الجيش خط أحمر، يُمنع نقده في وسائل الإعلام والتعليق على أعماله وذكر اسمه دون الرجوع إليه. نصوص قانونية فضفاضة وواسعة تستخدمها سلطة قضائية غير مستقلة لتحصينه من النقد. الجيش يعمل في التجارة خلافًا للدستور، ينافس بغير نزاهة القطاع الخاص، أعماله التجارية الداخلية والخارجية معفاة من الضرائب والجمارك والرسوم، إيرادات شركاته لا تدخل في الموازنة العامة للدولة، ميزانيته أرقام صماء بلا تفصيل، والبرلمان يمنع من الرقابة عليها أو السؤال عنها أو مناقشتها، كل من يحاول الاقتراب من ذلك تصريحًا أو تلميحا يُشيطَن، ويخرج عن الثوابت الوطنية.
تنفق الدولة على الجيش والأمن أكثر من ربع ميزانيتها المتواضعة والمثقلة بالعجز، ويأتي ثُلثا إيرادات الموازنة من ضرائب يدفعها الشعب الذي لا يملك رقابة على أمواله التي تحصلها الدولة. الإعلام غير مستقل لممارسة دوره الرقابي، مكبل بالقوانين العرفية وتدخُّل الحكومة ورجال الأمن والرقابة الذاتية، فالإحصائيات تقول إن عددا كبيرا جدا من الإعلاميين يتجنب انتقاد الجيش، ويأتي الجيش في المرتبة الثانية بعد ديوان رئيس الدولة في المؤسسات التي يتجنب الإعلاميون نقدها.
رئيس الدولة هو القائد الأعلى للجيش، وهو مصان من حق النقد رغم ممارسته أعمالا إدارية وسياسية واقتصادية بشكلٍ يومي خلافًا للقانون والدستور الذي يقرن المسؤولية بالمساءلة، وكل من يحاول نقده يجرم بموجب القانون، بتهم إطالة اللسان وقدح المقامات العليا وتقويض النظام، رئيس الدولة أيضا يُعين رئيس هيئة أركان الجيش وقادة أجهزة الأمن دون الرجوع إلى الحكومة، رغم أن مجلس الوزراء صاحب الولاية العامة، ورئيس الوزراء هو وزير الدفاع وهو المسؤول دستوريًا عن الجيش وأعماله.
لكن من يكترث بالدستور، ففي كل مرة يتم تعديله وتفصيله على مقاس الزعيم والحاشية، تتمدد إمبراطورية الضباط والعسكر في هذا البلد نحو الاقتصاد والسياسة، كما هو الحال في البلد العربي الكبير، تلك العدوى تتفشى بسرعة في أنظمة العرب بعد الثورة المضادة، عنوان المرحلة "عسكرة كل شيء" لحماية النظام ورأس النظام من موجة قادمة للربيع العربي.
عقيدة الجيش
بنيت العقيدة القتالية للجيش على الدفاع عن الوطن وحمايته، وبعد أقل من سنتين على إعلان استقلال البلاد خسر الجيش معركته الوجودية مع من يعتبره عدوا يؤطر عقيدته القتالية. خسر الجيش هناك الكثير من الجنود وخسر أراضي جديدة. آمن الضباط الصغار بوجود عدو أزلي لكن القيادات الكبيرة تفكر بمنطق آخر، لا أحد هنا يمكن أن يحاسب الجيش على خساراته التي لا تكاد تنتهي، حصدها على مر عقود.
مع دخول البلاد عصر السلم بدأت عقيدته القتالية تتغير تدريجيًا، والتزم بالامتناع عن التهديد بالقوة واستعمالها، وتنظيم الأعمال والتهديدات العدائية والمعادية ضد العدو الأزلي. تغيرت مناهج التدريب والتدريس في الجيش وكذلك في كتب المدارس، وأزيلت منها كل الكلمات والجُمل التي قد يفهم منها تحريض ضد "الخصم" أو وصفه بالعدو، وعادت البلاد إلى الحضن "الكبير" الداعم الأول للجيوش بالمنطقة بالمعدات والأسلحة والتدريب.
