تجمع جلّ النظريات السوسيولوجية والفلسفيّة الكلاسيكية في الحقل الإعلامي على اعتبار أنّ وسائل الإعلام لها ثلاث وظائف رئيسيّة كبرى، وهي الإخبار بدرجة أولى والتثقيف في مرتبة ثانية ثم الترفيه الذي يأتي في مقام ثالث (1). بيد أنّه في الإعلام التونسي، لا سيما خلال العشرية الأخيرة التي تلت الثورة منذ سنة 2011، انقلبت المعادلة حيث لم يعد للوظيفتين الأولى والثانية أهمية بالغة في ظل هيمنة البرامج الترفيهية التي باتت طاغية على أغلب المحتوى المقدم من قبل القنوات التلفزيونية والإذاعية بشكل أصبح يهدّد مفهوم الصحافة ومهنة الصحفيين أنفسهم.
أطلق العديد من الصحفيين التونسيين خلال السنوات الماضية حملات تنديد وتشهير ضدّ من يسمونهم بـ "الدخلاء" من نجوم البرامج الإعلاميّة الترفيهية التي تستحوذ على مساحات كبيرة من الشبكات البرامجية للإذاعات والقنوات التلفزيونية الخاصة. هذه الحملات رغم أن طابعها المناسباتي، لم يتخذ إطارا مؤسّساتيا مهيكلا، فإنّها أبرزت بوجه كاشف أحد أخطر الأمراض التي يعاني منها المشهد الإعلامي في تونس.
يتدثّر هؤلاء الفاعلون الجدد بعباءة صفة "إعلامي" تارة أو "كرونيكور" تارة أخرى، بحثا عن مشروعية وموطئ قدم في قطاع أصبح فيه الصحفيون هم الحلقة الأضعف والأكثر تهميشا في صناعة المضمون الإعلاميّ. إنه وضع تراجيدي ينبئ بتحوّلات عميقة على القطاع ككلّ في علاقته بالجمهور وبمختلف مناحي الحياة العامة في تونس، التي تعيش على وقع انتقال ديمقراطي متعثّر ساهمت فيه وسائل الإعلام بدور لا يقلّ تأثيرا سلبيا عن مسؤولية السياسيين والأحزاب.
"الأوديمات" بشتّى الوسائل
تعدّ عبارة "الأوديمات" المنقولة عن اللغة الفرنسية، التي تعني نسب المشاهدة والاستماع، من أكثر العبارات تداولا في قاموس القطاع الإعلامي التونسي وحتّى لدى الجمهور خلال العقد الأخير. برز هذا المصطلح بالتزامن مع الانفتاح الإعلامي غير المسبوق الذي شهدته البلاد حيث ظهرت العديد من القنوات التلفزية والإذاعية الخاصة الجديدة.
هذه الطفرة الإعلامية التحرّرية خلقت مشهدا إعلامياً سمعياً وبصرياً لم يسبق له مثيل في تاريخ الإعلام التونسي بفضل التعدديّة التي تمّ تكريسها من خلال إرساء المرسومين 115 (2) و116 (3) اللذيْن عوّضا مجلة الصحافة (4) ذات الطابع الزجري في عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فضلا عن إحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري التي أنيطت بها مهمة منح إجازات البثّ للقنوات التلفزية والإذاعية من منظور تنظيمي تعديلي شبيه بالتجارب الديمقراطية الغربية على غرار فرنسا.
في هذا السياق المتسم ببيئة ومنظومة إعلاميّة غير مشجّعة على الاستثمار في صحافة الجودة، كانت البرامج الترفيهية بمثابة الوصفة السحرية لأصحاب المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية. يكفي فقط أن تختار واحدا من مشاهير عالم الفن أو الرياضة أو التمثيل أو الفيسبوك أو الإنستغرام كمنشط رفقة مجموعة من المعلّقين (الكرونيكورات) من مجالات مختلفة في معظمها لا علاقة لها بمجال الصحافة والصحفيين، لتكوّن بذلك كيمياء البرنامج الترفيهي الجديد الذي سيحقّق نسب متابعة عالية جاهزة للتعليب والتصدير للجمهور.
