الإعلام والشعبوية في تونس: محنة الحقيقة

الإعلام والشعبوية في تونس: محنة الحقيقة

الحقيقة هي جوهر العمل الصحفي، كما أنّ الدور الأساسي للصحافة ووسائل الإعلام هو إنارة الجمهور بالمعلومات والأخبار والحقائق التي من شأنها أن تساعده على اتخاذ القرار والموقف المستنير في علاقته بكل ما يهم الشأن العام. 

من هذا المنطلق تتفق جميع المدونات الأخلاقية المهنية على أن أول التحديات التي يجب أن تطرح على أجندة الصحفي هي مسألة السعي إلى الحقيقة.

غير أنّ كل هذه القيم والمعايير المهنية الكبرى وضعت جانبا، ليتمّ في تونس، لا سيما بعد منعطف 25 يوليو/تموز 2021، التنكيل بالحقيقة الصحفية أكثر من أي وقت مضى مقابل تعاظم صوت الشعبوية بكل ما تستبطنه من جهل وتضليل وديماغوجيا وتلاعب بالرأي العام وتزييف للوقائع وضرب لكلّ أخلاقيات وأسس مهنة الصحافة.

 يحصل كلّ هذا على حساب الحقيقة الصحفية التي بات صوتها خافتا وخجولا تجاه أبواق الدعاية المغرقة في الأيديولوجيات القاتلة والتشيّع السياسي القائم على الاستقطاب الأعمى ولعبة المصالح الضيقة. إنه قصور مرده بالأساس تخلي الصحافة والصحفيين عن مسؤوليتهم الاجتماعية إزاء الجمهور تحت ذريعة مسايرة مزاج الجموع والانحناء في وجه عاصفة الشعبوية المتمدّدة.

 

تغول الشعبوية

إنّ الشعبوية بوصفها ظاهرة معقدة سياسية واجتماعية وثقافية ليست وليدة عصرنا الراهن بل هي قديمة قدم الفكر الشعبوي نفسه الذي عرف رواجا وإشعاعا في عديد المجتمعات والدول خاصة خلال القرن العشرين وما بعده. تستثمر الشعبوية في الأزمات وتنتعش في المناخات التي يغيب فيها صوت العقل مقابل سطوة العواطف والمشاعر الانفعالية القائمة على الثنائية المانوية "النور والظلمة" و"من ليس معي فهو ضدي".

يدعي الشعبويون أنّهم هم ضمير الشعب وأنّهم هم الشعب نفسه الذي يكاد يتحوّل معهم إلى قطع سكر معلبة متشابهة في الوزن والحجم. الزعيم في التجارب الشعبوية هو من يملك الحقيقة المطلقة وكل ما قد يحصل من مستجدات وتطورات ضد التيار هو ليس سوى مؤامرة دبرت بليل ضد إرادة الشعب الذي يزعم أنّه يمثله تمثيلا كاملا وشاملا ومباشرا دون الحاجة إلى مؤسسات وسيطة (2).

بيد أنّه لا يمكن في هذا المضمار القفز على خصوصية الحالة التونسية التي بلغت فيها موجة الشعبوية أوجها خاصة خلال الفترة الأخيرة.

في حقيقة الأمر، فإن طبيعة الشعبوية التي ظهرت في تونس فريدة من حيث محاولة التصنيف اتساقا بالتجارب المقارنة في العالم. ربما هذا يعود بالأساس إلى تركيبة الرئيس وتكوينه القانوني فضلا عن خصوصية البيئة التونسية في الظرف الراهن.

إنّ السياق التونسي بعد عشرية الثورة، لا هو بسياق الدول العريقة في الديمقراطية ولا هو سياق الأنظمة الاستبدادية والسلطوية. ما عاشته تونس كان انتقالا ديمقراطيا فاشلا بكل المقاييس. القول هنا بأنّ الانتقال الديمقراطي قد فشل لا هو برجم لتلك التجربة ولا هو بتجن عليها. هذه حقيقة لا بد من الوقوف عندها موضوعيا من أجل بلورة التشخيص السليم لأسباب هذا الفشل الذي ساهم فيه الإعلام بقسط كبير في إفساد الحياة السياسية وتغذية الشعبوية.

