ترجمة: بهاء الدين السيوف
"لست أدفع لك المال كي تطعنني!". مقولة مشهورة تنتهجها الطبقة السياسية في المكسيك؛ لإخضاع الصحافة في هذه البلاد. عبارة بليغة يعود تاريخها إلى الرئيس الأسبق خوسيه لوبيز بورتيّو، صاغها في عقد السبعينيات، وما زالت دارجة إلى اليوم، لتصف العلاقة الفعلية بين السلطة والصحافة، ليس في أميركا الشمالية فحسب، وإنما في أميركا الوسطى والجنوبية كذلك.
هذه الثنائية السامة والفاسدة المتمثلة في تقييد الإعلان والنشر المؤسسي (اللافتات الإعلانية والبيانات الصحافية وإعلانات الخدمات العامة والحملات الانتخابية وحتى صفحات النعي) وتكييفها وفق السياسة التحريرية للصحيفة أو الإذاعة أو القناة التلفزيونية أو صحافة الإنترنت، خلقت الكثير من المشكلات لدى وسائل الإعلام في القارة الأميركية. تسونامي آخذ في الطغيان والعدوانية، جالبا مزيدا من الهشاشة وانعدام الأمن الوظيفي بين المراسلين ورجال الكاميرا والمذيعين ومقدمي الأخبار والمصورين.
فرانسيسكو بلانكو، الحاصل على الدكتوراه في التواصل والتنمية من جامعة هافانا في كوبا، اعتاد أن يوجه طلابه باستمرار: "إذا أردت أن تصبح ثريا فابتعد عن مهنة الصحافة، أنت في المهنة الخاطئة. إن عاملة خدمات في مجمع سكني تجني أكثر مما يجنيه الصحفي".
في هذا السياق، يبدو أن هناك انحلالا عامّا تقريبا، مع نسبة ضئيلة جدا من الاستثناءات لبعض الشرفاء. كما أن آلاف الزملاء رموا عرض الحائط بوصية الصحافي البولندي العظيم ريزارد كابوتشينسكي حين قال: "هذه المهنة ليست للمتخاذلين، الصحافي الجيد شخص محترم قبل كل شيء".
ما أعنيه هنا ببساطة، أن كثيرا من الصحافيين ينغمسون أو يُرغمون على الانغماس في جرائم فساد. "العمولة" كما نسميها هنا في الأرجنتين. أو "تشايوته" في المكسيك، وهي نوع من الفاكهة يحوي كمية من الأشواك ما يحتم عليك التعامل معها بعناية كي لا تؤذيك أشواكها، أو "العطايا" كما في أميركا الوسطى، أو بكل وضوح: "الرشوة" في بلدان أخرى من أميركا اللاتينية.
تشهد بيئة العمل الصحفي في القارة الأميركية تقلبات كثيرة، وتحتفظ بصورة نمطية نوعا ما. ففي عواصم المكسيك والأرجنتين وكولومبيا والبيرو وغيرها، هي مؤسسات إعلامية مرموقة، بمكاتب فخمة، يعمل لديها موظفون محترفون في الإعلام، يتقاضون رواتب أقصاها 600 دولار شهريا، كل ذلك إرضاء للرأسمالية الإمبريالية المتوحشة.
بينما في المحافظات الصغيرة والمناطق الريفية -حيث تنخفض كمية الإعلانات والدعاية التجارية في وسائل الإعلام- تجد الموظفين يتقاضون ما يسد جوعهم فقط، وهذا يجعلهم معرضين دائما لممارسات السلطة السياسية والعصابات الإجرامية. وهذه العصابات تنتهج عبارة أشرنا إليها في مقال سابق، "المال أم الرصاص؟"، كي تضمن إخضاع السياسات التحريرية.
الصحفيان إليسيو كاباجيرو من قناة "تيليفيسا"، إحدى أهم القنوات التلفزيونية في القارة الأميركية، وخوسيه لويس دياز من وكالة "إسكيما" المحلية، فُضح أمرهما على الصعيد الدولي عبر مقطع فيديو أظهرهما وهما يقدمان المشورة في بعض الأمور المتعلقة بالصحافة لسيرفاندو غوميز لا توتا، زعيم عصابة "لوس كاباجيروس تيمبلاريوس". وهي منظمة إجرامية اعتادت دفع المال للصحف من أجل إدراج مواد من شأنها إرهاب منافسيها، وكذلك التعريف بمواقفها الأيديولوجية والإجرامية، وكثيرا ما كانت تخاطب القنوات التلفزيونية لطلب "حق الرد" على كثير من القضايا، عبر مقاطع فيديو يتم تصويرها فيما يسمى "الأرض الساخنة" الواقعة ضمن مناطق ميتشواكان الجبلية.
في مقطع الفيديو المذكور شوهد إليسيو كاباجيرو وهو يطلب من زعيم العصابة دعما ماديا لشراء شاحنة وكاميرات فيديو بهدف تيسير العمل. سرح الصحافيان من عملهما بعد الفضيحة التي انتشرت كالنار في الهشيم على مختلف الفضائيات والصحف الرقمية؛ "قطاع من الصحافة في خدمة تجار المخدرات".