بموجب ذلك فقد الجيش قراره العسكري الإجرائي، وأصبح لا يُرفع كبار الضابط إلى الرتب العليا إلا بعد مباركة "الدولة العظمى" ورضى من كان بالأمس عدوا في جبهات القتال، وشيد مكتبًا عسكريًا للتنسيق وتبادل الخبرات والمعلومات الأمنية والعسكرية بين الجيش وعدوه.
وتغيرت النظرة جذريا إلى "الخصم" من عدو وتهديد إلى صديق وحليف، وباتت عقيدة الجيش قائمة على محاربة التطرف والإرهاب، بوصفه العدو الأول للبلاد، خاصة بعد الحرب الأممية على ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة، والإرهاب في عقيدة الجيش يعني الجماعات الإسلامية الراديكالية، وفي سبيل تلك العقيدة سقط العديد من جنود الجيش في بلدان مختلفة، رغم نداءات الشعب أن الحرب ليست حربنا وأن الجيش للدفاع عن حدود الوطن فقط، وأن تلك المشاركات العسكرية لا تحظى بموافقة البرلمان الذي من المفترض أن يكون صوت الشعب.
جيش الزعيم
الجيش في البلاد هو جيش الزعيم من ناحية عملية، وقد اصطف في مفاصل تاريخية ضد الشعب وإرادته أيضا لحماية النظام السياسي ورأس الدولة تحديدًا، والحكومات المتعاقبة لا تملك فعليا أي سلطة على الجيش، فهو يتبع رأس الدولة ويأخذ تعليماته وقراراته مباشرة منه.
والجيش ساهم في الانقلاب على حكومات تحظى بشرعية صناديق الاقتراع لصالح رأس الدولة، تسبب لاحقًا في شرخ كبير في اللحمة الوطنية، وسقط جراء ذلك قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وقمع كذلك انتفاضات شعبية، وانتهك حقوق الإنسان خاصة في زمن الأحكام العرفية، والحقبة السوداء التي ما زالت بحاجة إلى عدالة انتقالية ونبش أسرارها على الملأ حتى لا تعود وتتكرر في أي ظرف سياسي قادم. ومنذ ذلك الوقت أصبح رأس الدولة هو مصدر السلطات الفعلي، والجيش أداته في القمع والردع، وقاعدته الاجتماعية والجماهيرية.
ورغم أن الجيش لا يظهر لاعبًا في الحياة السياسية بشكلٍ واضح، ويحاول دائمًا أن يبرز مهنيته العالية، إلا أن تأثيره في القرار السياسي واضح جدا، وتأثيره داخل الغرفة المغلقة على أصحاب القرار السياسي والخدمي، إضافة إلى استشارته في الكثير من الأمور بما فيها بعض المعاملات اليومية للمواطنين.
الجيش والمجتمع
بني الجيش في نشأته الأولى على أسس قبلية، حيث كان قائده الأجنبي يختار أفراده على أسس بداوتهم وقلة تعليمهم وعدم ارتباطهم الحضاري بالأرض والتجارة، لتسهل عملية قيادتهم، وفي ذلك الوقت أي قبل نحو سبعين عاما شارك الجيش في كبح حركة تمرد في بلد مجاور.
سياسة التعيين في الجيش استمرت كما هي تقريبا، فأغلب أفراده من مدن طرفية مهمشة خارج العاصمة، وهو المشغل الأكبر لأبناء هذه المدن الذين لم يتلقوا فرص تعليم وتأهيل جيدة، بسبب ضعف التنمية ومخرجاتها هناك. ويمثل الجيش فرصة عمل جيدة لهم في بلد تضاعفت فيه نسب البطالة والفقر، ويحظى أفراد الجيش بميزات لا تتوافر للموظف العام المتعلم، ما يجعل له الأفضلية، ومن هذه الميزات تعليم الأبناء في الجامعات بالمجان، وقبولهم وفق كوتا غير تنافسية من مقاعد الجامعات خلافًا للدستور الذي ينص على أن المواطنين سواسية "كأسنان المشط"، والتأمين الصحي للأفراد وعائلاتهم وإسكان للضباط وصغار العسكر، وإعفاء جمركي لسيارات الضباط بعد رتب متوسطة، وهذا لا يحظى به أي موظف آخر في القطاع العام.
