قالت شيرين نصري أبو عاقلة في حديث أفضت به لواحدة من وسائل الإعلام: "ما نواجهه في حياتنا، هو ما في حياة كل فلسطيني. يعني أنا لما أخرج من بيتي متوجهة لعملي، أمر بحاجز عسكري.. المزارع في أرضه قد يمنع من زراعة الزيتون، والطفل في طريق مدرسته قد يلاقي جنديا يطلق عليه قنابل الغاز.. وربما كسرت البيوت على أهلها وهم نيام. وقد أحرقت عائلة فلسطينية على يد مستوطنين. لست بحاجة إلى أن تخرجي من بيتك، فالاحتلال يحاصرك سواء كنت في غزة أم كنت في القدس والضفة الغربية. حتى الصلاة، في المسجد الأقصى أو في كنيسة القيامة، تحتاج إلى إذن من الاحتلال؛ فالاحتلال داخل في تفاصيل حياتنا اليومية، ولا وجود لحياة طبيعية".
كانت شيرين مرجعا مهنيا وأخلاقيا، عنوانا لهموم الناس والمجتمع، خبيرة في السياسة والإعلام. أجادت القراءة في بحور الأدب العالمي والسياسة والاقتصاد، كما أجادت الكتابة والقراءة والحديث بأربع لغات.
وكمن كان يعرف مصيره، قالت شيرين في آخر تقرير لها على شاشة الجزيرة (وكان تقريرا استباقيا تم بثه بعد أربعة أيام من استشهادها بمناسبة الذكرى السنوية الـ74 لنكبة فلسطين انتهت من إعداده قبل يومين من استشهادها): "ثمة في فلسطين من يعيش النكبة تلو الأخرى ...".
نعم شيرين، هذا الاحتلال الذي اختصرت بطشه بكلماتك يبدأ تدخله السافر في تفاصيل حياة الفلسطيني بعد ساعتين من ولادته، ويستمر تغوله فيها حتى بعد موت الفلسطيني وصدور شهادة وفاته ودفنه، وهذا ما حدث معك أنت أيضا أيتها الشاهدة الشهيدة شيرين.
كان لنبرة صوت شيرين مذاق خاص أضفى على معالجاتها الصحفية أصالة مهنية سهلت عليها حكاية القصة وإيصالها إلى المشاهدين بأبسط الكلمات وأقلها عددا، وهذه ميزة قلما حظي بمثلها آخرون.
هكذا كانت شيرين الصحفية المتألقة والإنسانة الرائعة.
كانت قارئة للواقع بأدق تفاصيله، وهو ما نقلته للمشاهدين أينما كانوا، بحضورها اللافت وصوتها الهادئ الرخيم، الذي جسّد صدقية منقطعة النظير وجعلها محط إعجاب وتقدير وتقليد. فلا عجب أن تدق أجراس كنائس كافة الطوائف المسيحية الفلسطينية وترتفع التكبيرات في مساجد القدس المحتلة في موقف لم نشهد له مثيلا قبل إلا ثلاث مرات خلال مائة عام حسب العارفين ببواطن الأمور. هكذا نقشت شيرين اسمها بأحرف من نور وذهب في سجل الخالدين من أبناء الشعب الفلسطيني والعرب.
كانت شيرين إنسانة خلوقة هادئة الطباع، طاهرة القلب نقية السريرة وربما كان في ذلك تدبير رباني لنشهد ما شهدناه، بينما الكبد يتفتت كمدا أثناء تشييع جنازتها التي امتدت من مخيم جنين في أقصى شمال الضفة الغربية، حيث استشهدت بنيران الاحتلال مع سبق الإصرار والترصد، إلى مسقط رأسها ومثواها الأخير القدس التي عشقت ترابها، مرورا بنابلس ورام الله حيث شهدت وداعا وتكريما رسميا وشعبيا في مقر الرئاسة، الذي فتح بقرار رئاسي لمشاركة المواطنين، وذلك للمرة الأولى منذ استشهاد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في نوفمبر/تشرين الثاني 2004.
كان لنبرة صوت شيرين مذاق خاص أضفى على معالجاتها الصحفية أصالة مهنية سهلت عليها حكاية القصة وإيصالها إلى المشاهدين بأبسط الكلمات وأقلها عددا، وهذه ميزة قلما حظي بمثلها آخرون. درّست في جامعة بيرزيت وتعلمت فيها، وكانت طالبة نجيبة. لقد أفادت واستفادت؛ درّست فيها الإعلام، وتعلمت فيها الإعلام الحديث.
كانت شيرين مرجعا مهنيا وأخلاقيا، عنوانا لهموم الناس والمجتمع، خبيرة في السياسة والإعلام. أجادت القراءة في بحور الأدب العالمي والسياسة والاقتصاد، كما أجادت الكتابة والقراءة والحديث بأربع لغات.
