"ببساطة لم نمارس أي شيء!" هذا ما يقوله طلاب كليات الصحافة في مصر. فبسبب الفجوة المتزايدة بين التعلم والتطبيق، والتي توسّعت في ظل غياب الحريات والمعايير المهنية عن الوسط الصحفي، خفت نجم تخصص الصحافة في مصر، ولم يعد جاذبا للطلبة.
أربع سنوات هي إجمالي ما يقضيه طالب قسم الصحافة في كليات الإعلام المصرية، وسط واقعٍ إعلاميٍّ يعاني من مشكلات عدّة ومركبّة. واقعٌ يبدأ بفرض قيوده على العمل الصحفي منذ فترة الدراسة ذاتها، ويُسبب حالة من الانفصام بين ما يُدرّس نظريا وإمكانية تطبيقه عمليا.
طيلة هذه السنوات الأربع، يزداد عمق الفجوة شيئا فشيئا بتزايد احتكاك الطلبة بالعمل الصحفي من تدريب ومشاريع عملية. ومن المعلوم أن دراسة الصحافة شديدة التأثر بواقع المهنة؛ فإذا تمتع الإعلام بأفق واسع من الحرية ليمارس مسؤولياته في المجتمع، سينعكس ذلك إيجابا على دراسة الصحافة شكلا ومضمونا، أما إذا عانى من التضييق وانحسار الحريات وعدم المهنية، فسيؤثر سلبا على كليات الإعلام وطلابها.
من المطبعة إلى المدرسة
كمثال حي يوضح تأثير الواقع الإعلامي على الدراسة، تبرز جريدة "الوقائع المصرية" التي أنشأها "محمد علي باشا" (1769-1849) في العام 1828 كأول جريدة مصرية، وعلى إثرها وقعت نهضة ثقافية وإعلامية في المجتمع المصري، انعكست آثارها على تعليم وتدريس كل ما يخص أعمال النشر والطباعة والصحافة.
ولمجاراة هذه النهضة الإعلامية، اهتم محمد علي باشا خلال فترة حكمه لمصر (1805-1848) بتأهيل كوادر متخصصة، حيث أوفد إرسالية من الشباب المصريين إلى باريس عام 1826، لتعلم فنون الرسم والحفر والطباعة. وقد ورد ذلك في تقرير رفعه مسيو جومار، مدير البعثة المصرية في باريس، للجمعية الآسيوية جاء فيه: "يتعلم بعض الطلاب الرسم كتمهيد لتعلم حفر الخرائط وهندسة البناء والآلات والطبع على الحجر، وهؤلاء هم الذين سيباشرون حفر لوحات كتب العلوم التي ستترجم إلى العربية وهم يتعلمون أيضا فن الطباعة" (1).
وظلت المطبعة التي سُميت فيما بعد بمطبعة "صاحب السعادة"، تشهد تطورا مستمرا، حيث أقبل الناس على النشر والتأليف والطبع، وازداد عدد المطبوعات في الفترة (1833-1843) خمسة أضعاف ما أنتج خلال السنوات العشر الأولى لإنشاء المطبعة، وتنوعت المنشورات لتغطي مواضيع متنوعة (2).
وفي العام 1880 تولى الشيخ محمد عبده رئاسة جريدة "الوقائع المصرية" التي استقلت بشكل تام وبلغت عصرها الذهبي في عهده. كان الشيخ محمد عبده حريصا على أسلوب الكتابة فيها، وانعكست تطورات الصحيفة على طلاب الصحافة، وأصبحت الصحيفة مدرسة لها أساتذتها وتلاميذها في كل حقبة من الزمن. ففيها تتلمذ سعد زغلول على يدي محمد عبده، وأصبح كاتبا وأديبا وسياسيا، له كتابات في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأيضا إبراهيم الهلباوي، وعبد الكريم سليمان، وسيّد وفا، وغيرهم. وهكذا يتضح تأثير الواقع الإعلامي الجيد على دراسة ما يتعلق بالصحافة والإعلام.
