لم يَجِدِ الصحفيُّ الفرنسي آلان جريش من وسيلةٍ للاحتجاج على حذْف مقالِ الكاتب الفرنسي من أصل إيراني، فرهاد خسروخافار -المُنتقِد لسياسات ماكرون تجاهَ الإسلام والمسلمين - من النسخة الأوروبية لموقع "بوليتيكو" الأمريكي (بوليتيكو أوروبا)، سوى إعادة نشْره في مجلة "أوريان 21" التي يُديرها.
فحين ظهرَ المقالُ على موقع "بوليتيكو"، استَنْفَرَ قصرُ الإلييزيه كلَّ ثقله الدبلوماسيّ من أجل مهاجَمةِ الصحافة الأمريكية، مُصوِّرًا إيّاها بأنها "حليفةٌ للإرهابيين"، وأسفرت تلك الحملة على الصِّحافة الأمريكية بـ "تهذيب" اللغةِ؛ خاصةً من طرف صحيفة "نيويورك تايمز".
الضغط الخفي
يسرد جريش قصّتَه مع المُضايَقات من الحكومة الفرنسيّة، بأنّها تَتَّخِذُ طابَعًا غيرَ مباشرٍ؛ قائلا: "الضغطُ الأساسيُّ الذي تتعرّضُ له مواقعُ مثل "أوريان 21" أو "ميديا بارت" -اللَّذَين يقفان ضد "الإسلاموفوبيا" ويدافعان عن المسلمين- هو ضغطٌ غيرُ مباشر. إذ يتمُّ تصويرُنا في المشهد السياسيّ الفرنسيّ على أننا ضدُّ الخطاب الرسميّ لماكرون ولجُزءٍ من اليمين، وحتى لجزءٍ من اليسار أيضًا، وأننا "حلفاء الإرهابيّين". هذا هو الضغطُ الأساسي، لكنْ لا تأتينا رسائلُ تهاجمُنا شخصيًّا، ربّما على فيسبوك وتويتر تَرِدُنا بعضُ الرسائلِ، لكنْ هذا لا يُعَدُّ ضغطًا حقيقيًّا".
رغم أنّ جريش وَجَّهَ انتقاداتٍ حادّةً للعَلمانية الفرنسية، ورأى أنّها تُحَرِّفُ مبادئها بغيةَ استهدافِ الإسلام؛ فإنّه لم يُهاجَمْ بالحِدَّةِ نفسِها التي وُوجِهَ بها الإعلامُ الأمريكيُّ. فهل مَرَدُّ ذلك إلى أنّ مِنصّتَه فرنسيّةٌ وأنّه ليس من أصول مهاجِرة؟
"لا، لا يتوقَّفُ الأمرُ على حمْلي جذورًا مُهاجِرةً مِن عَدَمِه، ويتابع جريش "مع التّسليم بأنّه مِن الصعب اليومَ لشخصٍ أصلُه عربيٌّ أو إسلاميٌّ اسمُه محمد أو فاطمة أنْ يُهاجِمَ الحكومةَ الفرنسيّةَ؛ -حتى وإن كان فرنسيًّا-؛ ففي كلِّ مرّةٍ سيأتيه نقدٌ؛ أنّه ليس فرنسيًّا حقيقيًّا وأنّه من أصلٍ إسلاميّ أو عربيّ.
وإنّ جريدتنا "أوريان21" جريدةٌ جديدة تأسّسَت منذ سبع سنوات، وتركّزُ خصوصًا على قضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ووزنُها -في النقاش الداخلي الفرنسي- ليس كوزن جريدة "لوموند" أو "نيويورك تايمز"؛ فبالطبع لن ننال هجومًا مثلَهما، ولا حتى كما يحدث مع "ميديا بارت". فأكثرُ مقالاتنا تركّز على العالَم العربيّ؛ أي على الوجهة الخارجية، وليس على الحوار الداخلي الفرنسي؛ لهذا لا تأتينا ضغوطاتٌ كبيرة".
