنباء السريعة وحول سياقاتها لتظهر وجهات النظر الشخصية المختلفة عن ذات الموضوع أو الخبر.
الجزيرة نت هي المظلة الواسعة التي تسعى دوماً لتحقيق هذا التوازن بين المستويات المختلفة، وتضم تاريخاً رقمياً عريقاً لمنتجات الشبكة المختلفة، وتتيح عبر موسوعتها شروحاً لقضايا سياسية واقتصادية وغيرها.
محاولات الجزيرة المتكاملة تمثل ما يمكن للإرادة الإعلامية تحقيقه عبر الفضاء الرقمي، لتقديم منتجات مختلفة تخدم بعضها وتسهل الوصول إلى كمية من المعلومات والتفاصيل التي لا تجعل الجمهور حبيس الأخبار الآنية، ولا تجعل الصحافة رهينة لتفضيل جمهور معين.