الإعلام والشعبوية في تونس: محنة الحقيقة

الحقيقة هي جوهر العمل الصحفي، كما أنّ الدور الأساسي للصحافة ووسائل الإعلام هو إنارة الجمهور بالمعلومات والأخبار والحقائق التي من شأنها أن تساعده على اتخاذ القرار والموقف المستنير في علاقته بكل ما يهم الشأن العام. 

من هذا المنطلق تتفق جميع المدونات الأخلاقية المهنية على أن أول التحديات التي يجب أن تطرح على أجندة الصحفي هي مسألة السعي إلى الحقيقة.

غير أنّ كل هذه القيم والمعايير المهنية الكبرى وضعت جانبا، ليتمّ في تونس، لا سيما بعد منعطف 25 يوليو/تموز 2021، التنكيل بالحقيقة الصحفية أكثر من أي وقت مضى مقابل تعاظم صوت الشعبوية بكل ما تستبطنه من جهل وتضليل وديماغوجيا وتلاعب بالرأي العام وتزييف للوقائع وضرب لكلّ أخلاقيات وأسس مهنة الصحافة.

 يحصل كلّ هذا على حساب الحقيقة الصحفية التي بات صوتها خافتا وخجولا تجاه أبواق الدعاية المغرقة في الأيديولوجيات القاتلة والتشيّع السياسي القائم على الاستقطاب الأعمى ولعبة المصالح الضيقة. إنه قصور مرده بالأساس تخلي الصحافة والصحفيين عن مسؤوليتهم الاجتماعية إزاء الجمهور تحت ذريعة مسايرة مزاج الجموع والانحناء في وجه عاصفة الشعبوية المتمدّدة.

 

تغول الشعبوية

إنّ الشعبوية بوصفها ظاهرة معقدة سياسية واجتماعية وثقافية ليست وليدة عصرنا الراهن بل هي قديمة قدم الفكر الشعبوي نفسه الذي عرف رواجا وإشعاعا في عديد المجتمعات والدول خاصة خلال القرن العشرين وما بعده. تستثمر الشعبوية في الأزمات وتنتعش في المناخات التي يغيب فيها صوت العقل مقابل سطوة العواطف والمشاعر الانفعالية القائمة على الثنائية المانوية "النور والظلمة" و"من ليس معي فهو ضدي".

يدعي الشعبويون أنّهم هم ضمير الشعب وأنّهم هم الشعب نفسه الذي يكاد يتحوّل معهم إلى قطع سكر معلبة متشابهة في الوزن والحجم. الزعيم في التجارب الشعبوية هو من يملك الحقيقة المطلقة وكل ما قد يحصل من مستجدات وتطورات ضد التيار هو ليس سوى مؤامرة دبرت بليل ضد إرادة الشعب الذي يزعم أنّه يمثله تمثيلا كاملا وشاملا ومباشرا دون الحاجة إلى مؤسسات وسيطة (2).

بيد أنّه لا يمكن في هذا المضمار القفز على خصوصية الحالة التونسية التي بلغت فيها موجة الشعبوية أوجها خاصة خلال الفترة الأخيرة.

في حقيقة الأمر، فإن طبيعة الشعبوية التي ظهرت في تونس فريدة من حيث محاولة التصنيف اتساقا بالتجارب المقارنة في العالم. ربما هذا يعود بالأساس إلى تركيبة الرئيس وتكوينه القانوني فضلا عن خصوصية البيئة التونسية في الظرف الراهن.

إنّ السياق التونسي بعد عشرية الثورة، لا هو بسياق الدول العريقة في الديمقراطية ولا هو سياق الأنظمة الاستبدادية والسلطوية. ما عاشته تونس كان انتقالا ديمقراطيا فاشلا بكل المقاييس. القول هنا بأنّ الانتقال الديمقراطي قد فشل لا هو برجم لتلك التجربة ولا هو بتجن عليها. هذه حقيقة لا بد من الوقوف عندها موضوعيا من أجل بلورة التشخيص السليم لأسباب هذا الفشل الذي ساهم فيه الإعلام بقسط كبير في إفساد الحياة السياسية وتغذية الشعبوية.

