لأوّلِ مرة منذ أشهر، بل منذ سنوات طويلة، يلتفتُ العالَمُ أجمعُ -بهذا الاهتمام والترقب- لحالةِ بلدٍ كالعراق، الغارقِ في وحْلٍ من الدم والمأساة.
لم تتوقّفْ أزمةُ العراق عند الانقسام السياسي والطائفي فحسب، بل امتدّت لتشملَ الاقتصادَ والأمن، وأفضت إلى سلسلة من المظاهرات المطالِبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي ومُحاكَمة الفاسدين.
لم يكن هذا كلُّه لِيَحدُثَ لولا زيارةٌ وصفَتْها وسائلُ الإعلام بـ "التاريخية وغير المسبوقة" يقوم بها البابا "فرانسيس" بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهي الشخصية الدينية الأبرز عالميا، والتي تكتسب أهميّةً لدى طوائف مسيحية متعددة.
فكيف بدت هذه الزيارةُ في وسائل الإعلام العالمية، ولماذا تكتسبُ أهميتَها في الإعلام الدولي؛ على الرغم من الحالة السياسية والأمنية والاقتصادية الصعبة التي يعيشها العراق منذ عقود؟
لطالما ارتبطت جهودُ البابا -على رأس مؤسسة الفاتيكان- بجولةِ الزيارات التي تقوم بها هذه الشخصيةُ؛ متجاوِزةً الظّروفَ السياسية والاقتصادية لمختلف البلدان؛ ليتمّ الاعتدادُ بها كوسيلة لنشر السلم والأمان العالمي.
في مطلع فبراير/شباط الماضي، أعلن البابا فرانسيس لوسائل إعلام إيطالية ودولية نيّتَه زيارة العراق في شهر مارس/آذار القادم، مُؤكِّدًا أنّ هذه الزيارةَ ستكون للاهتمام بمعاناة الناس، حتّى في ظلّ الظروف العصيبة التي يشهدها العالَمُ إزاءَ انتشار جائحة كوفيد-19، وعدم تمكُّن المسيحيين من لقاء البابا شخصيّا، بل الاكتفاء بمشاهدته عبر التلفاز.
هذا التصريحُ الاستباقيُّ الذي أدلى به البابا قبل زيارته للبلاد فَرَضَ نوعًا خاصًّا من التغطية الصحفية؛ لاسيّما أنه يؤكّد رغبةً شخصية تتملك هذا الرمزَ الديني في الإضاءة على الوضع المعيشي والأمني للعراق على نحو عالميّ.
الهاجس إزاء المسيحية
إنها من المرّات القليلة التي يلتفتُ فيها الإعلامُ العربي بهذا الشكل الواسع لحالة مسيحيّي العراق، وتأثيرِ الأزمة على الوضع المعيشي العام.
وإجمالًا؛ فقد ظَلَّ الحديثُ هامشيًّا بشأن التأثيرات الكبيرة للأزمات والحروب على الجماعات الإثنية والدينية في الخطاب الإعلامي العربي. وعلى الرغم من أنّ المسيحية في العراق تُعَدُّ واحدةً من أقدم المجتمعات المسيحية في العالم، ومجتمَعًا أوّليًّا في العراق يسبق الديانةَ الإسلامية السائدة حاليّا، إلا أن قيمة المعالجات الصحفية والإعلامية بشأن التأثيراتِ التي تفرضها هذه الديانةُ على المجتمع، وتأثُّرِها بالراهن السياسي والاقتصادي للبلاد؛ تبدو منعدِمةً في تغطيات وسائل الإعلام العربية.
يمثّلُ الهاجسُ إزاءَ المسيحية جانبًا مهمًّا في الزيارة التي يقوم بها بابا الفاتيكان. وهو بذلك يفرض جانبا لم يكن معتادا في المعالجة العربية الصحفية المتأثرة بصورة كبيرة بالتمثيل السياسي الغالب وسطوة الحكومات والتيارات الدينية الغالبة على وسائل الإعلام.
إن مصطلحات من نحو "تأثير المحاصصة الطائفية" على الواقع المسيحي في العراق، و"حقوق المسيحيّين" و "عودة النازحين العراقيين من معتنِقي المسيحية" بدت شائعةً خلال الأيام الماضية في وسائل الإعلام؛ لتدلّ على توجُّهٍ مُغايِرٍ -في التعاطي الإعلامي العربيّ والعالميّ- فرضَته زيارةُ البابا.
