الكل يبحث عن المغامرات، لكن لا أحد يسأل عن الصحافة. قد لا يخطر ببالك أن مسلسل "لوبين" الذي حقق أرقامًا قياسية في عدد المشاهدات على موقع "نتفليكس"، أفرد مساحاتٍ من حلقاته ليضيء على مسألة طالما عانى منها الصحفيون، بل وتوجد في صلب مهنتهم: كشف الفساد وفضح السلطة.
خلال أقل من شهر، حصد المسلسل أكثر من 70 مليون مشاهدة، وحجز المقعد الأول في مرتبة أفضل مسلسل فرنسي على موقع الأفلام الشهير "نتفليكس"، وبات من أكثر الأعمال شهرة على الموقع في كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا، إضافة إلى المملكة المتحدة وكندا.
جميع التعليقات على المسلسل تناولت القصة التي اقتُبس منها، وقدرة بطله على الجمع بين حسّه الفكاهي ومناصرته لحقوق الفقراء والمهمّشين ضد سطوة رجال الأعمال وأصحاب الأموال، لكنني لم أجد تعليقًا على الشق الذي تناول التحديات التي تحيط بحياة الصحفي، والتي تشبه كثيرًا مما عاشه ويعايشه أهل الصحافة بعيدًا عن الشاشات.
من رواية "أرسين لوبين اللص اللطيف" لموريس لوبلان، استوحى كاتب المسلسل أحداث قصته، ليُلبس بطلَها الفرنسي من أصول سنغالية عمر سي (43 عاما) شخصية أساني ديوب، اللص النبيل الذي يحاول في حلقات قليلة تبرئة والده -المتوفى قبل سنوات طويلة- من تهمة سرقة عقدٍ ماسيّ ثمين يعود لماري أنطوانيت.
بعد هجرتهما من السنغال إلى فرنسا، حصل والد أساني على وظيفة كسائق لدى عائلة بليغريني الثرية في العاصمة الفرنسية، قبل أن تتهمه العائلة بسرقة العقد الماسي. زُجّ به في السجن ثم مات منتحرًا بعدها بوقت قصير، تاركًا طفله الذي يقرر الانتقام له بعد مرور 25 عاما، متأثرًا بشخصية بطل إحدى نسخ أرسين لوبين الذي كان والده أهداه إياها قبل وفاته.
ربما تتساءلون: ما علاقة الصحافة بالأحداث التي سردناها؟ هذا جوهر المسلسل تحديدا. يصادف أن يحتاج اللص النبيل في مغامراته، إلى صحفية كانت قد ألّفت كتابًا طاردت فيه عائلة بليغريني، وتحديدًا هوبير المسؤول الرئيسي عن اتهام والد أساني زورًا، لكن الأخير استطاع من خلال علاقاته أن يحوّل الصحفية المغامرة فابيان بيريو -التي تلعب دورها الفرنسية آن بينوا- إلى عجوز تجاور قطتها في المنزل بعيدا عن المهنة والناس.
لكنّ حيل أساني المستوحاة من شخصية لوبين، تستطيع هذه المرة أيضًا، أن تُخرج فابيان من عزلتها، وتعيدها إلى ميدان الصحافة، لتكشف له عن شريط مسجل لبليغريني يعود للعام 1996، يُظهره في اجتماع محاولا إجبار بعض الماليزيين بدفع مبلغ ضخم لقاء شرائهم أسلحة أدت فيما بعد إلى مقتل عدد من المواطنين الفرنسيين.
يعمل أساني على نشر جزء من الشريط على موقع "تويتر"، حتى يضطر بليغريني بعد ساعات قليلة للخروج في مؤتمر صحفي داحضا ما جاء فيه، قبل أن يجرف الحماس الحسَّ الصحفي لدى فابيان، فتقرر مقاطعة مؤتمره بسؤال يتسبب في ملاحقتها مجددًا.
لم تكشف فابيان عن كيفية حصولها على الشريط، متمسكة طوال مشاهد المسلسل بعبارة "الصحفي لا يكشف عن مصادره"، وهي الجملة التي رافقتها إلى آخر لحظات حياتها حين قتلها أحد رجال بليغريني لأنها رفضت الإفصاح عن عنوان صديقها أساني.