الشعبوية كفكر واستراتيجيا وممارسة ليست حكرا في الحقيقة على شخص الرئيس قيس سعيّد. لقد كانت الشعبوية خلال العشرية الماضية عابرة للأحزاب والأيديولوجيات وحتى النخب ووسائل الإعلام. لكن ما يجب أن يقال في هذا الإطار هو أنّ قيس سعيّد كان التعبير السياسي الأكثر وضوحا من حيث انتهاج توجه شعبوي محض يقوم على وهم النقاوة والطهارة والعصمة من الخطأ والادعاء بتمثيل شعب غير متجانس تشقه فئات وطبقات وملل ونحل كغيره من الشعوب والمجتمعات.

على امتداد السنوات التي تلت الثورة، ساهمت وسائل الإعلام في تونس بقسط كبير في تغذية الخطاب الشعبوي، كما لعبت دورا كبيرا في ضرب المؤسسات الديمقراطية وتسطيح النقاش العام حول كبرى التحديات التي باتت تختزل في المناكفات والاتهامات التي لا يتم التدقيق فيها والتحري منها.

لعبت وسائل الإعلام دورا كبيرا في صعود نجم قيس سعيد الذي كان إشعاعه قبل الثورة لا يتجاوز محيط كلية القانون التي كان يدرس بها. لقد كان التعاطي الإعلامي مع ظاهرة أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد قبل أن يكشف النقاب عن طموحاته السياسية تعاملا براغماتيا قائما على الكمّ قبل الكيف. كان سعيّد مادة دسمة لاقت رواجا في سوق الإعلام لا سيما في كلّ ما له علاقة بالشأن القانوني والتأويلات الدستورية.

طيلة ما يقارب 9 سنوات، تحوّل قيس سعيّد إلى نجم مطلوب من جلّ وسائل الإعلام. كان يمرّر أفكاره دون أن يقف الصحفيون عندها بالتحليل والتدقيق والتحقيق والتحري والتفسير. لقد غاب أي بعد نقدي في المعالجة الصحفية لما كان يدلي به من تصريحات في الحوارات والبرامج التي تتم استضافته فيها.

ساهمت وسائل الإعلام بشكل أو بآخر في صناعة سردية كاملة حول شخص أستاذ القانون قيس سعيّد الذي دخل التاريخ حينما فاز بالانتخابات الرئاسية قبل أن يتجه من خلال الإجراءات الاستثنائية التي أقرها والدستور الجديد إلى تركيز أركان منظومة حكمه الذي خلق سياقات جديدة اغتيلت فيها الحقيقة الصحفية وتحوّل فيها العمل الصحفي المهني إلى محنة حقيقية جراء إعصار الشعبوية الجارف.

 

أن تكون صحفيا في زمن سطوة الشعبوية

الصحافة مهنة ليست ككل المهن. والصحفي لا يمكن حصره في زاوية نقل البلاغات والتصريحات وكأنه كاتب عمومي أو حمام زاجل. لهذا يجب أن ننظر دائما إلى المهام المطروحة على الصحفي من منظور واسع. فمنذ القدم وصفت الصحافة بأنّها المسودة الأولى للتاريخ كما تمّ اعتبار الصحفي مؤرخ اللحظة (3).

في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، يحلّل الطبيب والعالم غوستاف لوبون عواطف الجماهير وأخلاقياتها مبرزا فيها سرعة الانفعال وخفتها ونزقها، حيث يصف الجمهور بأنّه ألعوبة لكل المحرضات التي تعكس تقلباتها المستمرة. فالصورة المثارة في ذهن الجماهير تعتبر حقائق واقعة بالنسبة لها.

وفي "سيكولوجية الجماهير" أيضا يتساوى العالم والجاهل، وفق لوبون، كما يخضع أفراد الجمهور إلى الكثير من الأوهام التي تصبح مسلمات غير قابلة للنقاش أو التفكير العقلاني. ويحذر نفس الكاتب من تضخيم عواطف الجماهير وتبسيطها معتبرا أنّ الجماهير لا تعترف بالشك أو عدم اليقين وهي دائما تذهب إلى الحدود القصوى حيث تكون عواطفها في كثير من الحالات متطرفة نتيجة اللاوعي الذي يهيمن دائما على الجمهور.