انعدام الأمن الوظيفي
فيما يتعلق بالصحفيين في أميركا الجنوبية، وبالتحديد في الأرجنتين، يمكن أن نعد التضخم والأزمة الاقتصادية ألد أعداء الصحافة. كارولينا غونزاليس، التي تقيم في باتاغونيا الشمالية، المحافظة التي تبعد عن العاصمة بوينوس آيرس أكثر من 1500 كيلومتر، تدّعي أنه من الصعب جدا على الصحافيين في أميركا الجنوبية أن يطمحوا إلى امتلاك منزل أو سيارة لائقة، حتى وإن ظلوا يوفرون المال عشرين عاما من الرواتب المتدنية التي يتقاضونها، والتي يحدد مقدارها الاتحاد الأرجنتيني للعاملين في الصحافة (فاتبرين).
"أعمل منذ عشرين عاما في وسائل الإعلام، ولكني لم أشعر قط بالأمان الوظيفي، نعمل بعقود سوداء (غير مسجلة رسميا)، أكلف الدولة شهريا 20 ألف بيزو (230 دولارا)، بإمكاني تحصيل مداخيل أخرى من بعض الأعمال الخارجية، لكن قيمتها لا تزال متواضعة".
"باحتساب قيمة الرواتب، أين يمكن أن تصنف الصحفي لدى المقارنة بالمهندس المعماري أو المحامي، أو حتى أمام مقاول بسيط؟"
"بهذه العشرين ألف بيزو شهريا لن يعلو رأسي عن خط الفقر. نخبك!"
صحفيون آخرون، تقول غونزاليس، وكي يزيدوا قليلا من مقدار مدخولهم الشهري، يديرون صفحات بعض الشركات على الإنترنت، أو بعض منصات الإعلام المتواضعة، حيث يكونون هم أنفسهم مديري الأخبار، وفي الوقت ذاته يتابعون صفحات المؤسسة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويلتقطون الصور ويرفعونها على تلك الصفحات، وبالتأكيد يحررون الأخبار والنصوص كذلك.
"تتذرع المؤسسات والشركات بأن الحكومة تفرض قيودا على النشر، وهذا صحيح، لكن بإمكان المراسل أن يجادل في بعض الأحيان، "هذه مشكلتك"، "يفترض أننا نعمل في مؤسسة إعلامية، أليس كذلك؟"، "لِمَ ينبغي على موظفيك أن يعانوا هذا الانتقاص؟". ولكنها مهزلة حقا؛ فالحكومة تتيح مجال النشر لمن تشاء، وكيفما تشاء.
في السياق نفسه تضيف غونزاليس أن حقوق النشر في الأرجنتين تمنح "للأصدقاء"، يتيحها السياسيون لمديري وأصحاب وسائل الإعلام الذين تربطهم بهم مصالح مشتركة. هذه السلطوية في منح امتيازات النشر للأصدقاء دون غيرهم هي إحدى الخطايا المؤسسية المنتشرة في بلدان القارة الأميركية قاطبة.
إضافة إلى الأرجنتين، في البيرو والإكوادور وكولومبيا والمكسيك وأميركا الوسطى بشكل عام، تم تخفيض أعداد العاملين بمعدل يصل إلى 30 بالمئة من مجموع القوى العاملة، كإجراء تنظيمي لمواجهة انكماش سوق المستهلكين. القنوات التلفزيونية تحارب ضد المنصات الرقمية (نيتفلكس ويوتيوب وستريمنغ لايف). الصحف المطبوعة تكافح انتشار الأخبار التي يجري تداولها عبر الهواتف النقالة ومجموعات الواتس آب من طرف وكالات الإعلام أو "المواطنين الصحفيين". الراديو في مواجهة صريحة مع البودكاست. وهكذا الأمر بالتتابع. ولا تزال سلسلة الابتكارات التكنولوجية هذه تحل محل وسائل الإعلام التقليدية شيئا فشيئا.
من أجل ذلك كله؛ اضطرت الحكومات والمؤسسات والمبادرات الخاصة إلى اقتسام "كعكة المليونير" المتمثلة في "النشر". منذ عشر سنوات تتبع الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية ما يشبه الحمية في النشر. والأسوأ من ذلك، جائحة كورونا التي -منذ انتشارها- أجبرت مالكي وسائل الإعلام والإداريين والحلقة الأضعف بينهم – المراسلين والمصورين الصحافيين - على أن يشدوا الحزام، تحت مسمى "التقشف العام".
فساد في كل مكان
ألونسو ميسيّا، موظف سابق لدى مؤسسة غابرييل غارثيا ماركيز في العاصمة البيروفية ليما، يؤكد أن الفساد في بلاده "فلسفة حياة"، حيث السياسيون وعناصر الأمن ورجال الأعمال وموظفو المؤسسات، وبالطبع الصحافيون، فاسدون.