من الصحيفة إلى السجن!
يعد الواقع الحالي للإعلام المصري الأسوأ منذ ثورة 25 يناير، ففي التصنيف العالمي لحرية الصحافة الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" للعام 2020، صنفت مصر في المرتبة 166 من أصل 180، تحت عنوان "أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين"، وذكر التقرير أن وضع حرية الإعلام بات مثيرا للقلق على نحو متزايد في مصر (3).
بينما احتلت مصر في تصنيف "الحرية والديمقراطية في العالم" عن منظمة فريدوم هاوس؛ موقعا ضمن "الدول غير الحرة" في تقرير المؤشر للعام 2020، الذي منحها 21 درجة من مائة. بينما أبرز "المعهد الدولي للصحافة" أن مصر تشن حملة عدوانية ضد وسائل الإعلام المستقلة منذ العام 2014، وأن الحكومة المصرية تواصل انتهاك حرية الصحافة من خلال اعتقال الصحفيين ومداهمة وسائل الإعلام وحجب المواقع الإخبارية (4).
المهنية المفقودة
إضافة إلى التضييق الإعلامي في مصر، فإن الإعلام يعاني من غياب المهنية والاحترافية، ما يجعله عديم المصداقية، ففي حديث له مع الجزيرة نت، قال خبير الإعلام عاطف عبد الجواد: إن "من النادر أن يعتمد الإعلام الدولي أو الحكومات الأجنبية أو مؤسسات حقوق الإنسان أو العالم بصورة عامة على ما تقوله آلة الإعلام المصري".
كليات الإعلام في مهب الريح
يمكننا الآن رصد ما ألحقه الواقع الإعلامي المصري بكليات الصحافة، من توريث للسطحية والخوف، وقتل للإبداع والمهنية، ما خلق حالة من النفور العام من دراسة الصحافة في مصر ودخول كلياتها. وفي سابقة جديدة من نوعها، تخطت كليةُ الألسن كليةَ الإعلام من حيث درجة القبول للعامين 2019 و 2020، وهذا يدل على أن أعداد الطلاب المتقدمين لكلية الإعلام في انحسار.
إعلاميون مصريون نصحوا الطلاب بعدم دخول كليات الإعلام، منهم الصحفي المصري محمد علي خير، الذي نشر على صفحته في فيسبوك، قائلا: "إلى طلبة الثانوية الناجحين، أرجوكم لا تفكروا في الالتحاق بكلية الإعلام [..] من الصعب تخطي تلك الأزمة الراهنة التي تلحق بأجواء الصحافة والإعلام في مصر" (6).
كما أن الصحفي محمد سعد عبد الحفيظ، عضو مجلس نقابة الصحفيين كتب: "من حصل ابنه أو ابنته على مجموع في الثانوية العامة، لا يُدخله كلية إعلام، لأن الشغلانة ماتت وأخذنا العزاء فيها".
وفي مقال نشره على جريدة الأهرام المصرية، أعرب الكاتب أسامة الغزالي عن انزعاجه الشديد من إقبال طلاب القسم الأدبي على الدراسة في كليات الإعلام، وذلك لضعف تأهيلهم، وعدم مواكبة مناهج الإعلام للتكنولوجيا الحديثة، ونصحهم بالتوجه لكليات الحقوق والتجارة والألسن وغيرها (7).
إعلام القاهرة.. الدراسة لا تؤتي ثمارها!
في محاولة لتسليط الضوء على التأثير السلبي الذي أحدثه الواقع الإعلامي على دراسة الصحافة، تبرز كلية الإعلام في جامعة القاهرة كأكبر وأقدم صرح أكاديمي في مصر، والتي تخرج منها مئات الكوادر الإعلامية التي قادت مسيرة الإعلام المصري والعربي، كما أسهمت بفاعلية في بعض المؤسسات الإعلامية العالمية.