ويرى غوستاف لوبون في نفس الكتاب المرجعي القيّم أنّ الغرائز الثورية المؤقتة للجماهير لا تمنعها من أن تكون محافظة جدا فهي بالغريزة معادية للتغير والتقدم، محذرا من تعصبها واستبداديتها وعبوديتها للسلطة القوية.

انطلاقا من هذه المقاربة السوسيو- نفسية، يمكن فتح نوافذ لفهم أعمق حول السياق الراهن الذي تعيش على وقعه وسائل الإعلام التونسية.

فبعد حدث 25 يوليو/تموز 2021، الذي مكن الرئيس قيس سعيد من الانفراد بالسلطة، بدا من الواضح أنّ الإعلام التونسي قد دخل مرحلة جديدة قد تكون أكثر خطورة مما مضى حيث قام العديد من القنوات الإذاعية والتلفزيونية بإيقاف البرامج السياسية تجنبا للمشاكل، كما أحجم العديد من الصحفيين عن القيام بدورهم كسلطة مضادة نقدية لأي سلطة سياسية كانت. تمّ اغتيال الحقيقة الصحفية على حساب ترديد ما يقوله الرئيس الذي يدعي أنّه يصرح بحقائق "صواعق" غير قابلة للدحض. والحال أنّ العديد من البحوث والأعمال التي أنجزت في سياق تحليل الخطاب والتحري في المعطيات الزائفة برهنت على تسرب العديد من المعطيات المضللة وغير الصحيحة والإشاعات فيما يبثه رئيس الدولة عبر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية في الفيسبوك وعبر بعض المعلقين في البرامج الإعلامية المناصرين له دون أي احترام لمعايير المهنة (4).

 

في عصر الرئيس الحالي، بات خصومه ومعارضوه ومنتقدوه فاسدون ومجرمون في حق الشعب إلى أن تثبت براءتهم. عاد العديد من وسائل الإعلام إلى مربع اللون الواحد ولا سيما التلفزيون الرسمي. كل شيء يفسر بالمؤامرة التي يراد منها ثني الرئيس عن تحقيق الإرادة الشعبية. وحتّى موجة الحرائق التي ما انفكت تتكرّر كل سنة، لا سيما في فصل الصيف، لا يحق تفسيرها علميا بالتغيرات المناخية ففي ذلك تشكيك غير بريء بالنسبة لمناصريه، في وجاهة ما يطرحه الرئيس سعيد من ادعاءات غير مثبتة. بل الأكثر من ذلك، فإن انقطاع بعض المواد الأساسية نتيجة شح الموارد المالية للدولة وتداعيات الظرفية العالمية المتسمة بالحرب الروسية الأوكرانية لا يمكن تفسيرها سوى بمؤامرة من المحتكرين الذين يريدون الإطاحة بحكم الرئيس سعيّد من أجل العودة بالبلاد إلى الخلف، وفق رواية المناصرين.

 عاد العديد من التونسيين والتونسيات إلى مشاهدة البرامج الإخبارية والحوارية التلفزيونية العربية المهتمة بالشأن التونسي على غرار قناتي الجزيرة وفرانس 24 مثلما كان الحال خلال عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بسبب غياب التنوع والتعددية في المعالجات الصحفية والاستضافات. ومرّ دستور "الجمهورية الجديدة" التي يبشر بها الرئيس سعيد دون أي اعتبار لحق الإعلام في مساءلته ومناقشته من أجل فتح نقاش عمومي حقيقي حول التطورات التي تعرفها البلاد من خلال الخيارات الأحادية لرئيس الدولة.

 

لقد أجري الاستفتاء التونسي على الدستور الجديد الذي عاد بالبلاد إلى النسب التسعينية المثيرة للشك (5)، في ظلّ قصور تام من وسائل الإعلام عن القيام بدورها في تزويد المواطنين بما يمكن من معلومات ومعطيات صحيحة. كانت البيئة الإعلامية بعيدة كل البعد عن المعايير الديمقراطية التي من شأنها أن تسمح للصحفيين بالقيام بدورهم على أحسن وجه في التفسير والتحقيق والتحري والإخبار وتأطير النقاش الوطني بشكل مهني وديمقراطي تعددي والحصول على حقهم الدستوري في النفاذ إلى المعلومات بطريقة سلسلة.

