من مقاطعة خوخوي في أقصى شمال البلاد تُشغّل الراديو، وتستمع إلى أنباء من قلب العاصمة "بوينوس آيرس" عن قطع الطريق السريع الذي يربط بلدان القارتين الأمريكيتين. هذا ما تفعله الأغلبية العظمى من سكان الأرجنتين؛ فمعرفة ما يجري على بعد آلاف الأميال أسهل بكثير من معرفة ما يدور بجانب منزلك.
منتدى الصحافة الأرجنتينية، وهو منظمة غير حكومية تُعنى بتعزيز جودة الصحافة، حذر من هذه الظاهرة التي باتت تشكل الطابع العام للنشاط الإعلامي في البلاد، والتي بدأت تُجرى حولها دراسات عديدة عبر العالم. في تقرير صدر مؤخرا، لاحظت المنظمة أن هناك صحارى أو شبه صحارٍ إعلامية تتمدد على ثلاثة أرباع التراب الأرجنتيني، ما يعني غياب وسائل الإعلام المهتمة بنقل الأنباء المحلية لسكان تلك المناطق. بمعنى آخر، فإن حقيقة أوضاع المواطنين وواقعهم المعيش غير مرئية ولا مسموعة في مناطقهم المحلية، ومن ثمّ فهم مُغيّبون تماما عن الكثير من الحقائق؛ من ارتفاع أسعار السلع الغذائية، إلى أسباب انقطاع التيار الكهربائي، وحتى تفشي قضايا الفساد الذي يشمل كل البلاد.
التقرير يتناول المسألة بتوصيفات تكثر فيها الاستعارات البلاغية؛ إذ يربط النشاط الصحفي بالنظم البيئية للطبيعة، ويشبه طرفَيْ المسألة بالغابات (تلك المناطق التي تغلي فيها الأنباء الرسمية) وبالصحارى (تلك المناطق التي تكون فيها ظروف ممارسة العمل الصحفي سيئة للغاية).
يُفصّل التقرير: "نتحدث عن الغطاء النباتي والنُّظُم البيئية للإعلام؛ فالمناطق التي تتوفر فيها ظروف مواتية لممارسة النشاط الصحفي تبدو كالغابات؛ إذ يمكن أن تجد الضوء والظلال والفوارق الدقيقة بين الأشياء، وتنوعها، والأوكسجين كذلك، أما في الطرف الآخر، حيث تكون ظروف ممارسة الصحافة سيئة وضعيفة، فإن تلك المناطق تبدو مثل الصحارى؛ إذ تكون المشاهد كلها أحادية اللون، وجافة، ومثيرة لظاهرة السراب".
تتعدد أسباب هذه الإشكالية وتختلف من منطقة إلى أخرى. أما الصحفيون فيوجهون توصياتهم إلى الطلاب باجتراح المواضيع والقضايا المحلية التي تهم سكان مناطقهم، كما يوجهونها إلى السكان بدعم المشاريع الصحفية الصغيرة وتشجيعها.
التحدي كبير.. والتكنولوجيا طوق نجاة
الصحفية المعروفة في مجال الصحافة الاستقصائية، إيريني بينيتو، كانت قد شكّلت فريقا من 27 صحفيا دأب على العمل في مختلف المقاطعات الأرجنتينية. حاولت إيريني التركيز على جوهر التقرير: لماذا من المهم أن توجد وسائل إعلام محلية؟ لأنها تُبرز معلومات وحقائق ذات أهمية بالغة، تهتم بجودة المعيشة بالنسبة لسكان المناطق موضوع التحري. هذه المعلومات تتيح للمواطنين اتخاذ قرارات صائبة وذكية في قضاياهم كافة، بدءا بمن يستحق أن نصوّت لهم في الانتخابات، وانتهاء بكيفية تقييم الإدارات الحاكمة. وحدها الصحافة المحلية المهنية تستطيع فضح ممارسات السلطة، وإطلاع الجمهور على كل القضايا التي ترغب السلطات في إبقائها طيّ الكتمان. أخيرا، فإن الصحافة المحلية، كما تقول بينيتو، هي جوهر الممارسة الصحفية المهنية.
من أبرز الأسئلة التي يثيرها هذا الموضوع: ما تأثير الجغرافيا على وجود صحافة محلية في بلد كبير المساحة (2.78 مليون كيلومتر مربع)؟ هل يؤثر القرب أو البعد عن وسط البلاد في ذلك؟
"أجل"، تجيب المتخصصة في الصحافة المحلية إيريني بينيتو، "لكن الدراسة تظهر أنه ليس ثمة ارتباط مباشر بين التقدم والتنمية الاقتصادية وبين وجود وسائل إعلام محلية. هناك صحارى إعلامية في مناطق كانت قد استقبلت استثمارات كبرى في الآونة الأخيرة، كما هو الحال في أنيلو (نيوكين)؛ البلدة التي تضم احتياطي البلاد من الهيدروكاربون، والمسماة بـ(باكا مويرتا)؛ ذلك أن انتشار وسائل الإعلام يتطلب عددا كبيرا من الشروط؛ كتوفر مستوى معين من التعليم في المنطقة، ومستوى مناسب من الصحفيين ومن الجماهير كذلك، إضافة إلى مناخ ملائم لحريات التعبير".
