كنت شاهدا على الموقف قبل عدة سنوات في قسم التحرير بإحدى الصحف. كان رئيس التحرير يسير في الممر إلى أن وصل قسم المعلومات السياسية، وسلَّم مديرة القسم ملفا كان يحمله قائلا: "إنه التزام مؤسسي، امنحيه شيئا من الحب"، بدورها أخذت مديرة القسم الملف، تصفحته، كانت على وشك أن تبدأ العمل عليه، لكنها استدركت للحظة وأطرقت التفكير، ثم قامت فجأة إلى مكتب الرئيس: "هل لك أن تحدد بالضبط ما الذي تعنيه بالحب؟!".
الرقابة على الطريقة القديمة شأنها شأن الكتابة حسب إملاءات السلطة، خرجت كثيرا عن المألوف. لم يعد من الضروري إذلال كبرياء المحرر بفرض محتوى معين أو موضوع للكتابة فيه، أو الإشارة بالقلم الأحمر فوق نصوصه، بل صار يكفي أن تجعله يفكر بمقدار الحب الذي ينبغي أن يمنحه لموضوع أو مؤسسة ما؛ بمساحة إعلانية مع صورة، أو افتتاحية من أربعة أعمدة أو ربما خبر على صفحتين، بلا شك سيختار دائما أن يمنح المسألة مزيدا من الاهتمام. ومن المعروف أن المبالغة في هذا السياق أفضل بكثير من التقصير فيه، لن يفرض عليه رؤساؤه شيئا بالقوة، سيدعونه على أي حال للتأمل كمحرر محترف في مدى ملاءمة نصه للشكل والحجم المناسبين، باختصار، سيتركون الصحافي يقوم بدور الرقابة الذاتية على نصوصه.
في معظم أنحاء أوروبا وليس في كثير من دول العالم، خرجت كل وسائل الرقابة تلك عن شكلها القديم. لم تعد تأتي تلك المكالمة الهاتفية من وزير ما أو من سكرتيره الخاص مهددا بسجن الصحافي أو إغلاق الصحيفة، لكن الأمر الذي لم يتغير بعد هو تلك الرقابة التي تمارسها المؤسسات ذاتها، جميعنا يعلم أن أجور الصحافيين لا تأتي من تلك القروش التي ندفعها في أكشاك الصحافة ثمنا لنسخة من الجريدة، وأن هذا بالكاد يغطي كلفة الأوراق ذاتها.
تؤمن أجور الصحافيين من خلال الحوالات المصرفية التي تدفعها الشركات الراغبة في ضمان مساحة إعلانية مرئية لمنتجاتها في الصحف على شكل إعلان تجاري. وليس ذلك بالأمر الجديد، بل إن وجوده ضارب في جذور الصحافة ومفهومها العام. إن أهم الصحف اليومية التي تستقى منها الأخبار تحتوي بشكل أساسي على عدد من الإعلانات التجارية، ومن يدفع المال يدفع بإملاءاته كذلك، لذا فإن صحيفة تقتات على إعلان لسيارة من طراز معين على صفحتها الرئيسية لن تخاطر مثلا بنشر خبر حول إضراب للعاملين بمصنع السيارات ذاك، بالتأكيد سيرفع أحدهم سماعة الهاتف فورا ليطلب رقم رئيس الصحيفة ويكلمه: "ابتداء من الغد انسَ أمر إعلاناتنا وحوالاتنا المصرفية كذلك"، وليست في ذلك أي مخالفة للقانون، إنه ببساطة منطق مؤسساتي.
وكذلك فإن المجالس البلدية (التي لديها وزن سياسي كبير في أوروبا) والمؤسسات السياسية تتبع النهج ذاته في هذا السياق؛ فهناك ما يسمى بالإعلان المؤسساتي، والذي يقدم للمواطنين شروحا وافية عن طبيعة عمل هذه المؤسسات والخدمات التي تضطلع بها، وهذه الإعلانات قد يتم حرمان الصحف من نشرها إذا حاولت إحداها التقصي حول ما إذا كان رئيس البلدية - مثلا - يتقاضى الرشاوى من بعض المقاولين في مؤسسة ما للإنشاءات والبناء.