 

تكمن خطورة السياق الشعبوي الراهن على حرية الصحافة في تونس في تنامي خطابات التخوين للمؤسسات الإعلامية وللصحفيين الذين يسعون قدر الإمكان إلى الحفاظ على استقلاليتهم ودورهم المهني بعيدا عن الاصطفاف السياسي. ولعلّ أخطر ما يتم الترويج له هو فكرة الوطنية كمعيار من معايير مهنة الصحافة. فالصحفي ومؤسسات الإعلام وفق الرئيس قيس سعيّد يجب أن يكونوا من الوطنيين الصادقين أي بمعنى آخر أنّ الصحافة يجب أن تكون متماهية مع المزاج العام بشكل يجعلها تتخلى عن دورها الأساسي والرئيسي وهو السعي إلى الحقيقة والبحث عنها بكل الأشكال الصحفية الممكنة.

إنّ دحض هذه الأيدولوجيا التي تجهل خصوصية مهنة الصحافة لا يحتاج إلى جهد كبير. يكفي فقط العودة لجميع النصوص المرجعية في مجال معايير المهنة الصحفية وأخلاقياتها لنستشف أنّ الوطنية ليست معيارا من معايير الصحافة. ويمكن أن نستدل في هذا السياق بالصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش الذي كشف فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب في العراق من قبل قوات الاحتلال الأمريكي. ولطالما كان الصحفي الفرنسي المخضرم أدوي بلينل مدير موقع "ميديا بارت" حاليا "الدابة السوداء" لجلّ من حكموا فرنسا خلال العقود الماضية بسبب تحقيقاته الاستقصائية التي كشفت العديد من الحقائق المدوية. فهل يمكن تصنيف هؤلاء على سبيل الذكر لا الحصر في خانة غير الوطنيين والخونة كما يرى ذلك الخطاب الشعبوي المتنامي الذي يدعو الصحفيين التونسيين إلى مساندة الرئيس قيس سعيد ضد خصومه حتى يحصلوا على صكوك الوطنية؟

 

لقد كشفت مرحلة ما بعد 25 يوليو/تموز 2021، حدود تجربة الانتقال الإعلامي في تونس. ولا شك في أنّ فشل الانتقال الإعلامي من خلال المقاربة التي تمت المراهنة عليها في الإصلاح وإعادة التنظيم والتعديل الذاتي بيّن الوجه الآخر لفشل الانتقال الديمقراطي بشكل عام بمؤسساته ومنهجيته المعتمدة ونتائجه المستخلصة.

 

إنّ الشعبوية التي ساهمت وسائل الإعلام في صناعتها وتغذيتها هي الوجه السافر لأزمة الديمقراطية التونسية المتعثرة والتي تعيش حالة نكوص ألقت بظلالها على المشهد الإعلامي الرّاهن (6). 

 

ما العمل؟

 

في كتابه "ديمقراطية مشهدية: الميديا والاتصال والسياسة في تونس"، ينبه الأكاديمي التونسي الصادق الحمامي، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة منوبة، على خطورة الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي على المشهد الإعلامي مبرزا كيف تحولت الشعبوية إلى أسلوب اتصالي.

 

يقول الحمامي في هذا المضمار: "تتعاطى الصحافة التونسية مع الشعبوية على أنها صفة يمكن أن تطلق على الخطاب الذي يبتغي رضاء الشعب وقبوله ويخدم مصالحه أو للخطاب الذي يجامل الشعب. وبمعنى آخر فإنّ الخطاب الشعبوي هو خطاب عاطفي سفسطائي وغير واقعي".

ويرى نفس الباحث الجامعي أن الخطاب السائد يخلط بين الديماغوجيا والشعبوية بما أنها في الخطاب السائد أسلوب سياسي أو حيلة اتصالية تقوم على المقولات البسيطة أو التبسيطية التي لا تخاطب العقل بل الغريزة والعاطفة.

 

ومن نتائج الاستقطاب الأيديولوجي، نزع المصداقية عن مؤسسات الديمقراطية وخاصة الصحافة. وتتمثل هنا أدوار الإعلام في الانحياز السياسي والأيديولوجي عندما تتحوّل إلى مؤسسات منحازة، وكذلك عبر الخطابة الشعبوية التي تنقلها البرامج الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون وفي وسائل التواصل الاجتماعي والأساليب التي يعتمدها معلقون أو صحفيون يؤججون الصراعات والأحقاد ويتحدثون بحدة وبشكل متطرف باستعادة خطابات التخوين والتقسيم.