إنّ هيمنة البرامج الترفيهية على المشهد الإعلامي التونسي في الحقيقة ليست فقط نتاجا لبنات أفكار مديري البرمجة وأصحاب المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية، بل هي أيضا أشبه بعملية تقاطع مصالح سياسيّة وماليّة مع المعلنين وأرباب المؤسسات الاقتصادية الذين لا يرون جدوى في أدوار الصحافة الجادة التي تراهن على المضامين الجيّدة والعميقة من قبيل البرامج الإخبارية السياسيّة أو الاستقصائيّة أو الفكرية.
صحيح أنّ البرامج الترفيهية مهمّة ولها جمهورها، كما يجب أن يكون لها حضور نسبي في البرمجة التي تقوم عليها أي إذاعة أو قناة تلفزيونية في مراعاة لتنوّع حاجيات المتلقّي وانتظاراته، لكن من الخطأ القول إنّ وظيفة مثل هذه البرامج تقوم فقط على الترفيه ولا شيء غيره بأي طريقة ممكنة. فهي بالضرورة يجب أنّ تقوم ببقيّة الوظائف الإخبارية والتثقيفية حتّى وإن كانت طبيعتها ترفيهية بالأساس.
يقتات منشّطو ومعلّقو البرامج الترفيهية السائدة في تونس عموما على جهد غيرهم في البرامج الجادة وفي الصحافة المكتوبة. في مثل هذه البرامج، يقوم الخيط الناظم لمضمون الحصّة في الغالب على جمع مجموعة من التصريحات والأخبار المثيرة وحتّى بعض الفيديوهات والصور والتدوينات الخفيفة السطحية التي لاقت رواجا على وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك ليتمّ تحويلها فيما بعد إلى بضاعة قابلة للتسويق عبر أسلوب الإثارة (5) من خلال تقديم التعليقات التي لا تؤدي سوى إلى الجدل العقيم.
تستفيد مثل هذه النوعية من البرامج الترفيهية من غياب إطار تشريعي ينظّم عمليات سبر الآراء وقياس الجمهور، التي تنجزها شركات خاصة تعد هي الأخرىّ جزءا من منظومة المصالح الخفية الإعلامية والاقتصادية والسياسيّة المتشابكة. وعلى الرغم من إعلان هيئة الاتصال السمعي البصري منذ مدّة عن الشروع في بعث هيئة مستقلّة لقياس نسب المشاهدة والاستماع بمقاييس علمية شفافة بعيدة عن الأجندات غير المرئية في الظاهر، فإنّ هذه المؤسسة لم تر النور بعد (6).
إنّ سطوة البرامج الترفيهية على المشهد الإعلامي السمعي والبصري التونسي لم تعد تهدّد كيان الصحفيين فقط، بل أدّت أيضا إلى ضرب مفهوم الصحافة وتقنياتها وأنماطها في إنتاج المضمون. فقد انقلب في مثل هذه النوعية من البرامج الكثير من القواعد المتعارف عليها رأسا على عقب حيث أضحى "التعليق مقدّس" و"الخبر حرّ". كما أنّ الأجناس والأشكال الصحفيّة كالتحقيق والريبورتاج والسرد القصصي والتفسير والتحري والاستقصاء التي تمثّل العمود الفقري لصحافة الجودة وُضعت جانبا لفائدة شكل هجين ومشوّه من صحافة التعليق والرأي القريبة في مضامينها من منتديات الدردشة والتواصل في الفضاءات الافتراضية التي لا تخضع لضوابط مهنية، ناهيك أنه يفترض أن يكون في وسائل الإعلام التي تشرف عليها مضمونيا هيئات تحرير تتشكلّ من صحفيين محترفين هم بمثابة قطب الرحى.
"الكرونيكور".. حصان طروادة الجديد
خلال مداخلة له ضمن ورشة تفكير حول إصلاح الإعلام في تونس نظمها موقع الكتيبة بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2021، تحدث نقيب الصحفيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي عن ظاهرة "المعلّقين" في البرامج الحوارية عموما والبرامج الترفيهية بشكل خاص قائلا: "إنّ كلمة "كرونيكور" الأصلية تعود إلى شخص يقدّم الإضافة في موضوع ما يكون خبيرا فيه، لكنّ عديد القنوات التونسية تستقطب "الكرونيكورات" من مواقع إنستغرام وتيكتوك".