كم هي محظوظة تلك الصحف التي تباع في نطاق جغرافي تتنوع فيه الأحزاب السياسية التي تشغل حيزا في السلطة والمؤسسات المختلفة، ذلك أن بإمكانها التوغل في كسب التمويل بين الخدمات التي يقوم بها البعض، والانتهاكات التي يرتكبها البعض الآخر، كما أن ذلك ما يشكل لها موردا مهما للأنباء طوال الوقت.
في بعض الأحيان تكون المشكلة في البيت الداخلي للمؤسسة الإعلامية، فالصحف والإذاعات والتلفزيونات نادرا ما تكون مؤسسات مستقلة بذاتها، ولكنها في غالب الأمر تكون جزءا من ائتلاف تجاري كبير يشمل عددا لا نهائيا من المشاريع في عدة مجالات؛ من دور النشر إلى المصارف التجارية أو حتى وكالات السفر. كثير من التشعبات التي لن يدري أمامها المحرر ما الذنب الذي اقترفه حين كتب مقالا عن الامتداد غير القانوني لفندق ما، قد لا يكون جزءا من المنظومة التجارية التي تشمل الصحيفة، ولكنه في الوقت ذاته يتعامل مع وكالة السفر المرتبطة بها، أو قد يكون (الفندق) أحد الداعمين الرئيسيين لمعرض الكتاب المحلي الذي تعرض فيه دار النشر المرتبطة بالائتلاف التجاري كتبها ومنشوراتها.
ولن يدور في أذهاننا حين تتحدث الأخبار الاقتصادية عن أخطار تهدد مستقبل المواطنين على سبيل المثال، أن ذلك الخبر قد يكون مادة دعائية لشركة التأمين المرتبطة بتلك الصحيفة أو الإذاعة أو القناة التلفزيونية، فليس من الضروري هنا نشر إعلان للشركة، ولكن طرح الموضوع في الأخبار يجعل الأمر ذا أهمية كبرى، كما أن تأثير الرسالة على المتلقي يكون أكبر دائما.
لوقت ليس بالقصير كان الحديث يدور حول "الشركات ذات الحصانة"، أو التي لا يمكن انتقادها بأي حال، العلامات التجارية المرموقة والمتاجر الضخمة وكل المؤسسات التي تنفق مبالغ طائلة لتخصيص مساحة إعلانية لها، استطاعت أن تشعر بالأمان، والتجربة تؤكد أنها كانت كذلك، لم تكن هناك أي وسيلة لتأمين الشركات سوى بالمرور على تلك الاستحقاقات التي أنتجتها الدعاية الإعلانية على شكل حملات ترويجية أو ملاحق خاصة، حتى أضحت القضية أمرا اعتياديا.
وبينما كان الحديث يدور حول هذه الشركات، كان هناك نوع آخر من المؤسسات يستحدث أساليب جديدة من التسويق الخفي تصل إلى حدود التلاعب، ونقصد هنا على سبيل المثال تلك الشركات الكبرى والمتنفذة في مجالات الطاقة، التي تمكنت من الإمساك بدفة الماكنة الإعلامية وتوجيهها كما تشاء بطريقة ليست ذكية بقدر ما هي آمنة، تغطية إعلامية هائلة حالت دون أن يستطيع أحد جرها إلى موضع الشك. كما أنها ابتكرت نوعا جديدا من أساليب الدعاية، وهو المقال الممول الذي يعد نسخة مطورة من الإعلان التجاري المعروف. شيء يبدو كما لو أن الذئب يمول مقالا عن لحم الضأن، أو أن منتج أنابيب العادم يمول مقالا عن التوعية البيئية، كثيرون هنا وهناك مطلعون على مثل هذه الأمور، لكننا قد نستبعد أحيانا أن لديهم مصالح خاصة من وراء طرح تلك القضايا.
في الآونة الأخيرة فُرض شكل جديد من أشكال تمويل وسائل الإعلام، ينطوي على خطر الوقوع في التبعية للقوى السياسية والاقتصادية، إنه "الحدث الممول"، والذي من خلاله تقدم وسائل الإعلام اتصالا واسعا بالجماهير بينما يقدم راعي الحدث المال فحسب. كلما كان المال أكثر فإنه سيمتلك سلطة أكبر على ما ينشر في الإعلام، وكلما ارتفع عدد الفعاليات التي تتولى المؤسسات الإعلامية تغطيتها لتحصيل التمويل فإنها تبتعد أكثر عن كونها مستقلة، لو كان الأمر ممكنا في الأساس، ويجب على الصحافي أن يعرف حدوده بكل تأكيد.