 

ويضيف الحمامي في نفس الكتاب الصادر في مطلع سنة 2022: "من أهم نتائج الاستقطاب السياسي الذي ساهم الشعبويون في تأجيجه أن تصبح الصحافة مؤسسة تتجاذبها الأهواء السياسية والأيديولوجية".

إنّ من أبرز النقاط التي طرحت في هذا الكتاب النوعي؛ ما أثير حول الأسلوب الاتصالي الشعبوي بما أنّه أسلوب صدامي وعدائي يدغدغ المشاعر في الحياة السياسية ويستثمر في الحقد بشتى الوسائل.

 

إنّ صراع الصحافة المهنية والمستقلة مع الشعبوية ليس بصراع سياسي ولا أيديولوجي بقدر ما هو صراع من أجل الحقيقة ومن أجل الدفاع عن مهنة الصحفي وعن الإعلام كمؤسسات وسيطة يقول عنها رضا شهاب المكي، أحد أبرز المنظرين لمشروع الرئيس قيس سعيد إنّ عصرها قد انتهى. ففي الزمن الحالي لم يعد المواطن في حاجة إلى الصحيفة أو وكالة الأنباء لكي يتلقى المعلومة، وفق تقديره، معتقدا أنّ الجمهور يمكن أن يكتفي بما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي (7).

والحقيقة أن الصحافة هي عكس ذلك إطلاقا لأن ما يقوم به الصحفي من جهد احترافي ضروري من أجل صناعة الخبر والتحري في المعلومة والتحقيق في المواضيع الشائكة والملتبسة وتفسير القضايا المعقدة لا يمكن التخلي عنه لا في زمن الديمقراطية التمثيلية ولا في زمن الديمقراطية المباشرة.

 

في هذا الإطار، لا ينبغي أن يخضع الصحفي إلى هواجس الرقابة الذاتية تحت يافطة تجنب المواضيع التي قد تجعله في صدام مع موجة الشعبوية. كما أنّ الصحفي لا ينبغي أن يتحوّل إلى ناشط سياسي مناصر للرئيس سعيّد تحت ذريعة قناعاته الشخصية الفكرية والسياسية والواجب الوطني.

 

إنّ الحقيقة هي كنه العمل الصحفي وبالتالي من المهم عدم الزيغ عن طريق البحث عنها بشكل مهني صرف. فالسياق التونسي الراهن حتى وإن كان عسيرا وغير محفز، فإنّ انتهاج صحافة الجودة (صحافة التفسير، الصحافة الاستقصائية، صحافة التحري، صحافة البيانات…) والصحافة البناءة أمر ضروري وحتمي من أجل أن تحافظ الصحافة على دورها كسلطة رقيبة بشكل يمكن أن يساهم في إنارة الجمهور وبناء جسور جديدة للثقة.

من المهم ألا يتخلى الصحفي عن حقه في المعلومة وعن دوره كوسيط بين الفاعلين السياسيين والجمهور. فالتراجع عن لعب هذا الدور سيكون بمثابة هدية لأنصار الفكرة الطوباوية القائمة على مقولة نهاية المؤسسات الوسيطة.

في سنة 1898، وبينما كان السواد الأعظم من الفرنسيين منحازا للرواية الرسمية التي تدين النقيب بالجيش الفرنسي ألفريد دريفوس الذي اتهم بالخيانة لصالح الجيش الألماني، نشر إيميل زولا مقاله الشهير "إني أتهم" في جريدة الفجر الباريسية الذي دافع فيه عن المتهم. كان وقتها زولا ضدّ التيار الغالب في المجتمع الفرنسي لكنه لم يخش قول الحقيقة كما رآها واكتشفها. هذا المقال الذي ما زال يستشهد به إلى اليوم حيث يدرس في كبرى الجامعات في العالم في علاقة بمادة تاريخ الصحافة تحوّل إلى تجربة مرجعية في العمل الصحفي القائم على الانتصار للحقيقة والإنسان قبل كل شيء. ولعلّ في هذه التجربة وغيرها الكثير من الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها والاستئناس بها في الواقع الإعلامي التونسي اليوم المتسم بشعبوية لا تقل خطورة عن زمن الاستبداد (8).