وتضم الكلية أقسام الصحافة، والإذاعة والتلفزيون، والعلاقات العامة والإعلان، ويتخصص بها الطالب في السنة الثانية من الدراسة، ويقوم الجانب العملي على إنتاج مشاريع ومواد صحفية مكتوبة ومرئية؛ كتطبيق للمواد النظرية.
وتقول طالبة دراسات عليا بقسم الصحافة في إعلام القاهرة، إنها أرادت أثناء الدراسة أن تعمل على تقرير صحفي مرفق بأنفوغراف عن حوادث القطارات، تزامنا مع حادثة قطار البدرشين عام 2013، لكنه رُفض ولم ينشر في جريدة "صوت الجامعة" الصادرة عن كلية الإعلام، التي تُعد نافذة التدريب العملي لطلاب قسم الصحافة.
تتحدث الطالبة لـ "مجلة الصحافة"، قائلة: "إن الكثير من الأفكار والمشاريع لم أستطع تنفيذها أثناء الدراسة أو حتى اقتراحها؛ لأنني أعلم أنه سيتم رفضها، حتى توقفتُ عن التفكير في أي موضوعات يمكن أن تجلب لي المشاكل".
وترى نفس الطالبة أن هناك فجوة كبيرة بين ما يُدرس في الكلية وبين ما تقرؤه في الصحف والتلفزيون، قائلة في هذا الصدد: "عندما نُكلف بمتابعة أخبار وبرامج للتطبيق والتعليق عليها، على سبيل المثال في مادة أخلاقيات الصحافة، كنت أجد أن جميع أخلاقيات المهنة تم انتهاكها، حتى إنني كنت ألجأ للمواقع العربية أو العالمية لإنجاز مشاريع وتكليفات الكلية، لأن الكثير من القضايا لم يكن يتناولها الإعلام المصري".
بينما ترى طالبة أخرى تحدثت إليها "مجلة الصحافة"، وهي إحدى خريجات قسم الإذاعة والتلفزيون بإعلام القاهرة، أنها وأثناء الدراسة لم تمتلك الحرية في اختيار مشاريعها وقضاياها التي تريد التعبير عنها، ولا توجد حرية في ممارسة المهنة داخل الكلية وخارجها.
ومن واقع تجربتي الشخصية، فقد تم تكليفي خلال دراستي الجامعية بقسم الصحافة بإعلام القاهرة، بعمل لقاء صحفي مع رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة، بعد فوزه بانتخابات الاتحاد. كان يتعين علي طرح الكثير من الأسئلة عن أوضاع الطلاب داخل جامعة القاهرة، وعن تكبيل الاتحاد عن المشاركة في واقع وقضايا الحياة، وعن رأي رئيس الاتحاد في طلبة جامعة القاهرة القابعين خلف القضبان ولا يستطيعون إكمال دراستهم. إلا أن هذه الأسئلة لم تُطرح، لأنها لم تكن لتجد جوابا، ولو في التقرير المقدم لأستاذ المادة. وهنا ينهار عمل الصحافة وعلمها، وتصبح مفرغة من دورها، فتمسي لسانا أخرس وأذنا صماء، وجسدا بلا روح.
الأمثلة كثيرة ولا يمكن حصرها، لكنها تثبت كلها أن دراسة الصحافة بمصر لم تعد تخصصا يغري الطلبة إما لجو حرية التعبير، أو بسبب عدم قدرة الكليات على مواكبة تحولات الإعلام الجديد.
المراجع:
https://www.bibalex.org/bulaqpress/ar/MohamedAliFamily.htm -
http://modernegypt.bibalex.org/NewDocumentViewer.aspx?DocumentID=PS_355…;
https://ipi.media/disappearances-and-detentions-continue-in-another-dar…;
https://www.aljazeera.net/news/politics/2021/3/21/%D8%A2%D9%84%D8%A9-%D… %D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A3%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9%D8%9F
https://www.almasryalyoum.com/news/details/14135856
https://gate.ahram.org.eg/News/2449081.aspx