الشعبوية كفكر واستراتيجيا وممارسة ليست حكرا في الحقيقة على شخص الرئيس قيس سعيّد. لقد كانت الشعبوية خلال العشرية الماضية عابرة للأحزاب والأيديولوجيات وحتى النخب ووسائل الإعلام. لكن ما يجب أن يقال في هذا الإطار هو أنّ قيس سعيّد كان التعبير السياسي الأكثر وضوحا من حيث انتهاج توجه شعبوي محض يقوم على وهم النقاوة والطهارة والعصمة من الخطأ والادعاء بتمثيل شعب غير متجانس تشقه فئات وطبقات وملل ونحل كغيره من الشعوب والمجتمعات.

على امتداد السنوات التي تلت الثورة، ساهمت وسائل الإعلام في تونس بقسط كبير في تغذية الخطاب الشعبوي، كما لعبت دورا كبيرا في ضرب المؤسسات الديمقراطية وتسطيح النقاش العام حول كبرى التحديات التي باتت تختزل في المناكفات والاتهامات التي لا يتم التدقيق فيها والتحري منها.

لعبت وسائل الإعلام دورا كبيرا في صعود نجم قيس سعيد الذي كان إشعاعه قبل الثورة لا يتجاوز محيط كلية القانون التي كان يدرس بها. لقد كان التعاطي الإعلامي مع ظاهرة أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد قبل أن يكشف النقاب عن طموحاته السياسية تعاملا براغماتيا قائما على الكمّ قبل الكيف. كان سعيّد مادة دسمة لاقت رواجا في سوق الإعلام لا سيما في كلّ ما له علاقة بالشأن القانوني والتأويلات الدستورية.

طيلة ما يقارب 9 سنوات، تحوّل قيس سعيّد إلى نجم مطلوب من جلّ وسائل الإعلام. كان يمرّر أفكاره دون أن يقف الصحفيون عندها بالتحليل والتدقيق والتحقيق والتحري والتفسير. لقد غاب أي بعد نقدي في المعالجة الصحفية لما كان يدلي به من تصريحات في الحوارات والبرامج التي تتم استضافته فيها.

ساهمت وسائل الإعلام بشكل أو بآخر في صناعة سردية كاملة حول شخص أستاذ القانون قيس سعيّد الذي دخل التاريخ حينما فاز بالانتخابات الرئاسية قبل أن يتجه من خلال الإجراءات الاستثنائية التي أقرها والدستور الجديد إلى تركيز أركان منظومة حكمه الذي خلق سياقات جديدة اغتيلت فيها الحقيقة الصحفية وتحوّل فيها العمل الصحفي المهني إلى محنة حقيقية جراء إعصار الشعبوية الجارف.

 

أن تكون صحفيا في زمن سطوة الشعبوية

الصحافة مهنة ليست ككل المهن. والصحفي لا يمكن حصره في زاوية نقل البلاغات والتصريحات وكأنه كاتب عمومي أو حمام زاجل. لهذا يجب أن ننظر دائما إلى المهام المطروحة على الصحفي من منظور واسع. فمنذ القدم وصفت الصحافة بأنّها المسودة الأولى للتاريخ كما تمّ اعتبار الصحفي مؤرخ اللحظة (3).

في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، يحلّل الطبيب والعالم غوستاف لوبون عواطف الجماهير وأخلاقياتها مبرزا فيها سرعة الانفعال وخفتها ونزقها، حيث يصف الجمهور بأنّه ألعوبة لكل المحرضات التي تعكس تقلباتها المستمرة. فالصورة المثارة في ذهن الجماهير تعتبر حقائق واقعة بالنسبة لها.