 

المراجع 

 

1- انظر نصّ الإعلان العالمي لأخلاقيات مهنة الصحفيين الذي تمّ تحيينه في مؤتمر تونس سنة 2019.

https://www.ifj-arabic.org/fileadmin/user_upload/IFJ_Declaration_of_Principles_on_the_Conduct_of_Journalists.pdf

 

2- راجع في هذا السياق كتاب ناديا أوربيناتي: "أنا الشعب: كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية".

3- عبد الله العروي: مفهوم التاريخ. منشورات المركز الثقافي العربي.

 

4- انظر مقال محمد اليوسفي المنشور على موقع الكتيبة تحت عنوان: "قيس سعيد وحرية الصحافة: وعود بطعم العسل…وممارسات بمذاق الحنظل".

 

5- حسب هيئة الانتخابات فإنّ مشروع الدستور الجديد الذي أعده الرئيس سعيّد حظي بتصويت مؤيد بنعم من قبل أكثر من 94 بالمائة من المصوتين الذين بلغ عددهم وفق نفس النتائج الرسمية أكثر من 2,8 مليون مشارك.

 

6- بيان مجلس الصحافة التونسي حول المشهد الإعلامي بعد 25 جويلية

https://bit.ly/3zMGPSl

 

7-https://www.youtube.com/watch?v=ZurcKn71Mdg&t=2557s

8-https://alantologia.com/blogs/4282/

 

 

المزيد من المقالات

ازدواجية التغطية الإعلامية الغربية لمعاناة النساء في العالم الإسلامي

تَعري طالبة إيرانية احتجاجا على الأمن، و70 في المئة من الشهداء في فلسطين نساء وأطفال. بين الخبرين مسافة زمنية قصيرة، لكن الخبر الأول حظي بتغطية إعلامية غربية واسعة مقابل إغفال القتل الممنهج والتعذيب والاعتقال ضد النساء الفلسطينيات. كيف تؤطر وسائل الإعلام الغربية قضايا النساء في العالم الإسلامي، وهل هي محكومة بازدواجية معايير؟

شيماء العيسائي نشرت في: 19 نوفمبر, 2024
كيف يقوض التضليل ثقة الجمهور في الصحافة؟

تكشف التقارير عن مزيد من فقدان الثقة في وسائل الإعلام متأثرة بحجم التضليل الذي يقوض قدرة الصحافة المهنية على التأثير في النقاشات العامة. حواضن التضليل التي أصبحت ترعاها دول وكيانات خاصة أثناء النزاعات والحروب، تهدد بتجريد المهنة من وظائفها في المساءلة والمراقبة.

Muhammad Khamaiseh 1
محمد خمايسة نشرت في: 11 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
تأثير إفلات سلطة الاحتلال الإسرائيلي من العقاب على ممارسة المهنة بفلسطين

صنفت لجنة حماية الصحفيين الاحتلال الإسرائيلي في مقدمة المفلتين من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين. الزميل ياسر أحمد قشي، رئيس قسم حماية الصحفيين بمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان، يشرح في المقال كيف فشلت المنظومة الأممية في حماية "شهود الحقيقة" في فلسطين.

ياسر أحمد قشي نشرت في: 3 نوفمبر, 2024
التضليل والسياق التاريخي.. "صراع الذاكرة ضد النسيان"

ما الفرق بين السادس والسابع من أكتوبر؟ كيف مارست وسائل الإعلام التضليل ببتر السياق التاريخي؟ لماذا عمدت بعض وسائل الإعلام العربية إلى تجريد حرب الإبادة من جذورها؟ وهل ثمة تقصد في إبراز ثنائية إسرائيل - حماس في التغطيات الإخبارية؟

سعيد الحاجي نشرت في: 30 أكتوبر, 2024
أدوار الإعلام العماني في زمن التغيرات المناخية

تبرز هذه الورقة كيف ركز الإعلام العماني في زمن الكوارث الطبيعية على "الإشادة" بجهود الحكومة لتحسين سمعتها في مقابل إغفال صوت الضحايا والمتأثرين بالأعاصير وتمثل دوره في التحذير والوقاية من الكوارث في المستقبل.