لقد ظلت تلك الأمور تجري تحت غطاء من الصمت لوقت طويل. الصحافة التي لطالما نشرت على الهواء معاناة الآخرين، قليلا ما حاولت تنظيف بيتها الداخلي، ولكن لحسن الحظ برزت خلال السنوات الأخيرة حالات مختلفة لصحفيين لم يترددوا في إثارة الحديث عن الضغوطات والارتباطات بين المؤسسات الإعلامية والقوى الاقتصادية، رغم ما يستوجبه ذلك من كلفة باهظة على حاضرهم ومستقبلهم الوظيفي.
في البلد الأوربي الذي أعيش فيه، والذي يختال بمستوى عال من حرية التعبير، تسبب إصدار كتابين في إحداث صدمة كبيرة؛ أولهما كان كتاب "القائد" لراولف رودريغو، والذي كان يشغل رئيس التحرير في صحيفة كبيرة جدا، ثم كتاب "الصحفي الواعي" لخوان مولاكو، الذي كان يضطلع بقدر هائل من المسؤولية في "منشورات البحر"، كلا الكتابين أشار بالاسم الأول واسم العائلة لكل الشخصيات والمؤسسات - ابتداء بالمصارف وانتهاء بأسماء من العائلة المالكة، مرورا بكل الأحزاب السياسية - التي مارست في وقت ما تأثيرها القوي لتبديل العناوين أو حذف بعض الصفحات أو إيقاف المطابع في العديد من الحالات.
يبدي رودريغو أسفه الشديد: "الصحف والإذاعات والتلفزيونات لا تعرض الحقائق، وإنما تبيع مساحات إعلانية"، "الأيديولوجيا وخط التحرير ما هما إلا ورق تغليف الهدايا، الغطاء الذي يجعل المنتج يبدو جذابا"، ويضيف في موضع آخر من كتابه: "لقد نسينا نقطة في غاية الأهمية؛ أن الصحف والإذاعات والتلفزيونات هي شركات بطبيعة الحال"، لم يعد رودريغو إلى الكتابة منذ ذلك اليوم، وبات يتعاون مع مؤسسات دولية فحسب، لأن فضح الحقائق في تقديره يعني بشكل واضح أن تقول للمهنة وداعا.
لكننا اليوم أمام تحدٍّ جديد، كثير من هذه الصفقات السرية يتم تمريرها أحيانا دون الحاجة إلى رفع سماعة الهاتف، يكفي اليوم أن تترك هذه المهمة القذرة لتتولاها ظروف العمل التي يوضع فيها الصحافيون؛ إرهاقهم بالضغط الشديد، وتحميلهم فوق طاقتهم دون أن يجدوا الوقت لفعل أي شيء آخر، لأن الصحافة الجيدة والتي تخيف السلطة حقا تدرك أن الأمر ما هو إلا مسألة وقت وتفرّغ.
ستتغول الرقابة، أنا متيقن من ذلك، لأن أزمة كورونا أغلقت صنابير الإعلانات على نحو خطير، أخبرني قبل أيام مسؤول تحرير كبير أننا سنضطر إلى الصمت حيال أي انتهاك، ذلك الصمت القريب من التواطؤ مقابل مساعدة مالية بسيطة جدا، تبقي الصحف والمواقع على قيد الحياة، معركة المصير ستزيد من رقعة الرقابة الذاتية، وستحد الحرية، وستعطي الفرصة لرجال الاقتصاد والمال المتحكمين في سوق الإعلانات لفرض سيطرتهم الكاملة على السوق.
حين نشاهد فيلم "سبوت لايت" فإن أكثر ما يلفت نظر الصحافي اليوم هو مسألة كيف استطاع فريق من المحققين الصحافيين في "بوسطن غلوب" الحصول على تصريح من إداراتهم للعمل عدة شهور في قضية لم تكن مؤكدة وقتها، مثل الاعتداء الجنسي على الأطفال في حرم الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن، بينما أكثر جملة يسمعها الصحفي حين يطلب منه مديره كتابة تقرير هي "أريده من أجل البارحة".