مسلمون يمينيون
لقد دَرَجَ الإعلامُ الفرنسيُّ على استضافةِ شخصيات إسلامية، لكنّها لم تُولَد في فرنسا، وهو الأمرُ الذي يعتبره جريش نوعًا من "العنصريّة؛ لأنّ هناك جيلًا جديدًا من المسلمين الفرنسيين ممّن وُلِدُوا في فرنسا، وهم يتبوّؤون مواقعَ في البلديات والأحزاب السياسية، ولديهم دور في الجامعات، وهذا اتجاهٌ مهمّ سيكون له تأثيرٌ بارز على المدى الطويل".
وبطريقة ساخرة، يرى جريش أنه ثمة شخصياتٌ تنتمي للإسلام؛ لكنّها تتماهى مع الموقف الرسمي؛ حيث "ستجدُ مَن يُسَمِّي نفسَه إمامًا، ويفكّرُ كالحكومة الفرنسية بل كاليمين المتطرف؛ مثل "حسن شلقومي" الذي يزور إسرائيل ويدافع عنها ويلعب دورًا لا وزنَ له. هو يقولُ إنّ المسلمين يجبُ أنْ يفكّروا مثلَه وإلّا صاروا متطرِّفين، والإعلامُ الفرنسيُّ يتبنّى أطروحاتِه ويُؤكِّدُها".
العَلْمانيّةُ الفرنسية والعلمانية البريطانية، تختلفان جَذريًّا في التعامل مع قضايا الإسلام. على هذا النحو، يؤكد جريش أنّه "إذا نظرْنا إلى إنجلترا وفرنسا؛ فسنرى دورَ المسلمين في المجتمع الإنجليزي أكبرَ؛ وهذا يتعلّقُ بأسباب تاريخية، كما يتعلق بكيفية تنظيم الناس في فرنسا، وبخطاب الجمهورية الفرنسية؛ لأننا دولة موحَّدةٌ ولا فرقَ بين الناس. لكنّ الشيءَ الإيجابيّ -في هذا التطور في فرنسا- أنّ المسلمين يُمارِسون أوّلَ دورٍ سياسيٍّ لهم في البلديات، وانتُخب الكثير منهم رؤساء للبلديات، كما أنهم يشكِّلون جيلًا في الجامعات مهما للغاية".
إعلام الرجال البيض
ثمة أسبابٌ كثيرة قد تُفسِّرُ غيابَ المسلمين عن وسائل الإعلام الفرنسية، غيرَ أنّ جريش يختصر ذلك بجملة واحدة: "الإعلامُ عندنا يملكه الرجالُ البيض، وهؤلاء هم مَن يملكون السلطةَ. منذ سنوات بدأ نقاشٌ حول هذا الأمر، ثمة عنصريةٌ واضحة، وثمة عنصرية يمكن أنْ نقرأَها على مستويات أخرى.
كي تُصبحَ صحفيًّا في فرنسا، يشرح آلان جريش، -وهو رئيس التحرير السابق لمجلة "لوموند ديبلوماتيك"-، عليك الدراسة لأربع سنوات في مدرسة العلوم السياسية، ثم ثلاث سنوات في مدرسة صحفية؛ ما يعني أنّ أقلية اجتماعية هي التي تستطيع أن تفعل ذلك؛ ويعني أنّ أشخاصًا كثرين -وخاصة الفقراء والآتين من الضواحي- لا يستطيعون أن يكونوا صحفيين.
فالصِّحافةُ في فرنسا، صارت اختصاصًا حصريًّا لفئة تمتلك الوسائل، أي أنّها أصبحت توجُّهًا برجوازيّا، لا يُسمَح للفقراء بأن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم فيه. والمهاجرون ينتمون -في نهاية المطاف- إلى الطبقات الفقيرة، وهؤلاء لا يستطيعون أن يكونوا صحفيين.
لي صديق يبدو -في الظاهر- أنّه مسلم؛ من اسمه، لكنّه مُلحِد على الحقيقة، ويقول: إنّ الناسَ يعتبرونه إسلاميًّا عندما يتحدّث؛ فقط بسبب اسمه.