بعيداً عن مشاهد المسلسل، لا يختلف حال الصحفيين في الواقع، فكما قتلت فابيان بعد ساعات على استجوابها لبليغريني، اغتيلت الصحفية المالطية ضد قضايا الفساد العام دافني كروانا غاليزيا، بعد نصف ساعة فقط على نشرها المدونة التي قالت فيها "أينما نظرتَ ستجدُ المحتالين ومختلسي الأموال.. الوضع مخيّب للآمال وميؤوس منه"، حيث تم تفخيخ سيارتها مع خروجها من منزلها بضواحي العاصمة المالطية في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
مواقف دافني كلّفتها حياتها، فهي كانت معروفة بمتابعتها لملفات الفساد والتهرب الضريبي التي كشفتها في "وثائق بنما"، وتحديدًا توجيهها اتهامات لرئيس الوزراء المالطي جوزيف موسكات وزوجته، إضافة إلى بعض أعضاء حكومته. أفضت التحقيقات إلى اتهام رجل الأعمال يورغن فينيش بالتورط في مقتلها، وألقي عليه القبض فيما بعد، مما أسفر عن استقالات شملت وزير السياحة كونراد ميزي، وكيث شمبري رئيس مكتب موسكات.
لكن مقتلها ظل يهدد موسكات، الذي غادر منصبه أواخر العام 2020 على وقع اتهامه بتضليل التحقيق في اغتيالها بعدما كشفت في "وثائق بنما" عن وجود شركة في دبي باسم ميزي وشمبري (صديق موسكات)، قبل أن يستكمل اتحاد الصحفيين تحقيقاته باسم "دافني بروجكت" ليكشف أن شركة "17 بلاك" يملكها فينيش.
الكشف عن الفساد كلّف الكثير من الصحفيين -وتحديدًا الاستقصائيين- حياتهم. في بوركينا فاسو، لقي نوربرت زونغو حتفه بعد نشره تحقيقات استقصائية حول فساد السلطة في بلاده، وعُثر على سيارته المحترقة على الطريق المؤدية إلى مزرعته في ديسمبر/كانون الأول 1998.
قبلها بعام واحد، أثار زونغو قضية مقتل سائق شقيق الرئيس البوركيني آنذاك بليز كومباوري، حيث تلقى العديد من التهديدات بعد نشره مقتطفات يومية عن القضية في صحيفته، واستمرت التهديدات حتى وفاته.
توهم القتلة أن يُسكت اغتيال زونغو أصواتَ الصحفيين أو يمارس نوعًا من الترهيب، لكن وفاته كانت سببًا في اندلاع احتجاجات عنيفة ومظاهرات طلابية في البلاد، فأعادت صياغةَ المشهد الإعلامي، وعززت من التزام الصحفيين وعزمهم على التحقيق في كافة أشكال المخالفات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث ستفضي التحقيقات فيما بعد إلى تأكيد مسؤولية فرانسوا كومباوري عن مقتل سائقه، ومعاقبة المنفّذين.
حملات الاستهداف لم تستثن أي منطقة في العالم، وحتى لو لم يكن مصير الصحفيين الاغتيال الجسدي، فإنهم تعرّضوا ويتعرضون لمضايقات تنوعت أشكالها بين الاختطاف والاعتقال والتعذيب.
في العاصمة الأوكرانية كييف، اغتيل الصحفي الاستقصائي الأشهر في البلاد بافيل شيرميت بعدما زُرعت قنبلة في سيارته في يوليو/تموز 2016، وهو الذي كان مسؤولا عن كشف قضايا فساد مرتبطة بالعديد من الشخصيات في كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء وروسيا، وجاء اغتياله عقب تلقيه تهديدات بعدم كشف فضائح الفساد في أوكرانيا وروسيا.
شيرميت عمل في صحيفة "يوكرنسكا برافدا" التي لقي مؤسسها الصحفي الاستقصائي جورجي غونغادز المصير نفسه عام 2000.
بالعودة إلى مسلسل "لوبين"، حين قررتُ الكتابة عن هذا الشق من المسلسل، كنتُ قد قرأت بعض التعليقات عنه، التي ذكرت أنه لولا استجواب فابيان لبليغريني لكانت بقيت على قيد الحياة، والأكيد أن كثيرين قالوا: "لولا تدوينة دافني، ولولا مقتطفات زونغو، لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه، ولما لقوا حتفهم".
قبل مدة قصيرة، طُرحت أمامي هذه المعضلة وسألني أحدهم: هل تعتقدين أن على الصحفي الاستقصائي أن يتوقف عندما يتعرّض للتهديد؟ بكل صدق، لم أكن أتوفر حينَها على جواب دقيق، إنما وجدت نفسي عاجزة عن الحسم في قضية جدلية كهذه، لكن ما يمكنني قوله إنه في حالات كثيرة، كان مقتل الصحفيين سببًا في الكشف عن قضايا فساد ومحاسبة المسؤولين وإسقاط أنظمة وإحداث شرخ في السلطة، بل وترك صدمة حتّمت الإجابة عن أسئلة كثيرة. وكما استطاعت التحقيقات أن تنتقم للعديد من الصحفيين الذين تعرّضوا للاغتيال، فهل سيكشف الجزء الثاني من مسلسل "لوبين" عن الانتقام لفابيان ووالد أساني؟