وفي "سيكولوجية الجماهير" أيضا يتساوى العالم والجاهل، وفق لوبون، كما يخضع أفراد الجمهور إلى الكثير من الأوهام التي تصبح مسلمات غير قابلة للنقاش أو التفكير العقلاني. ويحذر نفس الكاتب من تضخيم عواطف الجماهير وتبسيطها معتبرا أنّ الجماهير لا تعترف بالشك أو عدم اليقين وهي دائما تذهب إلى الحدود القصوى حيث تكون عواطفها في كثير من الحالات متطرفة نتيجة اللاوعي الذي يهيمن دائما على الجمهور.

ويرى غوستاف لوبون في نفس الكتاب المرجعي القيّم أنّ الغرائز الثورية المؤقتة للجماهير لا تمنعها من أن تكون محافظة جدا فهي بالغريزة معادية للتغير والتقدم، محذرا من تعصبها واستبداديتها وعبوديتها للسلطة القوية.

انطلاقا من هذه المقاربة السوسيو- نفسية، يمكن فتح نوافذ لفهم أعمق حول السياق الراهن الذي تعيش على وقعه وسائل الإعلام التونسية.

فبعد حدث 25 يوليو/تموز 2021، الذي مكن الرئيس قيس سعيد من الانفراد بالسلطة، بدا من الواضح أنّ الإعلام التونسي قد دخل مرحلة جديدة قد تكون أكثر خطورة مما مضى حيث قام العديد من القنوات الإذاعية والتلفزيونية بإيقاف البرامج السياسية تجنبا للمشاكل، كما أحجم العديد من الصحفيين عن القيام بدورهم كسلطة مضادة نقدية لأي سلطة سياسية كانت. تمّ اغتيال الحقيقة الصحفية على حساب ترديد ما يقوله الرئيس الذي يدعي أنّه يصرح بحقائق "صواعق" غير قابلة للدحض. والحال أنّ العديد من البحوث والأعمال التي أنجزت في سياق تحليل الخطاب والتحري في المعطيات الزائفة برهنت على تسرب العديد من المعطيات المضللة وغير الصحيحة والإشاعات فيما يبثه رئيس الدولة عبر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية في الفيسبوك وعبر بعض المعلقين في البرامج الإعلامية المناصرين له دون أي احترام لمعايير المهنة (4).

 

في عصر الرئيس الحالي، بات خصومه ومعارضوه ومنتقدوه فاسدون ومجرمون في حق الشعب إلى أن تثبت براءتهم. عاد العديد من وسائل الإعلام إلى مربع اللون الواحد ولا سيما التلفزيون الرسمي. كل شيء يفسر بالمؤامرة التي يراد منها ثني الرئيس عن تحقيق الإرادة الشعبية. وحتّى موجة الحرائق التي ما انفكت تتكرّر كل سنة، لا سيما في فصل الصيف، لا يحق تفسيرها علميا بالتغيرات المناخية ففي ذلك تشكيك غير بريء بالنسبة لمناصريه، في وجاهة ما يطرحه الرئيس سعيد من ادعاءات غير مثبتة. بل الأكثر من ذلك، فإن انقطاع بعض المواد الأساسية نتيجة شح الموارد المالية للدولة وتداعيات الظرفية العالمية المتسمة بالحرب الروسية الأوكرانية لا يمكن تفسيرها سوى بمؤامرة من المحتكرين الذين يريدون الإطاحة بحكم الرئيس سعيّد من أجل العودة بالبلاد إلى الخلف، وفق رواية المناصرين.

 عاد العديد من التونسيين والتونسيات إلى مشاهدة البرامج الإخبارية والحوارية التلفزيونية العربية المهتمة بالشأن التونسي على غرار قناتي الجزيرة وفرانس 24 مثلما كان الحال خلال عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بسبب غياب التنوع والتعددية في المعالجات الصحفية والاستضافات. ومرّ دستور "الجمهورية الجديدة" التي يبشر بها الرئيس سعيد دون أي اعتبار لحق الإعلام في مساءلته ومناقشته من أجل فتح نقاش عمومي حقيقي حول التطورات التي تعرفها البلاد من خلال الخيارات الأحادية لرئيس الدولة.