يعلن عن هذه الامتيازات تحت مصطلح مكارم من رأس الدولة. وتهدف هذه الامتيازات لبناء ولاء لصاحب المكرمة بين أفراد الجيش وأسرهم وبيئته الحاضنة، كما تزيد من حظوته، وتحصنه والجيش من النقد المجتمعي، بحيث تتجسد الدولة بالجيش، وجعل كل من ينتقد سياسات الجيش وممارساته حتى لو كان في جلسة خاصة عرضة للقمع المجتمعي والهجوم.
لبقاء الجيش في بيت الطاعة وخاصة في زمن السلم والحرب على الإرهاب، حصل على امتيازات كبيرة لتلبية متطلبات ضباطه وأفراده وحاجاتهم، خارج أطر الصرف المالية المعتمدة في الموازنة العامة، ما جعل من الجيش طبقة جديدة في المجتمع وقضاياه.
سياسة التعيين في الجيش غير شفافة وهي أقرب ما تكون قائمة على "الولاء والبراء"، وهي مقتصرة على لون مجتمعي واحد، بوصفه صمام الأمان والأكثر ولاءً وانتماء من مكونات المجتمع الأخرى لرأس الدولة والبلاد، وهذا ما يزيد من هشاشة الوحدة الوطنية ويفتتها برعاية رسمية.
تلعب الواسطة والمحسوبية والقبلية دورا في تعيين العسكر والمرشحين والمقبولين في الكليات العسكرية، وهذا ما يصيب أخلاقيات المهنة العسكرية في مقتل، ويخلق داخل الجيش مجموعات محسوبة على قيادات أكبر منها، تغذي صراع الأجنحة داخله على المزايا والعطايا والمراكز، وخلق طبقة من الضباط متحالفة مع زعامات قبلية. لذا نجد أن منصب رئيس هيئة الأركان يُدور في كل مرة بين التجمعات القبلية في الشمال والوسط والجنوب.
الجيش والديمقراطية
الجيش لا يؤمن بالديمقراطية، ولا بحق الشعب في ممارستها، فهو موالٍ للنظام بل ركن من أركانه، والنظام يرى في عملية التحول الديمقراطي خطرًا داهمًا، كما يراها الجيش خطرًا على مكاسبه وامتيازاته، وإمبراطوريته التي تتمدد، فهو يشعر بالعجز عن حماية هذه المكتسبات في ظل نظام ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة بين أحزاب وتيارات سياسية منظمة، تحتكم إلى الشفافية وحق الناس في المعرفة والرقابة الشعبية والإعلامية.
كما أن النظام يخشى من الديمقراطية والإصلاح السياسي، فيشيطن المطالبين بهما، يؤطرهم تحت لافتة تيار سياسي يتهمه بالسيطرة على السلطة، وهو يفعل ذلك منذ أربعين سنة، وفي كل أزمة سياسية يلجأ النظام إلى الحجج والتبريرات ذاتها ليفلت من تقديم تنازلات سياسية تجعل من الشعب مصدرًا حقيقيًا للسلطات، وفي هذه المواقف ينحاز الجيش إلى النظام ورأسه لا إلى الشعب وآماله وتطلعاته، يستخدم القوة العسكرية لكبح جماح الجماهير.
الجيوش مخزن أسرار الأمن القومي للدول، لكن هذا لا يعني أنها عدوة لحرية الرأي والتعبير والصحافة وحق الناس في المعرفة، لأنها تتبع في النهاية قيادة سياسية منتخبة في البلدان الديمقراطية. والأسرار العسكرية تكون في زوايا محددة وواضحة، لكن الجيش في هذه الدولة يمارس دورًا في ضبط إيقاع الصحافة والإعلام، فمثلا يصدر تعميمًا بعدم تناول أخباره دون أخذ موافقته، ويطلب صحافية للتحقيق معها في الاستخبارات العسكرية، لنشرها مقالا عن التهام قائد عسكري لعقار كبير، وتحال إلى القضاء.