لدينا مشكلةٌ في المجتمع الفرنسي في التعامُل مع الأقليات، الذين يختلف وضعُهم في فرنسا عن إنجلترا. المسلمون مثلًا عددهم نحو 10% من المجتمع الفرنسي، لكن ليسوا موجودين في أماكن السلطة الأساسية. يختصر جريش ما يجري في المجتمع الفرنسي.
الإعلام اليميني والمسلمون.. من يزايد أكثر؟
عاشت فرنسا مؤخَّرًا أحداثًا متتالية، كان المسلمون جزءًا منها. تحكّمَتِ الانتخابات الرئاسية مرّةً أخرى في توجُّهٍ أًصبحَ أكثرَ حِدّةً، يجعلُ مِن وسائل الإعلام مِنصّةً مُفضَّلةً لليمين؛ لغرضٍ واحدٍ؛ هو مهاجَمةُ المسلمين.
هكذا، يُبرِزُ آلان جريش أنّ "المشهد السياسي يقول: إنّنا دخلنا مرحلةَ انتخاباتِ الرئاسة التي ستُجرى في العام القادم، وقرَّرَ ماكرون أن ينتصرَ فيها على اليمين المتطرف ويستعيرَ بعضًا من خطابِه ضد المسلمين. وهذا اتجاهٌ يَظهر واضحًا في خطابه، وفي القوانين الجديدة التي اتّخذها المجلسُ البرلماني. ثمّ مِن ناحيةٍ أُخرى، ثمّةَ هناك مناخٌ ثقافيٌّ وصحفيٌّ ضدَّ المسلمين، بدأَ منذُ ثلاثين سنة حول الحجاب في المدارس وغيره، وتطوَّرَ إلى أبعدَ من ذلك. ولهذا الخطابِ هيمنةٌ على المثقفين والصحفيين الذين يتبنَّون اتّجاهًا عامًّا ضد الإسلام، وهو ما يؤدّي دورًا سلبيًا. وليس معنى ذلك أن كل الصحفيين ضد الإسلام، ولكن هذا هو الاتجاه الأساسي".
العلاقةُ بين قصر الإليزييه والصحافة لم تكن يومًا مُتشنِّجةً كما هي اليوم؛ بسبب سياسة "العصا الغليظة" التي يمارسها إيمانويل ماكرون، والتي وصلت إلى حدِّ استدعاء مراسِلي صُحُفٍ أمريكيةٍ إثرَ نشْرِهم مقالاتٍ تنتقدُ بحدّةٍ تصريحاتِه حولَ "الانفصاليّة الإسلاميّة".
وبالنسبة لجريش، فإنّ "ردود الفعل ضد فرنسا وحكومتها في هذه الأزمة كانت كبيرةً. فاليومَ، المجتمعُ الأمريكيُّ والمجتمعاتُ الأوروبية ومعهما الصحف تتساءلُ عمّا يحدث في فرنسا. إنّه مِن الغريب أن يتدخَّلَ رئيسُ جمهورية لحذْفِ مقال. قد يُريد الردَّ على مقال "فاينانشال تايمز"، وهذا لا مشكلة فيه، لكنّه لا يمكن أن يطلب حذْفَه ونشْرَ مقالٍ رسمي باسم الحكومة الفرنسية بدلًا منه".
بهذا المنطق، فإنّ حريةَ التعبير معناها -في نظر ماكرون- هي ألّا تكتبَ ما يُغضبُه. "تقول الحكومة الفرنسية: إنّ القضيةَ الأساسيّةَ بالنسبة لها هي قضيةُ "حرية التعبير"، لكنها -بشكل آخر- تقول: إنّ أيَّ نَقْدٍ لرئيس الجمهورية غيرُ ممكن. الضغطُ على الصحفيين كبيرٌ، لكنه غير مباشر، ومَن يَنْتَقِد الحكومةَ الفرنسيّةَ منهم يُعتَبَرُ حليفًا -ليس للمتطرفين فحسب- بل للإرهابيين. وهنا يتشابهُ الأمرُ مع قضيّة "إسرائيل"؛ فمن ينتقدُها يُقال: إنه "ضد اليهود". وأعرف بعضَ الأصدقاء الذين يخشَون الكتابةَ حول هذا الموضوع، ليس لأنّهم غير مهتمين، بل لأنهم يخشون من المشكلات"، بهذه العبارات، يفكّك جريش ازدواجية المعايير عند الإعلام الفرنسي.
