واجب الصحفي هو نقل الحقيقة، وليس منح صوت لمواقف لا يشكّ في فسادها بدعوى الحفاظ على مسافة واحدة من الجميع والالتزام بمبدأ "الحياد".
في دفاعه عن مبدأ "الحياد" في الصحافة، يقول مدير سياسة التحرير في شبكة بي بي سي، ديفيد جوردان: "لن يحظى المنكرون لكروية الأرض بالحضور والمساحة الإعلامية بالقدر الذي يتمتع به أولئك الذين يعتقدون بكرويتها، لكن في حال تزايدت أعداد الناس الذين يؤمنون بأن الأرض مسطّحة، فلا بدّ من أن نعطي لذلك مساحة أكبر".
هذا الدفاع المستميت عن الحياد، يظهر لنا في أحد جوانبه غير المباشرة، مقدار الخطورة الكامنة في الدوغمائية.
لقد حان الوقت لإنهاء سياسة التعامل مع القضايا بعقلية مسك العصا من المنتصف، وكأنّ طرفي كلّ قضيّة على مسافة واحدة من الحقيقة. فقد بات من الضروري اليوم مراجعة معيار الحياد، والتوقف عن التعامل معه كمعطىً بدهيّ لا يقبل الجدل.
ولنتخيّل معًا مآلات هذه العقلية. لو قررنا منح مدّعي أن الأرض مسطّحة المزيد من المساحة في التغطية الصحفية، فمن الضروري، إذن، بهذا المنطق ذاته أن نمنح هذه المساحة أيضًا لمنكري جرائم الحرب في سوريا، أو منكري المذابح الأخرى، أو لنظريات المؤامرة المتعلقة بهجمات 11 سبتمبر، أو للأشخاص الذين يشككون بالكارثة المناخية على كوكب الأرض.
في المملكة المتحدة، أدى تفشي دوغما الحياد بين وسائل الإعلام إلى الفخّ ذاته عند تغطية موضوع بريكست. فالأصوات التي دافعت عن بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي حازت فرصة التعبير عن وجهة نظرها، وذلك قبل منح نفس الفرصة للآراء المدافعة عن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، لينقضوا آراء الفئة الأولى ويعرضوا كافة أشكال الادعاءات المغلوطة للمشاهدين.
وهذا مثال واحد فقط من بين العديد من القضايا الأخرى التي قادتنا فيها عقيدة الحياد هذه إلى عواقب خطرة.
انتظرت البي بي سي حتى عام 2018، لتدرك عدم ضرورة استضافة منكري الكارثة المناخية، لمنح توازن في الحوار حول قضايا المناخ. وقد صدر عن إدارة الهيئة البريطانية بهذا الخصوص مذكرة جاء فيها:
"لا يلزم من أجل تحقيق الحياد استضافة منكرين للكارثة المناخية في تغطيات البي بي سي. فالأمر هنا أشبه باستضافة شخص ينكر أن مانشستر يونايتد فاز في مباراة انتهى وقتها وأعلن فيها الحكم النتيجةَ".
إلا أن ذلك كان قبل ثلاث سنوات طوال، قبل كوفيد-19 وكل ما حيك حولها من نظريات مؤامرة، وقبل أن نسمع العديد من قادة الرأي في الولايات المتحدة وبريطانيا وهم يخلطون الحقائق بالخيال.
كيف أضحى للحياد الصحفي كل هذه القيمة المضخمة على حساب الحقيقة؟
ندرك جميعا الإخفاق الذي نمر به كصحفيين، حين نعلم أن زهاء 25 بالمئة من الناس يعرضون صفحًا عن الأخبار في المملكة المتحدة، وأحد أهم الأسباب وراء ذلك هو عدم ثقتهم بصدقيّة الأخبار.
وفي حال لم نتوقف عن توفير منصّة للآراء التي ندرك أنها غير صحيحة، فكيف سنفلح في استعادة تلك الثقة؟
وللمفارقة، فإن البي بي سي هي نفسها التي تقود ركب التصدّي للأخبار الزائفة في المملكة المتحدة، إذ لديهم مراسل متخصص في رصد الأخبار الزائفة عبر الإنترنت، كما عينت الهيئة في عام 2021 أول مراسل مختص بالأخبار الزائفة المتعلقة بالصحة.
لا شكّ أن تحقيقات البي بي سي تسلط الضوء على الانتهاكات والمخالفات، وكل يوم نجد صحفييها وهم يتحدثون بجرأة ويعرضون الحقائق على من هم في موقع السلطة. ومن الإهانة بمكان أن تطلب من مثل هؤلاء الصحفيين النظر في رأي أصحاب نظرية الأرض المسطحة.
إن البي بي سي في موقف لا تحسد عليه. فوزيرة الثقافة البريطانية "نادين دوريس"، التي نافست سابقًا في برامج تلفزيون الواقع، ألمحت وبقوّة إلى أنها ستلغي رسم التلفزيون، وهي إحدى سبل التمويل التي تتمتع بها البي بي سي، حيث يدفع مالكو أجهزة التلفاز رسمًا سنويًا يبلغ حوالي 215 دولارًا أمريكيًا. وأعلنت دوريس بأنها جمدت تحصيل هذه الرسوم حتى عام 2024، في محاولة هي الأحدث لفطام هذه المؤسسة عن التمويل الضروري لعملياتها، في جولة جديدة مما يظهر أنه حرب حكومية طويلة على البي بي سي.
كما أن هذه الشبكة تعمل في بيئة تنظيمية صارمة، لا تتردد فيها "أوفكوم"، وهي الهيئة الناظمة للاتصالات في المملكة المتحدة، في فرض غرامات على القنوات التي لا تراعي "الحياد اللازم" (رغم أن الهيئة توضّح بجلاء بأنها لا تفترض عرض كل رأي بالضرورة، أو مراعاة المساواة في الوقت المخصص لكل رأي والرأي الذي يعارضه).
لعل البعض يقول: امنحوا تلك الأصوات مساحة للتعبير، ثم فنّدوا آراءهم كما يلزم، ودعوا تلك الآراء تتداعى ويتّضح تهافتها أمام آلة النقد الصارمة. غير أن هنا مكمن الخطر في عقلية "الحياد" الصرفة، لأنّها تتجاهل حقيقة أن تكرار الأفكار الخاطئة، حتى لو تمّ تبيان خطئها والبرهنة عليه، قد يدفع ببعض الناس إلى تصديقها والاقتناع بها.
لست أجادل هنا بأن نتخلص من معيار الحياد برمّته ونلقي به من النافذة، فنحن لسنا ناشطين، وليس حريًا بنا أن نعمل وفق أجندة، غير أننا في الوقت ذاته لا يمكن أن نؤدي دور القاصّ الساذج الذي يفتقر إلى القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال. لقد فعلت نيويورك تايمز وبعض الصحف الأخرى عين الصواب حين تناولت أكاذيب الرئيس السابق دونالد ترامب، ووصفتها كما هي فعلًا؛ أكاذيب.
وأخيرًا، لا بدّ أن نشير إلى أن الإنصاف والتوازن لا يعني منح مساحة لعرض الأغاليط لمجرّد أنها رائجة، فهذا اختصاص تويتر.
أما في العمل الصحفي، فليس لكلّ قصّة بالضرورة أكثر من رواية.