ويضيف الجلاصي في معرض نقده لهذه الظاهرة التي أضرّت بقطاع الصحافة السمعية البصرية على وجه الخصوص قائلا: "هذه الظاهرة لا تلبّي حاجيات المتلقّي التونسي من صحافة الجودة، بل ساهمت في انتشار الرداءة وثقافة "البوز" (7).
يعود أصل كلمة "كرونيكور" الوافدة على الخطاب الإعلامي التونسي إلى المعجم الفرنسي وهي مشتقة في جذورها من الكلمة اللاتينية chronicus. فمنذ الحقب التاريخية القديمة كانت تعني المؤرخين الإخباريين والحوليين الذين كتبوا وأرّخوا لأحداث ووقائع وأخبار حتّى في فترة ما قبل الميلاد بالنسبة للتقويم الغربي وما سبق الإسلام وفق التحقيب الشرقي.
وفي ظلّ تطوّر مفهوم الصحافة المكتوبة في الفترة الحديثة والمعاصرة، أصبحت هذه الصفة تطلق على كاتب العمود (في المشرق العربي سيما في مصر ولبنان يسمّى بالكاتب الصحفي)، وهو شخص يتعاون مع صحيفة أو مجلّة لتناول ومعالجة مواضيع متعدّدة ومختلفة بشكل منتظم دوري قد يكون أسبوعيا أو شهريا، وتتناول كتاباته بشكل خاص المستجدات والأحداث في اختصاص معيّن ويسمح له بالتعبير عن رأي أو وجهة نظر للفت النظر إلى مسألة ما بطريقة قد يتم فيها تجاوز الخطّ التحريري للمؤسسة الذي تعبّر عنه افتتاحياتها وسياستها التحريرية المعلنة.
هكذا وعلى نقيض من الصحفي القار أو المتعاون مع الجريدة الذي هو مطالب باحترام شروط ومعايير كتابة الخبر والمقالة الصحفية في أشكالها المتنوعة، فإنّ كاتب العمود الذي يكون في أغلب الحالات صاحب مهنة أخرى أصليّة (أستاذ جامعي، مفكّر، باحث أكاديمي متخصص في علم الاجتماع أو الفلسفة أو التاريخ أو الاقتصاد أو العلوم السياسية…) يتوفر على هوامش كبيرة من الحرية في كتاباته للتعبير عن مواقف ووجهات نظر ذاتية تتبنى أطروحات شخصية تتيح له إمكانية مهاجمة التنظيمات الحزبية والاجتماعية وكبار المسؤولين في الدولة وأجهزتها بأسلوب خاصّ لا يفترض أن يتجاوز حدود أخلاقيات النقد الذي ليس من المسموح مبدئيا ونظريا أن يتحوّل إلى سبّ وشتم وتجريح ومسّ من كرامة البشر، مهما كان لاذعا.
إنّ نشاط "الكرونيكور" (ونحن سنستعمل هذه اللفظة بالتوازي مع مصطلح المعلّقين رغم كونها هجينة وغير دقيقة من حيث الترجمة اللغوية إلى العربية وذلك باعتبارها التسمية الأكثر تداولا وشائعة الاستعمال في الخطاب الراهن سواء لدى وسائل الإعلام أو لدى الجمهور التونسي)، هو في الأصل ينسب إلى الصحافة المكتوبة ويمارس اليوم بكثافة في الإذاعات والقنوات التي عرفت تطوّرا كبيرا خاصة في العقود الأخيرة. إذ أضحت البرامج الحوارية في المؤسسات الإعلامية السمعية البصرية لا تكاد تخلو من المعلّقين والمحلّلين الذين يؤثثون فقرات وأركان بعينها بشكل قار ودوري يوميا أو أسبوعيّا وفق مقاربات تتراوح بين الجدّ والهزل والفكاهة حسب طبيعة البرنامج والخيارات التحريرية للقناة أو الإذاعة.