اليمين يحتل وسائل التواصل الاجتماعي
انخرط طيفٌ من المثقفين الفرنسيين في الحملة التي شنَّها إيمانويل على الصِّحافة الأمريكية، فكتبوا افتتاحياتٍ ومقالاتٍ رأت في تعامل الإعلام الأمريكي مع ما يجري في فرنسا بأنه استعلائيّ. لكن جريش، يرى أنهم (يقصد المثقفين الفرنسيين) يتبنّون خطابًا تنخرُه الازدواجية؛ فهم من جهة يوجِّهون "انتقاداتٍ للإعلام الأمريكي ويشكون هيمنتَه عليهم؛ في محاولة لتغيير المجتمع الفرنسي. ومن جهة أخرى فإنّ هؤلاء هم أنفسُهم يُؤيِّدون السياسةَ الأمريكية الـ"نيو ليبرالية" والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن مشكلتهم الأساسية مع أمريكا هي مشكلة المسلمين. والحقيقة أن ثقل فرنسا صَغُرَ أو ضَؤُلَ مع هذه الأزمة، والناسُ في الخارج صارَت تتعجَّبُ من الموقف الفرنسيّ.
قبل مدةٍ نشرتْ وكالةُ الأنباء الفرنسية قصاصةً تَتَّهِمُ فيها شابًّا مسلمًا بأنّه هاجَمَ أصدقاءَه بسبب احتفالهم بعيد الميلاد، لكنّ المدّعي العام ناقَضَ هذه الروايةَ ودَحَضَ روايةَ الوكالة. يربط جريش هذه الحادثةَ بالمُناخِ المُعادي للإسلام، وهو المهيمن في فرنسا؛ "ففي مدينة تراب مثلًا، هناك مدرّس فلسفة صرّحَ بأنه لن يدرّس لوجود هجوم من الطلاب المسلمين ضدّه، ولأنه يخشى على حياته. وفي خلال 48 ساعة، صارت قصّتُه هي القصة الأساسية على الساحة السياسية، رغم وجود مشكلات أخرى في المدينة. الإعلامُ اليومَ مع فيسبوك وتويتر -اللَّذَين يحضرُ فيهما اليمينُ المتطرف بقوّة- يختلقُ المشكلات من أيّ شيء يتعلّق بالإسلام، وهذا يُحْدِثُ مناخًا مخيفًا للرأي العام الفرنسي من هذه المدينة، ومن العمليات الإرهابية أيضًا.
"أوف" (تحيل إلى الحيرة في اللغة الفرنسية)، هكذا استهلّ جريش جوابَه عن واقع حرية الصِّحافة في فرنسا؛ قائلا في هذا الصدد: "حريةُ الإعلام هذه قصةٌ لا نهايةَ لها. حريةُ الإعلام حرية الإعلام تأتي ممن يمتلكه. وأصحابُ الإعلام الأساسي في فرنسا -أي التليفزيون- ليسوا فقط باحثين عن الربح، بل لديهم اتجاهات سياسية، خصوصا (فانسان) بولوريه الذي يملك قناة “canal+” ويريد شراء محطة “Europe 1” الإذاعية. وهو يتبنّى اتجاهات اليمين المتطرف، ويصعب دفْعُه؛ لأنّ لديه أموالا طائلة".
هذه هي المشكلة الأساسية التي لا يوجد نقاشٌ حولها؛ لأنّ قوةَ التليفزيون والراديو لديها تأثير في فرنسا، يقول جريش، الذي يعاني الحصار في وسائل الإعلام العمومية باستثناء "فرانس 24" و"مونتي كارلو الدولية"؛ لأنهما مُوجَّهتان للخارج. أما عدا ذلك، فموقفُه من الإسلام والقضية الفلسطينية يجب أن يتماشى مع المزاج العام، أو يظلّ خارجَ التليفزيون.