على الرغم من تسليط الإعلام الأوروبي بصورة عامة والإيطالي بصورة خاصة الضوءَ على حدث زيارة البابا بشكل يفوق المعتادَ، إلا أنّ زيارةَ البابا هذه المرة تبدو مختلفةً -من حيث المعالجة- مقارَنةً بتلك الزيارة التي قام بها البابا لدولة الإمارات العربية المتحدة. ذلك أنه بدلًا من شيوع خطاب التسامح والإخاء المعتاد، يبرز خطاب جديد يتعلق بأهمية التعددية الدينية في العالم العربي ودورِ الحكومات في الاهتمام بالطوائف والأديان الواقعة تحت حُكمها.
البابا الرمز
ركَّزَتْ تحليلاتُ الجزيرة في تغطيتها -التي بَثّت مباشرةً خطابَ البابا للشعب العراقي- على أهمية الرموز في معالجة الأوضاع السياسية والاقتصادية. واعتبرَت أنّ الحلول التي يفرضها الرموزُ غالبًا ما تكون ذاتَ صفةٍ توافقية مع مختلف التيارات المتصارِعة، لاسيّما في ظل الحديث العالمي الواسع عن الظلم اللاحق بالطوائف المهمَّشة في العراق.
اعتبرَت سناء خوري، مراسِلةُ الشؤون الدينية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أنّ زيارة البابا تُحقِّقُ حلمًا قديما لسلفه البابا يوحنا بولس الثاني الذي خطّط لزيارة مماثلة في عام 2000م. استدعَت هذه المعالجة التحقيقَ في الكيفية التي جرى بها التعامل مع تطلُّعات الباباوات لزيارة العراق من قِبل الأنظمة السياسية المختلفة التي سيطرت على العراق؛ حيث أشارَت إلى أنّ هذه المبادرات الشخصية تُوِّجَت بنجاح هذه الزيارة في ظل الظروف الصحية الصعبة التي يواجهها العراقيون اليوم.
وتناولت تغطية الـ(بي بي سي) ملامح الخطاب الباباوي، مُبرِزةً أنّ البابا كان ولا يزال يَعُدُّ نفسَه "رسولا للمُتعَبين"، يعبّر بحساسية عالية عن مساندته للفقراء والمُهمَّشين.
الأمر الثاني الذي ميّزَ الخطابَ البابوي -بحسب الكاتبة- هو أنه كان خطابًا معنويا وأكثر، حيث استعرض خطابُ البابا علاقةَ المسيحيّين بالمجتمع العراقي وتأصُّلَهم فيه؛ لاسيما مع انطلاق بناء ما دُمِّرَ من كنائس أثرية وتاريخية في الموصل وبغداد.
زيارة المهمّة المستحيلة
استعرضَت معظمُ وسائل الإعلام جدولَ هذه الزيارة التي ستتضمّن لقاءاتٍ مع تيارات سياسية ودينية عراقية. لقد كان لافتًا اهتمامُ وسائل الإعلام بالطريقة التي جرى فيها استقبالُ البابا؛ عبر رقصات فلكورية شعبية أدّاها مواطنون عراقيون احتفاء بهذه الزيارة، حيث عكست هذه التغطيةُ مستوى الاحترام الذي يحظى به البابا في العراق.
وكتبَت هاريت شيرود Harriet Sherwood ، الكاتبةُ المختصة بالأديان والقضايا الاجتماعية: "ظروفُ الزيارة التي يشهد فيها العراقُ إغلاقًا وحَظْرًا للتجول لمدة ثلاثة أيام؛ لن تكون مؤثّرةً على زيارة البابا؛ حيث سيتم تطعيم كافةِ أفرادِ الحاشية البابوية ضد الفيروس قبل المغادرة، وسيُطلَب من الجميع الالتزام بالتباعد الاجتماعي".
وعلى الرغم من أنّ هذه الزيارةَ كانت قصيرةً وخَلَتْ من الكثير من التفاصيل إلى أنّ الصورَ التي التُقِطَتْ للبابا مع السيستاني خَلَقَتْ حالةَ استغرابٍ لدى عدد من الصحفيين الدوليين، وتحدَّثَ بعضُهم عن الطريقة التي انتقلت بها هذه الصورُ التي أظهرت بُرودًا لدى الرمز الشيعي المُسِنّ عند استقبال البابا، في حين لم يُبْدِ بعض الصحفيين تفاؤلًا كبيرًا إزاءَ هذه الخطوة، رغم أهميتها البالغة.