لقد تطوّر مفهوم "الكرونيكور" بالتوازي مع النقلة النوعية المتسارعة التي شهدها العمل الإذاعي وخاصة التلفزي خلال القرن 20 الذي تميّز بالظهور الرسمي للقنوات التلفزيونية الحديثة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
ومنذ السبعينيات والثمانينيات بعد انهيار النظام العالمي القائم على القطبية الثنائية بسقوط الاتحاد السوفياتي وسطوة النموذج الاقتصادي الليبرالي، بدأ البروز اللافت لظاهرة المعلّقين والمحلّلين في القنوات التلفزية الغربية لا سيما في البرامج الحوارية الإخبارية والمنوعات الترفيهية، وهي اليوم أصبحت "مهنة" بالنظر إلى أنّها تخضع لعقود شغل قانونية وفق نظام الحلقة الواحدة أو الشهر أو بشكل موسمي.
وساهم التنافس الإعلامي حول نسب المشاهدة والاستماع بين القنوات التلفزيونية والإذاعية العمومية والخاصة في انتشار هذه الظاهرة فضلا عن تعددّ المواضيع والملفات الشائكة والمعقدّة المطروحة خاصة في البرامج الحوارية الإخبارية ذات الطابع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي في تصاعد وتيرة التهافت على استقطاب المعلّقين المختصين في مجالات محدّدة. لهذا، نجد أنّ "الكرونيكور" يمكن أن يكون قارّا كما يمكن أن يتم تغييره حسب مضمون الحصّة الإذاعية أو التلفزيونية، وليس بالضرورة أن يتلقى مقابلا ماديّا مقابل حضوره ومساهمته في تأثيث البرنامج.
من هذا المنظور، فإنّ "الكرونيكور"، في تمثّل الإعلام الغربي عموما، بقطع النظر عن الاستثناءات والمقاربات التوظيفية، عمليا هو شخص (يمكن أن يكون صحفيا مخضرما وليس بالضرورة من مجال تخصصي آخر) عادة ما يكون على اطلاع معرفي واسع بعدد من القضايا. وهي التي تجعله قادرا على الخوض فيها ومناقشتها بعمق وموضوعية تحصّنه من السقوط في السطحية والأحكام الانطباعية أو الدوغمائية بطريقة تخلق ديناميكية في الحصّة الإذاعية أو التلفزيونية وتكون رافدا هاما لإثراء المضامين الحوارية الإخبارية والتثقيفية التي تبثّ للجمهور المتلقي.
في الحقيقة، لا يقتصر الأمر في اختيار هذا الصنف من المعلّقين على الطابع الجدي الإخباري التحليلي، بل هو يشمل البرامج الترفيهية والمنوّعات التلفزية والإذاعية التي يكون فيها "الكرونيكور" صاحب موهبة إبداعية فنيّة وثقافيّة وله إشعاع جماهيري، ما يضفي على المضمون طابعا هزليا ساخرا في بعض الحالات وكوميديا نقدية في وضعيات أخرى يشدّ اهتمام المستمعين والمشاهدين.
إذا فـ"الكرونيكور" ليس بالضرورة من الصحفيين المحترفين، وهو يختلف من حيث الوظيفة والأدوار عن المنشّط أو مقدّم الحصّة (المذيع وفق بعض التسميات الأخرى المتداولة). فالأخير محمول على التوازن وتجنب إبداء الرأي والتعبير عن مواقف ذاتية مكتفيا فقط بإدارة الحوارات والنقاشات عبر طرح الأسئلة وتسيير البرنامج بمختلف محاوره وفقراته وأركانه القارة أو الاستثنائية، في حين أنّ المعلّق في البرامج الحوارية الإذاعية أو التلفزيونية، الترفيهية أو الإخبارية، من جوهر مهامه تأثيث مداخلاتٍ الهدف منها إثراء المضامين عبر التفسير والتحليل، علاوة على السعي لخلق ديناميكية لشدّ اهتمام الجمهور.
ومن المتعارف عليه خاصة في المؤسسات الإعلامية الغربية، أنّ "الكرونيكور" مطالب بإعداد مضمون الفقرة التي يقدّمها قبل البث المباشر للحصّة أو قبل تسجيلها، وليس من الواجب أن يكون ذلك في مقرّ عمل وسائل الإعلام. كما أنّه يكون على علم مسبق بمحاور الحلقة لكي يعدّ نفسه جيدا لتقديم أداء من شأنه تحقيق الإضافة للمضامين الموجهة للمتابعين من خلال القيام بعملية بحث وتدقيق وتجميع للمعلومات وتكوين خلفية تساعد على حسن التعليق حول الأحداث والمستجدات والقضايا التي تكون في موضع تناول إعلامي مهني جدّي أو فكاهي ساخر أو نقدي تجنبا للسقوط في فخّ السطحية والعموميات الكلامية أو الابتذال وعادة ما يتم ذلك بإشرافٍ وتنسيقٍ مع رئيس تحرير البرنامج والمنشط في سياق عملية الإعداد.