شيماء العيسائي نشرت في: 21 أكتوبر, 2024
نصف الحقيقة كذبة كاملة

في صحافة الوكالة الموسومة بالسرعة والضغط الإخباري، غالبا ما يطلب من الصحفيين "قصاصات" قصيرة لا تستحضر السياقات التاريخية للصراعات والحروب، وحالة فلسطين تعبير صارخ عن ذلك، والنتيجة: نصف الحقيقة قد يكون كذبة كاملة.

Ilya U. Topper
إيليا توبر Ilya U. Topper نشرت في: 14 أكتوبر, 2024
النظام الإعلامي في السودان أثناء الحرب

فككت الحرب الدائرة في السودان الكثير من المؤسسات الإعلامية لتفسح المجال لكم هائل من الشائعات والأخبار الكاذبة التي شكلت وقودا للاقتتال الداخلي. هاجر جزء كبير من الجمهور إلى المنصات الاجتماعية بحثا عن الحقيقة بينما ما لا تزال بعض المؤسسات الإعلامية التقليدية رغم استهداف مقراتها وصحفييها.

محمد بابكر العوض نشرت في: 12 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
تاريخ الصحافة.. من مراقبة السلطة السياسية إلى حمايتها

انبثقت الصحافة من فكرة مراقبة السلطة السياسية وكشف انتهاكاتها، لكن مسار تطورها المرتبط بتعقد الفساد السياسي جعلها أداة في يد "الرأسمالية". يقدم المقال قراءة تاريخية في العلاقة الصعبة بين الصحافة والسياسة.

نصر السعيدي نشرت في: 26 سبتمبر, 2024
حرية الصحافة بالأردن والقراءة غير الدستورية

منذ إقرار قانون الجرائم الإلكترونية بالأردن، دخلت حرية الرأي والتعبير مرحلة مقلقة موسومة باعتقال الصحفيين والتضييق على وسائل الإعلام. يقدم مصعب شوابكة قراءة دستورية مستندة على اجتهادات وأحكام تنتصر لحرية التعبير في ظرفية تحتاج فيها البلاد لتنوع الآراء في مواجهة اليمين الإسرائيلي.

Musab Shawabkeh
مصعب الشوابكة نشرت في: 8 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
إرهاق الأخبار وتجنبها.. ما الذي عكر مزاج جمهور وسائل الإعلام؟

أبرزت دراسة  أجريت على 12 ألف بالغ أمريكي، أن الثلثين منهم يعترفون بأنهم "منهكون" بسبب الكم الهائل من الأخبار التي تقدم لهم. لماذا يشعر الجمهور بالإرهاق من الأخبار؟ وهل أصبح يتجنبها وتؤثر عليه نفسيا؟ وكيف يمكن لوسائل الإعلام أن تستعيد الثقة في جمهورها؟

عثمان كباشي نشرت في: 1 سبتمبر, 2024
كليات الصحافة في الصومال.. معركة الأنفاس الأخيرة

لا تزال كليات الصحافة في الصومال تسير بخطى بطيئة جدا متأثرة بسياق سياسي مضطرب. أكاديمية الصومال للإعلام الرقمي تحاول بشراكة مع الجامعات بناء صحفيي المستقبل.

الشافعي أبتدون نشرت في: 27 أغسطس, 2024
كيف تستفيد الصحافة من أدوات العلوم الاجتماعية؟

حينما سئل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عن رأيه في مساهمة الضواحي في الانتخابات، أجاب أنه لا يمكن اختصار عقود كاملة من الاستعمار والمشاكل المعقدة في 10 دقائق. تظهر قيمة العلوم الاجتماعية في إسناد الصحافة حين تعالج قضايا المجتمع والسلطة والهوية في سبيل صحافة أكثر جودة.

رحاب ظاهري نشرت في: 21 أغسطس, 2024
هذه تجربتي في تعلم الصحافة في الجامعة الجزائرية

تقدم فاطمة الزهراء زايدي في هذه الورقة تجربتها في تعلم الصحافة في الجامعة الجزائرية. صعوبة الولوج إلى التدريب، عتاقة المناهج الدراسية، أساليب التلقين التلقيدية، والتوظيف بـ "الواسطة" يفرخ "جيشا" من الصحفيين يواجهون البطالة.