روت القصة في حياتها وظلت ترويها بعد أن أصبحت هي القصة والخبر. لم تخفق شيرين في معالجة أو تغطية صحفية، على مدار ربع قرن من العمل في الجزيرة، هو نصف عمرها. قدمت الآلاف من التقارير والمقابلات الحية من الأخبار العاجلة وغير العاجلة. غطت انتفاضة الأقصى، والحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان والقدس والنقب والجليل والضفة الغربية والجولان. كما شاركت في تغطيات لأحداث عربية ودولية في سوريا والأردن ومصر وبريطانيا والولايات المتحدة ولاهاي وجنيف والفاتيكان، وغيرها.. أعدت شيرين التقارير في مجالات الزراعة، والعلوم، والسياسة، والأمن، والرياضة، والقضايا الفنية والنسوية والمجتمعية دون تكبر وبتفان لافت. كتبت عن حبس جثامين الشهداء الفلسطينيين، وكانت من أوائل الصحفيين في العالم الذين تجرؤوا على إعداد تقارير حول أول المصابين بفيروس كورونا. غطت حروبا ومهرجانات وأفراحا وأتراحا، وزفت في تقاريرها عروسا إلى عريسها الأسير في سجون الاحتلال. بحثت مع ذوي الشهداء عن أشلاء أعزائهم بين ركام مخيم جنين وودعت مع ذوي الشهداء أعزاءهم، ونقلت آهات أمهاتهم وحنين أطفالهم، واستقبلت مع أهالي الأسرى أبناءهم المحررين، واقتحمت مع المزارعين والفلاحين أراضيهم المغتصبة، وعاشت مع اللاجئين آلامهم وآمالهم.
بحثت مع ذوي الشهداء عن أشلاء أعزائهم بين ركام مخيم جنين وودعت مع ذوي الشهداء أعزاءهم، ونقلت آهات أمهاتهم وحنين أطفالهم، واستقبلت مع أهالي الأسرى أبناءهم المحررين.
لم يكن مستغربا أن تفطر وفاتها، في جريمة قتل بشعة من قبل الاحتلال، قلوب الملايين من مواطنين ومسؤولين، حتى حزن من أجلها القاصي والداني من عرب وعجم، وانتفض غضبا لها المجتمع الفلسطيني برمته ومسؤوليه من رئيسه وزعماء فصائله حتى أصغر أطفاله.
كانت باحثة وناقلة وراوية للناس وهموهم، تلتقط المعلومة برشاقة ومهنية وتحولها إلى عنوان بحثي تعالجه في تقرير إنساني أو خبر سياسي. تحدد المحاور وتدعمها بالشهود وأبطال القصة لتعزز مصداقيتها وتجعلها ملازمة للحقيقة. لم تنحز شيرين إلا للحقيقة والإنسان، رغم شظف العيش كما وصفته بكلماتها في مستهل هذه المعالجة، ورغم مخاطر مهنة المتاعب التي آثرتها على غيرها من المهن. مع العلم أن أبواب الخيارات للعيش الرغيد أمامها كانت مشرعة على مصاريعها. لكن شيرين آثرت أن تكون من الناس بين الناس وللناس. وما علمناه بعد رحيلها أنها لم تكن ترد محتاجا ولا تصد باب سائل من الشعب الذي عشقته وأحبها. لم تخيّب قاصدا في معونة أو استشارة أو نصيحة. كانت كطباعها هادئة صامتة متبرعة لأيتام في أرجاء الوطن. لم تنس في العشر الأواخر من رمضان أن تتبرع بوجبات إفطار للمعتكفات في المسجد الأقصى إلى جانب شقيقها أنطون وعائلته الكريمة. كانت شيرين مسيحية مسلمة ومسلمة مسيحية، كانت إنسانة.
كانت باحثة وناقلة وراوية للناس وهمومهم، تلتقط المعلومة برشاقة ومهنية وتحولها إلى عنوان بحثي تعالجه في تقرير إنساني أو خبر سياسي. تحدد المحاور وتدعمها بالشهود وأبطال القصة لتعزز مصداقيتها وتجعلها ملازمة للحقيقة.
هذه شيرين الإنسانة العربية الفلسطينية المسيحية، والأمريكية أيضا.
كانت شيرين في ذروة عطائها الإنساني وتألقها المهني عندما قتلها المجرم. كانت شيرين وما أجمل ما كانت، وشكرا شيرين لأنك كنت كما كنت، وشكرا شيرين لأنك كنت كما أنت.
كم كان اغتيالك بنيران قناصة الاحتلال موجعا لزميلاتك وزملائك ولي شخصيا، فقد كنت المسطرة التي نقيس بها أنفسنا أخلاقيا ومهنيا، وما أقسى أن نقول كانت شيرين!