"إنها لعبة تمارس داخل البلاد؛ فالفساد هنا يصنع فجوة كبيرة بين المواطنين. والسياسة لعبة لم يعد يكترث لها الكثير من المواطنين البسطاء. الرئيس السابق للبيرو آلان غارثيا لم ينتحر بسبب فساده كما قيل، بل لأنهم أرادوا أن يزجوا به في السجن. الفساد هنا ورم خبيث، لذا فهو مستدام بطبيعة الحال".
يوضح ميسيّا أن هناك مكيدة "تخبز" الآن على أيدي سياسيين مرموقين في البيرو، يتلقون جرعات اللقاح ضد كورونا خفية، وقبل أن يتم تعميم اللقاح على المواطنين. بالنسبة للقطاع الصحافي هناك، فإن من يكتشف ذلك ويقبض الرشاوى يلتزم الصمت، بينما تنشره الصحف التي لم تتلق المال بعد، هكذا تجري الأمور في مرتفعات الأنديز مثلا.
في كولومبيا، وثقت مؤسسة حرية الصحافة أن وسائل الإعلام في المجتمعات المحلية الصغيرة والإقليمية تكاد تكون ريحها معدومة على رقعة كبيرة من بلاد البُن، كنتيجة طبيعية للعنف والمضايقات المتكررة التي تمارسها الجماعات المسلحة. وحيثما وجدت الصحافة فإن التوجيهات الحكومية -التي تستند إلى عمداء البلديات ومديري النواحي- تهيمن على الصحافة. هكذا هي كلاسيكيات أميركا اللاتينية.
هو شكل من أشكال الرقابة والترهيب كذلك. تخيل أن يكون مصدر رزقك معلقا بضوابط النشر التي تأتيك أساسا من جهات ضالعة بالفساد! والأخطر من ذلك، أن كثيرا من الصحفيين -والذين بالكاد يحصلون على رواتبهم- يلجؤون إلى ما يسمى "الحصة الإعلانية".
الحصة الإعلانية هي بيع مساحة في صحيفة ما، أو حيز من أثير إذاعة، أو مساحة إعلانية لإحدى الشركات أو أحد رجال السياسة في التلفزيون المحلي، أو لافتة إعلانية في الموقع الإلكتروني لإحدى الوكالات، أو حتى الترويج على الصفحات الرسمية لوسائل الإعلام على مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل كسب مبلغ زهيد من المال، عمولة لا تتجاوز 20 بالمئة من قيمة المبيعات.
أجرى مشروع "الصحافة المحطمة" مقابلات مع أكثر من ألفي صحافي في 110 مدينة كولومبية، وبين أن سكان أكثر من 600 بلدية لا يتاح لهم الوصول والاطلاع على "المحتوى الصحافي المحلي". بينما هناك 151 مدينة أخرى تبرز في كل منها مؤسسة إعلامية واحدة، تحتكر النشر كله.
في كولومبيا التي تضم أكثر من 32 ناحية وأكثر من 1100 بلدية، فإن صحافيي العاصمة بوغوتا والمدن الكبرى -مثل مدن كالي وميديجين وكارتاخينا- وحدهم ربما من يتقاضون رواتب يمكن تصنيفها "رواتب محترفين"، ومن وقت إلى آخر يحصلون على بعض المزايا؛ كالتأمين الصحي، والمكافأة التي تدفع على جزأين.
وبالطبع هناك الوجه الآخر للعملة، تماما كما هو في المكسيك وفي أميركا الوسطى، إذ تفرغ بعض الصحافيين لخدمة تجار المخدرات والجماعات المسلحة، ليس لمنحهم صوتا كما يفعل كثير من صحافيي أميركا الوسطى، إنما يقفون إلى جانبهم لمصالح مادية بحتة، بعيدا عن الأيديولوجيا.
يمكن تلخيص الاستقطاب الممارس على الصحافة في تلك القارة على النحو الآتي: قليلون - ولكنهم موجودون - يقفون إلى جانب الجريمة، وآخرون في صف الدولة، وكذلك هناك عدد كبير ممن يمارسون الصحافة بمهنية واستقلالية.
خاتمة
لم أقحم نفسي في عالم الصحافة يوما وأنا أطمح أن أجمع ثروة، أو أن أبلغ شهرة. ربما بغير إرادة حققت شيئا من هذه الأخيرة، وهي بالكاد "شهرتي خمس دقائق"، وكتابان منشوران، وثالث ما زال "يطبخ" في المطبعة، لكني اقترفت هذه المهنة لإيماني العميق بالحقيقة، ولكي أخوض تلك الدوامة التي يحدثها الخبر حين ينشر. قالها المغني البورتوريكي هيكتور لافوي:
"ما العشق فيك سوى جريدة الأمس
رائعا كان وقت انبعاثه في الفجر
مؤكدا يعرفه الجميع منتصف النهار
ثم يعود حكاية مهملة في آخر المساء"
بهذه النظرة أواجه الشارع كل يوم، أفتش عن السبق الصحافي، عن النبأ القنبلة، عن نشوة الخبر الحصري التي ما إن تنفجر حتى ترشق صفحة كاملة في الجريدة. عشرون عاما وأنا أمارس هذا العمل، وكل يوم أزداد يقينا بما قاله غابرييل غارثيا ماركيز، "إنني أمارس أفضل مهنة في العالم!!"