عدا عن الحالات السابقة المعزولة، فإن الجيش في مختلف وسائل الإعلام يُصور على أنه حامي الحمى، له قدسيته ومكانته وأغانيه وأشعاره، ولا يذكر إلا في إطار الشكر والثناء، وبعض الأخبار البروتوكولية. الجيش يتعرض لأكبر عملية هيكلة للمعدات والتجهيزات وكذلك الأفراد، على يد ضباط أجانب ومستشارين عسكريين، لكن لا أحد يجرؤ على مناقشة ذلك لا في غرف الأخبار ولا في قاعات التحرير، ولا على أي منصة، رغم أن ذلك شأن عام، يجب أن يخضع للحوار في أروقة مجلس الوزراء والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب، وينعكس ذلك في الإعلام، لكن هذا لم يحدث إطلاقًا فالفضاء العام مغلق تمامًا في مناقشة أمور أكثر بساطة.
الجيش يملك أيضا وسائل إعلام ومواقع إلكترونية وإذاعات ورخصة بث تلفزيوني، وتستخدم هذه المنصات الإعلامية للترويج للجيش وأجهزة الأمن، ومناكفة أجهزة رسمية أخرى في إطار صراع الأجنحة القوية داخل الدولة.
الجيش لا يشارك في الانتخابات البرلمانية، لكنه ساهم في تزويرها في أكثر من مرة، وشارك في الانتخابات البلدية أكثر من مرة وتلاعب فيها بشكل سافر.
الجيش والتجارة
يملك الجيش إمبراطورية من الشركات المحلية والخارجية، وشركات "الأوف شور" في الملاذات الضريبية الآمنة، إضافة إلى حسابات مالية ومصرفية. يستغل رأس الدولة هذه الشركات لتغطية نفقات ضباط الجيش والحاشية وأفراد عائلته خارج موازنة الدولة، ودون رقابة، جاء إنشاء هذه الشركات بحجة تشجيع الاستثمار، كون الجيش مؤسسة لها بعد تنموي داخل المجتمع، ولتلافي بيروقراطية الحكومة في حال الدخول شركات الجيش في استثمارات كبيرة، وقد أظهرت وثائق مسربة أن شخص رأس الدولة مستفيد منها بشكل مباشر.
إيرادات هذه الشركات لا تدخل في موازنة الدولة وهي خارج رقابة الأجهزة الدولية المالية أيضا، والبرلمان لا يستطيع فرض رقابته على موازنة الجيش فضلا عن شركاته الداخلية والخارجية، علاوة على أن الكثير من النواب يتغنى بالجيش ويطالب بامتيازات له خلال مناقشة الموازنة العامة للدولة، حتى يساعده ذلك في البقاء أطول فترة في حضن النظام.
قبل عشر سنوات من الآن منحت الدولة الجيش جزءا كبيرا من أراضيها، وهذه هي الطريقة التي تسلل من خلالها رأس الدولة لبيع هذه الأراضي وتأجيرها، بعد فضيحة تسجيل أراضي الدولة باسمه مباشرة مطلع حكمه. اللجوء إلى الجيش في هكذا قرارات خطيرة وغير شعبية يهدف إلى تمريرها والاستفادة من رصيد الجيش لدى جزء كبير من الناس، الذي خدش بعد كم كبير من الفضائح التي لاحقته في السنوات الأخيرة.
تحول الجيش إلى دولة داخل الدولة، وتضاعف نفوذه العابر للطبقات السياسية والقبلية ورجال المال والأعمال، وتحولت امتيازاته إلى إدارة مستقلة ماليًا وعسكريًا، تدار ذاتيًا وتشوبها رائحة الفساد، لتخلق اقتصادا موازيا وشبكة معقدة من المصالح الداخلية والخارجية لخدمة رأس الدولة والقلة الحاكمة، بعيدًا عن أعمال القتال وفنون الحرب وحماية الأوطان ومصالح الشعب، لكن لا يمكن أن ترى ذلك في الإعلام، لأنه الخط الأشد احمرارا.
حينما تعجز الأنظمة السياسية عن تطويع الصحافيين أو استمالتهم، تلجأ إلى الخطة "ب"، عبر النبش في حياتهم الخاصة بحثا عن نزوة في لحظة ضعف، أو صورة مبتورة من سياقها، متوسلة بأبواق السلطة لتنفيذ عمليات الإعدام بدم بارد ولو باختلاق قصص وهمية.