توضح بينيتو أنه كي يتحسن موقف الصحافة في البلاد فإن هناك ما ينبغي فعله؛ أن يدرك المواطنون الأخطار التي تحيق بالصحافة المحلية، وأن "يدعموا ويدافعوا" عن وسائل الإعلام وعن الصحفيين العاملين في بلداتهم ومناطقهم، وثمة العديد من الخطوات والوسائل للقيام بذلك؛ كأن نتابع هؤلاء الصحفيين ونشترك في قنواتهم ووسائل الإعلام التي يعملون فيها، وأن ننشر إعلاناتنا في تلك المنصات الرقمية.
وتخلص بينيتو إلى أن التحدي القائم أمام الصحفيين تحدّ جسيم: "إن التكنولوجيا في صالحنا، يجب تعلم كيفية استخدام الأدوات والمنصات المختلفة، وينبغي علينا اكتساب مفاهيم إدارة المؤسسات؛ لأنه من غير الممكن أن تُمارس صحافة مهنية بعيدا عن هذه المعارف التكنولوجية".
كي نتجنب انقراض الصحافة المحلية
أُعِدّ التقرير الذي تحدثنا عنه سابقا عبر دراسة استقصائية شاركت فيها 2464 وسيلة إعلامية في البلاد. تُفصّل بينيتو أكثر حول هذا الموضوع: "الاستبيان تم تدعيمه بتحليل سابق لمجموعة من التحقيقات حول الصحارى الإعلامية، والتي أجريت في بلدان كانت فيها دراسة الظاهرة وتعريفها أكثر تقدما؛ مثل البرازيل وفنزويلا وكولومبيا والمكسيك وكندا والولايات المتحدة الأمريكية".
ترى الصحفية أن شروط ممارسة العمل الصحفي معقدة؛ لذلك "فإن التحقيق يسلط الضوء على الظروف والآثار التي قد تكون سببا في تشكّل الصحارى الإعلامية". إن الهدف من المشروع هو توفير بيانات كافية للإحاطة بهذا التهديد الكبير الذي يواجه الصحافة المحلية في الأرجنتين، وكذلك للتحفيز على صده ومواجهته، لسنا نكتفي بأسباب اختفاء هذه الوسائل الإعلامية، وإنما ينبغي العمل على الحيلولة دون انقراضها، وقد استطلعت آراء 13 ألف صحفي في كل أنحاء البلاد الوصول إلى نتائج أقرب إلى الدقة".
مواطنون خارج دائرة الضوء
المؤرخة ناتالي بوياتي، التي تعمل في "إنتري ريوس"، إحدى مقاطعات الشمال الأرجنتيني، شاركت بصفتها محققة في المشروع، وتنبّهت إلى ضرورة إجراء مقارنة بين سلبية وسائل الإعلام ولا مبالاتها، وبين صعوبات العمل الصحفي في الإقليم، في محاولة للتعمق في المشكلات والأسباب الكامنة وراء اختفاء وسائل الإعلام المحلية هناك.
تقول بأسف: "هؤلاء المواطنون ليس لهم أي حضور في وسائل الإعلام المحلية، إن الأنباء التي يجري تداولها على نطاق واسع في البلاد لا تصدر عن وسائل الإعلام هذه".
وتوضح بوياتي أن وسائل الإعلام "تدّعي صناعة محتواها الخاص، بينما هي ليست سوى نسخة مكررة من بلاغات رسمية؛ فهي لا تتناول الخبر بنظرة الناقد مثلا، ولا تلجأ حتى إلى مقارنة البيانات الرسمية بالمصادر الأخرى. الأنباء هنا ليست مادة للتحرّي، بل توجيهات في صالح السلطة في غالب الأحيان".
ألفريدو فيرنانديز، صحفي وأستاذ جامعي في جامعة "باتاغونيا أوسترال دي لا كروز" الوطنية التي توجد في أقصى جنوب البلاد، يدافع عن وجهة نظر مختلفة. يقول إن الإعلام المحلي مفيد جدا للسلطات الحكومية ولأصحاب الشركات؛ "إذا لم نعرف ما الذي يجري في المناطق المحلية، فإنه من الصعب صياغة سياسات تخدم مصلحة هذه المجتمعات، ووسائل الإعلام المحلية لا تغطي مجريات الأمور بما يكفي في تلك المناطق".
يوضح فيرنانديز أن القنوات التلفزيونية الأكثر متابعة في منطقته هي قنوات وطنية كبرى، أما القنوات المحلية فلا تبث سوى لبضع ساعات. ويرى أن "تفشّي" الاعتماد على الرواية الرسمية بين وسائل الإعلام من أجل الربح، إلى جانب الوضع الاقتصادي الصعب، هما من أهم محددات الإنتاج الإعلامي".
وتستند رؤية فيرنانديز إلى أن ثمة نقصا فادحا في أعداد الصحفيين المتخصصين في مختلف وسائل الإعلام؛ فالمناصب الوظيفية مليئة بأشخاص جيدين، لكنهم لم يتلقوا تأهيلا أو تدريبا متخصصا".
يعتبر فيرنانديز التأهيل الوظيفي عنصرا أساسيا، ويوصي مَن على مقاعد الدراسة في الجامعة قائلا: "نشجع الطلاب على إجراء التحديث المهني الذي من شأنه أن يُكسب الدارسين مزيدا من المعارف والعلوم، ثم لا بد من غرس قيمة الاستقلالية الفكرية، وعدم الانصياع لرؤساء التحرير".
في المنظمات المعنية بالعمل الصحفي والجامعات التي تُدرّس الصحافة، دُقّت نواقيس الخطر إيذانا ببدء تحركات فعلية من شأنها تجنب أن يتطور تصحر الإعلام المحلي أو أن يصل إلى مرحلة الانقراض التام.
المصادر:
https://desiertosinformativos.fopea.org/- (1