فاطمة الزهراء الزايدي نشرت في: 11 أغسطس, 2024
البودكاست في الصحافة الرياضية.. الحدود بين التلقائية والشعبوية

في مساحة تتخلّلها إضاءة خافتة في أغلب الأحيان، بينما الصمت الذي يوحي به المكان تُكسِّره أصوات تحمل نبرة منخفضة، يجلس شخصان أو أكثر ليتبادلا أطراف الحديث، يجولان بين الماض

أيوب رفيق نشرت في: 4 أغسطس, 2024
نظرة على تقرير رويترز للأخبار الرقمية 2024

يتحدث التقرير عن استمرار الأزمة التي تعانيها الصحافة الرقمية عالميا، وهي تحاول التكيّف مع التغييرات المتواصلة التي تفرضها المنصات، وهي تغييرات تتقصد عموما تهميش الأخبار والمحتوى السياسي لصالح المحتوى الترفيهي، ومنح الأولوية في بنيتها الخوارزمية للمحتوى المرئي (الفيديو تحديدا) على حساب المحتوى المكتوب.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 21 يوليو, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
حرية الصحافة في الأردن بين رقابة السلطة والرقابة الذاتية

رغم التقدم الحاصل على مؤشر منظمة "مراسلون بلا حدود" لحرية الصحافة، يعيش الصحفيون الأردنيون أياما صعبة بعد حملة تضييقات واعتقالات طالت منتقدين للتطبيع أو بسبب مقالات صحفية. ترصد الزميلة هدى أبو هاشم في هذا المقال واقع حرية التعبير في ظل انتقادات حادة لقانون الجرائم الإلكترونية.

هدى أبو هاشم نشرت في: 12 يونيو, 2024
الاستشراق والإمبريالية وجذور التحيّز في التغطية الغربية لفلسطين

تقترن تحيزات وسائل الإعلام الغربية الكبرى ودفاعها عن السردية الإسرائيلية بالاستشراق والعنصرية والإمبريالية، بما يضمن مصالح النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة في الغرب، بيد أنّها تواجه تحديًا من الحركات العالمية الساعية لإبراز حقائق الصراع، والإعراب عن التضامن مع الفلسطينيين.

جوزيف ضاهر نشرت في: 9 يونيو, 2024
"صحافة الهجرة" في فرنسا: المهاجر بوصفه "مُشكِلًا"

كشفت المناقشات بشأن مشروع قانون الهجرة الجديد في فرنسا، عن الاستقطاب القوي حول قضايا الهجرة في البلاد، وهو جدل يمتد إلى بلدان أوروبية أخرى، ولا سيما أن القارة على أبواب الحملة الانتخابية الأوروبية بعد إقرار ميثاق الهجرة. يأتي ذلك في سياق تهيمن عليه الخطابات والمواقف المعادية للهجرة، في ظل صعود سياسي وشعبي أيديولوجي لليمين المتشدد في كل مكان تقريبا.

أحمد نظيف نشرت في: 5 يونيو, 2024
أنس الشريف.. "أنا صاحب قضية قبل أن أكون صحفيا"

من توثيق جرائم الاحتلال على المنصات الاجتماعية إلى تغطية حرب الإبادة الجماعية على قناة الجزيرة، كان الصحفي أنس الشريف، يتحدى الظروف الميدانية الصعبة، وعدسات القناصين. فقد والده وعددا من أحبائه لكنه آثر أن ينقل "رواية الفلسطيني إلى العالم". في هذه المقابلة نتعرف على وجه وملامح صحفي فلسطيني مجرد من الحماية ومؤمن بأنّ "التغطية مستمرة".

أنس الشريف نشرت في: 3 يونيو, 2024
كيف نفهم تصدّر موريتانيا ترتيب حريّات الصحافة عربياً وأفريقياً؟

تأرجحت موريتانيا على هذا المؤشر كثيرا، وخصوصا خلال العقدين الأخيرين، من التقدم للاقتراب من منافسة الدول ذات التصنيف الجيد، إلى ارتكاس إلى درك الدول الأدنى تصنيفاً على مؤشر الحريات، فكيف نفهم هذا الصعود اليوم؟

 أحمد محمد المصطفى ولد الندى
أحمد محمد المصطفى نشرت في: 8 مايو, 2024