خلال هذه الزيارة، لم تُخْفِ وسائلُ الإعلام اهتمامَها الكبير بواقع المسيحية في العراق من منظورها الإنساني الصرف الداعم للتعددية الدينية. وتَعتبر وسائلُ الإعلام أنّ ظروفا تاريخية وأخرى لا تزال مستمرة كان معظمُها سياسيًّا؛ لا تزال تتحكّم بالمآلات الكارثية التي تواجهُ المسيحيةَ في العراق.
زيارة البابا: هل من جديد؟
لا شكّ أن زياراتِ البابا الكثيرةَ لعددٍ من الدول تحملُ ذاتَ الطابعِ والسِّمَة؛ ولا سيّما فيما يتعلّقُ بتلك الدول التي تواجه أزَماتٍ سياسيةً وأمنية واقتصادية أو ترزح تحت وطأة الحروب والنزاعات المسلحة. في عام 2019م -وفي مقرّه بالفاتيكان- أبدى البابا تضامنًا كبيرا مع ممثلي التيارات السياسية في جنوب السودان، إلى الحدّ الذي قام فيه بتقبيل أحذيتهم أمام محطات التلفزة؛ طالبًا منهم عَدَمَ ترْكِ البلاد كيلا ترزحَ تحت وطأةِ السلاح مُجدَّدًا.
غالبًا ما ستؤكِّدُ كلُّ المعطياتِ على أنّ التغطيةَ العالمية إزاء جهود البابا لن تغادرَ مناطقَها المعتادة؛ لاسيما في كل زيارة يقوم بها إلى بلدان فقيرة ومهمَّشة، حيث لا يمكن عزْلُ أيٍّ من هذه الزيارات عن الصورة الذهنية العالمية للبابا وعن دوره في الدعوة للسلام والتآخي العالمي.
قائمة المراجع:
-
باللغة العربية: الأعرجي، علاء الدين: دور المسيحيين في الثقافة والحضارة العربية والإسلامية، مدونة معرفة، تاريخ النشر: 1\2009\ 9، تاريخ التصفح: 7 مارس 2021، https://blog.marefa.org/node/176
-
البابا فرانسيس أنهى زيارته للعراق و370 مراسلا واكبوها، الوكالة الوطنية للإعلام، تاريخ النشر: 7 مارس 2021، تاريخ التصفح: 7 مارس 2021، http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/533334/nna-leb.gov.lb/es
-
البابا فرانسيس في الإمارات: زيارة بابوية غير مسبوقة لدولة في شبه الجزيرة العربية، موقع بي بي سي العربي، تاريخ النشر: 3 فبراير 2009، تاريخ التصفح: 7 مارس 2021، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-47107619
-
زيارة البابا فرانشيسكو إلى العراق، الجزيرة نت العربي، تاريخ النشر: 6 مارس 2021، تاريخ التصفح: 7 مارس 2021، https://www.aljazeera.net/videos/2021/3/6/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D8%A7-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%B4%D9%8A%D8%B3%D9%83%D9%88-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
-
الخوري، سناء: ستّ خلاصات من زيارة البابا فرانسيس إلى العراق، تاريخ النشر: 8 مارس 2021م، تاريخ التصفح: 8 مارس 2021م، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-56326977
باللغة الإنجليزية:
-
Sherwood, H. (2021, March 2). First papal visit to Iraq to go ahead despite Covid and terrorism fears. The Guardian. https://www.theguardian.com/world/2021/mar/01/first-ever-papal-visit-to…
-
7 DW News. (2021, March 5). Pope Francis in Iraq: Mission Impossible? | To the Point. YouTube. https://www.youtube.com/watch?v=7zRvzAuSVtk
-
Horowitz, J., & Arraf, J. (2021, March 7). Pope Francis Meets Iraq’s Top Ayatollah as Both Urge Peace. The New York Times. https://www.nytimes.com/2021/03/06/world/europe/pope-francis-iraq-ayato…
-
AfricaNews. (2019, May 14). Pope kissing our feet, a blessing or curse if … - South Sudan president. https://www.africanews.com/2019/05/14/pope-kissing-our-feet-will-be-a-blessing-or-curse-if-south-sudan-president//