هكذا، يمكن اعتبار أنّ "الكرونيكور" له دور تكميلي في عملية الصناعة الإعلامية. لكنّه اليوم، في الإعلام التونسي بات هو حجر الأساس. ولا شكّ أنّ الإشكال يكمن أساسا في الاستعمالات المهنية السيئة لهذا الصنف من "المعلّقين" الذين يتمّ اختيارهم لا على قاعدة الكفاءة والإبداع والعمق، بل لمهمة وحيدة وهي إثارة الجدل، وجذب أكثر ما يمكن من المشاهدين والمستمعين بقطع النظر عن الوسيلة.
ومن الملاحظ في المشهد الإعلامي التونسي بعد الثورة أنّ طريقة توظيف "المعلّقين" على الأخبار والأحداث في البرامج الترفيهية قد نقلت العدوى حتى للبرامج السياسية الإخبارية التي أصبحت بدورها تقوم على مسرحة النقاشات مع الشخصيات العامة حول القضايا الهامة من خلال فسح المجال لمن يقوم بدور "الكرونيكور" عبر مهاجمة الضيوف ووصفهم بأقذع النعوت وتجاوز كل حدود الحوار العقلاني القائم على الحجة والحجة المضادة بأسلوب جدي متحضر. خلق هذا الوضع نموذجا هجينا من البرامج "السياسية الترفيهية" التي لا علاقة لها بروح البرامج الإخبارية الجديّة التي يفترض أن تقوم على أسس مهنية تنطوي على حدود دنيا من المعايير والضوابط.
أصبح "الكرونيكور" في الإعلام التونسي شبيها بحصان طروادة الجديد الذي نجح في اختراق القطاع لا عن طريق الاندماج والتكامل من أجل تقديم الإضافة للجمهور اتساقا بفكرة المسؤولية الاجتماعية للفاعلين الإعلاميين وإنما من بوابة ضرب الصناعة الإعلامية وتحويلها إلى بضاعة مضرّة بالنقاش العام.
على هذا الأساس، انكبّت لجنة أخلاقيات المهنة في مجلس الصحافة منذ مدّة على إعداد وثيقة توجيهية حول موضوع "المعلّقين" في البرامج الحوارية سواء كانت إخبارية أو ترفيهية بهدف رفع كل الالتباسات الحاصلة لا سيما في أذهان الجمهور الذي بات يعتبر أنّ "الكرونيكور" هو صحفي. والحال أنّ الصحفيين لا يقبلون ما يقوم به المعلّق من انحرافات بالدور الإعلامي، وأيضا في علاقة بأخلاقيات المهنة التي تحجّر على الصحفيين عمليّات الدعاية والإعلان ونشر الأخبار الزائفة التي لا تستند إلى مصادر ذات مصداقية.
في المحصّلة، يمكن القول إنّ سطوة النموذج الترفيهي الذي يقوم أساسا على من يحملون صفة "كرونيكور"، قد أضرّ كثيرا بدور وسائل الإعلام في المجتمع التونسي بعد الثورة كما أنّه حوّل الصحفيين المحترفين إلى مجرد جماعة مهمّشة تعيش على هامش منظومة الصناعة الإعلامية بشكل أحال الكثير منهم على البطالة فضلا عن تهديد هذه الظاهرة لمفهوم الصحافة في حدّ ذاتها.
تعكس هذه الوضعية بلا شكّ حدود التجربة التعديلية للمشهد الإعلامي في تونس (8) رغم ما تحقّق من مكاسب في ظلّ وجود هيئة مستقلّة لتنظيم الإعلام السمعي البصري فضلا عن بعث مجلس الصحافة.