كذلك الأمر في فيلم "ذي بوست" الذي يجسد عمل الصحفيين كاتارين غراهام وبين برادلي، اللذين كشفا للعيان الطريقة التي اتبعتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لمدة ثلاثين عاما في إخفاء معلومات مهمة تتعلق بحرب فيتنام، الحقيقة الموجعة هي أنك إذا أردت البحث في قضية ما بشكل شامل، وأن تقارن المعلومات وتتحقق من كل كلمة تكتبها، فإنك ستحتاج أسابيع وأشهرا وربما سنوات، وهذا ما لن تمنحك إياه أيٌّ من المؤسسات الإعلامية في أيامنا، ولن تجد منها سوى مزيد من ضغط العمل والاستعجال، لو كنتُ في السلطة وأردتُ أن أوقف أحد الصحافيين عن تتبع أخطائي وانتهاكاتي فلن أضطر إلى تهديده بالقتل كما يفعلون حتى اليوم في المكسيك مثلا، ولن أقوم كذلك بفرض رقابة عليه كما يفعل أي ديكتاتور، ولكنني سأكتفي بجعل سطح المكتب الخاص به يعُج بالكثير من الملفات المعلقة التي تنتظر إبداعه.
وفي وجه هذا كله بدأت المؤسسات الإعلامية في البحث عن صيغ تمويلية أخرى لتجنب هذا الاستعباد المالي والوصول إلى الحد الأدنى من الاستقلالية. إحدى هذه الوسائل المجربة، لكن بنتائج قد لا تكون فعالة، التحول من الاعتماد على الإعلانات إلى الاتكاء على الإيرادات التي يدفعها القراء، والذين يصبحون فيما بعد شركاء في الصحيفة، فلو استطعنا بلوغ هذا الهدف النبيل في أن يصبح الجمهور هو المالك الافتراضي للمؤسسة الإعلامية، عندها سيكون على الصحافي أن يطيع أوامر المالكين والتي هي نقل الحقيقة كاملة وشفافة، بدلا من أن يخضع لإملاءات قوى أو مصالح أخرى، وبهذه الطريقة قد تختفي الإعلانات نهائيا أو قد تصير مجرد واحد من المقومات الاقتصادية للمشروع الصحفي، وليس مالكه بحكم الواقع. وهكذا يمكن إخضاع الإعلانات لعملية تنقية واختيار للنشر حسب معايير أخلاقية معينة تضعها المؤسسة الإعلامية بما يتلاءم وثقافة القراء، ويمكن حينها استبعاد كثير من المواد الإعلانية غير المرغوب فيها كالإعلانات المروجة للبغاء وبيوت المقامرة والمراهنات.
لكن هذه الصيغة تقتضي وجود كتلة ناقدة من القراء المستعدين لدفع المال مقابل الحصول على الحقائق، ما يعني أن يدركوا قيمة هذه المواد كرافد إعلامي يختلف عن بقية المحتويات المجانية التي تدّعي الحقيقة وهي لا تعدو عن كونها لهوا وتسلية، وليس ذلك بالأمر السهل؛ فالمعلومات الحقيقية لا تكون في غالب الأمر مريحة للقارئ، بل إن بإمكانها أن تدمر الصورة الرائعة التي رسمتها مخيلته للحزب الذي صوت له طيلة حياته، وللمنتجع البحري الذي يفضل دائما قضاء عطلة الصيف فيه، لتصوره عن نفسه وسلوكه اليومي، وحتى لفريق كرة القدم الذي يشجعه منذ زمن، الحقائق موجعة، وإن لم تكن كذلك فهي ليست حقائق، بل مزيداً من اللا شيء.
إذا أردنا ألا تتحكم الشركات الكبرى والصغرى بكل ما نعرفه وما نعتقد به - لأنها بالفعل هي من يتحكم بما نظن معرفته، وما نستطيع التفكير فيه - يجب أن نتذكر أنه لا شيء يقدم بالمجان في هذا العالم، حتى الحقائق، عندما تعرض لنا كبريات القنوات التلفزيونية أو الصحف الملونة سلعتها التي تسميها الأخبار، هل ندرك حقا ما هو المنتج الذي تبيعنا إياه؟ حضرة القارئ، إذا كنت تجهل ما هي السلعة التي تقدمها لك شركة ما، فذلك لأنك أنت السلعة يا عزيزي.