في حدود التجربة التعديلية وسبل الإصلاح
لا تزال الدراسات والبحوث حول النظام الإعلامي في تونس بعد الثورة قليلة رغم أهمية هذا المبحث. (9) ولتفكيك هذه المنظومة الإعلامية من الضروري العودة إلى النصوص التشريعية المؤسسة لها منذ 2011، وهي المرسومان 115 و116 فضلا عن الهياكل التي تشرف على عملية التنظيم وفي مقدمتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.
تخضع عملية بعث القنوات التلفزيونية (10) والإذاعية (11) (الخاصة والجمعياتية) في تونس إلى جملة من الشروط المضبوطة في مواثيق وضعتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري. وتتضمن مواثيق الشروط حزمة من الالتزامات التي من الضروري أن يتعهد أصحاب المؤسسات الإعلامية باحترامها لا سيما المضامين والبرمجة والعلاقة مع المستمعين والمشاهدين والضيوف وذلك في إطار اتفاقية إجازة البث.
ومن المهم التنويه في هذا السياق إلى أنّ الإعلام الجمعياتي غير الربحي في تونس لا سيما الإذاعي، ما زال تأثيره محدودا من حيث الإشعاع والانتشار حيث تهيمن بعض الإذاعات والقنوات الخاصة ذات الطابع التجاري على غالبية المشهد لأسباب عديدة مركبة يطول شرحها وقد أشرنا إلى البعض منها في الفصل الأول من هذا المقال.
ما يمكن ملاحظته في المسألة التعديلية في الإعلام التونسي أنّ العديد من النقاط المشار إليها في رُخَصِ البث الإذاعي والتلفزيوني التي تتحصل عليها مؤسسات خاصة من قبل الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري لا يتمّ الالتزام بها.
ومن بين أهم النقاط، قضية الالتزامات بطبيعة القنوات والإذاعات، فجلّ الرخص المسندة هي تأشيرات لمحطات جامعة. في هذا الإطار كان يفترض على وسائل الإعلام أن تلتزم بما تعهدت به من خلال تنويع المنتوج الإعلامي في المضامين، وطبيعة البرامج التي يجب أن تشمل مختلف مناحي الحياة العامة، فضلا عن الأشكال والأجناس الصحفية. لكن من الواضح اليوم أنّ البرامج الترفيهية قد أصبحت الطبق الإعلامي الأكثر شيوعا دون مراعاة وتقيّد بضرورة إرساء التنوع والتعدديّة غير الشكلية.
من بين الالتزامات الأخرى التي لا تتم عملية متابعة لها من المنظور التعديلي في الإعلام التونسي، مسألة هيئات التحرير التي يفترض أنّ تكون قائمة الذات في جلّ وسائل الإعلام السمعية والبصرية. فكلّ قناة تلفزيونية أو إذاعية، وقبل حصولها على رخصة بثّ تلتزم بالضرورة بتخصيص مساحات إعلامية إخبارية وتثقيفية، علاوة على تشغيل صحفيين محترفين من بينهم 50 بالمئة لخريجي معهد الصحافة، من أجل الحرص على ضمان جودة المضمون الإعلامي بشكل احترافي يراعي خصوصيات المهنة من حيث المعايير والأخلاقيات والمسؤولية الاجتماعية تجاه الجمهور.
لقد غفل المشرّعون الذين وضعوا المراسيم (115 و116) المنظمة للقطاع الإعلامي بعد الثورة عن تعريف هوية "الكرونيكور" وتحديد شروط لمن يمتهن هذه المهنة المستحدثة في الإعلام التونسي. ومن المؤكد ضرورة تدارك هذه الثغرة في الإطار التشريعي القادم.
يبدو الصراع اليوم في الإعلام التونسي بين صحافة الجودة والبرامج الترفيهية "المسلعنة" التي استأثرت بالمشهد، غير متكافئ في ظلّ غياب أي مقاربة تعديلية واضحة المعالم من شأنها خلق حالة من التوازن يمكن أن تحصّن مفهوم الصحافة وقواعدها، ومهنة الصحفيين والوظائف الإخبارية والتثقيفية لوسائل الإعلام التونسية.
إنّ تحجيم دور البرامج الترفيهية ومخاطرها على مفهوم الصحافة ومهنة الصحفيين في تونس لا ينبغي أن يقتصر فقط على الجانب التشريعي، بل عليه أن يشمل مهامّ أكبر يجب أن تلعبها المؤسّسات التي تعنى بالتعديل والتعديل الذاتي مثل الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة فضلا عن هياكل المهنة مثل النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في إطار رؤية إصلاحية شاملة.
وقد سبق أن اقترحت هيئة الاتصال السمعي البصري إحداث صندوق دعم من قبل الدولة لتشجيع المؤسسات الإعلامية لا سيما الخاصة على صحافة الجودة ضمن رؤية إصلاحية ترسم في إطار ما بات يعرف بقضيّة السياسات العمومية في مجال الإعلام، المفقودة بعد الثورة (12) والتي آن الأوان لوضعها من أجل بناء جسم إعلامي يكون رافعة للمشروع الديمقراطي لا معولا من معاول الهدم له (13).
يعاني الإعلام التونسي منذ سنوات من أزمة ثقة في علاقته بالجمهور. هذه الأزمة ما انفكّت تتعمّق وقد ساهمت فيها بشكل جلي مثل هذه النوعية من البرامج الترفيهية التي خلقت التباسات واضحة في أذهان الجمهور. فقد كشفت عملية سبر آراء أنجزت مؤخرا من قبل مجموعة " INSIGHTS TN" المختصة في الإحصاء وتحليل المعلومات والبيانات خلال نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 2021 أنّ 76.2 بالمائة من المستجوبين لا يثقون في الإعلام الإذاعي الخاص، كما أنّ 84.1 بالمائة من نفس العينة التي شملت 1049 مستجوبا لا يثقون في الإعلام التلفزي الخاص.
وحسب نفس الاستبيان فإنّ 92.7 بالمائة من المستجوبين يرون أنّ المحتوى الذي تقدّمه القنوات التلفزية التونسية الخاصة ليس هادفا ولا يعالج مشاكل المجتمع. فضلا عن ذلك فإنّ 88.4 بالمائة من المستجوبين يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة الأخبار (14).
إنّ أزمة الثقة بين الجمهور ووسائل الإعلام في تونس تعزى في جزء منها بلا شكّ إلى هيمنة البرامج الترفيهية التي همّشت دور الصحفيين في صناعة المضامين التلفزية والإذاعيّة على وجه الخصوص ليحلّ محلّهم فاعلون جدد تصدّروا المشهد بشكل أساء كثيرا للرسالة الإعلاميّة. (15) ورشة تفكير يبدو من المهم التعجيل بفتحها للقيام بدور تعديلي ضروري لكيلا تنقرض الصحافة ومعها الصحفيون من الحياة الإعلامية في قادم السنوات.
المراجع:
1-إريك ميغري، سوسيولوجيا الاتصال والميديا، ترجمة نصر الدين لعياضي، منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2018.
2-http://www.inai.tn/wp-content/uploads/2018/11/tn053ar.pdf
3-http://www.inai.tn/wp-content/uploads/2018/11/tn054ar.pdf
4-https://legislation-securite.tn/ar/law/41742
5-https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/buzz/10910386
7-https://sw-ke.facebook.com/alqatiba/videos/4454031021310223/
9- يعتبر كتاب الباحث منجي الخضراوي"مدخل لدراسة النظام الإعلامي في تونس: التعديل الذاتي وقضاياه " الصادر عن دار محمد علي للنشر سنة 2021 من الدراسات الأكاديمية النادرة التي تناولت هذا الموضوع الحارق.
10-https://haica.tn/wp-content/uploads/2020/02/cahier-des-charges-tv-privee.pdf
11- https://haica.tn/wp-content/uploads/2021/06/Radio.pdf
13- السياسات العمومية الاعلامية من منظور الصحفيين والفاعلين في قطاع الإعلام. دراسة من إنجاز الباحث الصادق الحمامي بمساعدة صلاح الدين الكريمي وهي صادرة عن النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. تونس 2021
14- https://www.facebook.com/Insights-TN-102899135046354/photos/pcb.317571566912442/317764083559857
15- أنظر دراسة محمد اليوسفي المنشورة تحت عنوان "الإعلام والمجتمع في تونس : تحديات ما بعد انتخابات 2019 " الصادرة في الكتاب الجماعي المعنون بـ" حركية المجتمع التونسي في عشرية الثورة"، دار محمد علي للنشر . تونس 2020
https://www.goodreads.com/book/show/55388255