 

لقد أجري الاستفتاء التونسي على الدستور الجديد الذي عاد بالبلاد إلى النسب التسعينية المثيرة للشك (5)، في ظلّ قصور تام من وسائل الإعلام عن القيام بدورها في تزويد المواطنين بما يمكن من معلومات ومعطيات صحيحة. كانت البيئة الإعلامية بعيدة كل البعد عن المعايير الديمقراطية التي من شأنها أن تسمح للصحفيين بالقيام بدورهم على أحسن وجه في التفسير والتحقيق والتحري والإخبار وتأطير النقاش الوطني بشكل مهني وديمقراطي تعددي والحصول على حقهم الدستوري في النفاذ إلى المعلومات بطريقة سلسلة.

 

تكمن خطورة السياق الشعبوي الراهن على حرية الصحافة في تونس في تنامي خطابات التخوين للمؤسسات الإعلامية وللصحفيين الذين يسعون قدر الإمكان إلى الحفاظ على استقلاليتهم ودورهم المهني بعيدا عن الاصطفاف السياسي. ولعلّ أخطر ما يتم الترويج له هو فكرة الوطنية كمعيار من معايير مهنة الصحافة. فالصحفي ومؤسسات الإعلام وفق الرئيس قيس سعيّد يجب أن يكونوا من الوطنيين الصادقين أي بمعنى آخر أنّ الصحافة يجب أن تكون متماهية مع المزاج العام بشكل يجعلها تتخلى عن دورها الأساسي والرئيسي وهو السعي إلى الحقيقة والبحث عنها بكل الأشكال الصحفية الممكنة.

إنّ دحض هذه الأيدولوجيا التي تجهل خصوصية مهنة الصحافة لا يحتاج إلى جهد كبير. يكفي فقط العودة لجميع النصوص المرجعية في مجال معايير المهنة الصحفية وأخلاقياتها لنستشف أنّ الوطنية ليست معيارا من معايير الصحافة. ويمكن أن نستدل في هذا السياق بالصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش الذي كشف فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب في العراق من قبل قوات الاحتلال الأمريكي. ولطالما كان الصحفي الفرنسي المخضرم أدوي بلينل مدير موقع "ميديا بارت" حاليا "الدابة السوداء" لجلّ من حكموا فرنسا خلال العقود الماضية بسبب تحقيقاته الاستقصائية التي كشفت العديد من الحقائق المدوية. فهل يمكن تصنيف هؤلاء على سبيل الذكر لا الحصر في خانة غير الوطنيين والخونة كما يرى ذلك الخطاب الشعبوي المتنامي الذي يدعو الصحفيين التونسيين إلى مساندة الرئيس قيس سعيد ضد خصومه حتى يحصلوا على صكوك الوطنية؟

 

لقد كشفت مرحلة ما بعد 25 يوليو/تموز 2021، حدود تجربة الانتقال الإعلامي في تونس. ولا شك في أنّ فشل الانتقال الإعلامي من خلال المقاربة التي تمت المراهنة عليها في الإصلاح وإعادة التنظيم والتعديل الذاتي بيّن الوجه الآخر لفشل الانتقال الديمقراطي بشكل عام بمؤسساته ومنهجيته المعتمدة ونتائجه المستخلصة.

 

إنّ الشعبوية التي ساهمت وسائل الإعلام في صناعتها وتغذيتها هي الوجه السافر لأزمة الديمقراطية التونسية المتعثرة والتي تعيش حالة نكوص ألقت بظلالها على المشهد الإعلامي الرّاهن (6). 

 

ما العمل؟

 

في كتابه "ديمقراطية مشهدية: الميديا والاتصال والسياسة في تونس"، ينبه الأكاديمي التونسي الصادق الحمامي، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة منوبة، على خطورة الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي على المشهد الإعلامي مبرزا كيف تحولت الشعبوية إلى أسلوب اتصالي.

 

يقول الحمامي في هذا المضمار: "تتعاطى الصحافة التونسية مع الشعبوية على أنها صفة يمكن أن تطلق على الخطاب الذي يبتغي رضاء الشعب وقبوله ويخدم مصالحه أو للخطاب الذي يجامل الشعب. وبمعنى آخر فإنّ الخطاب الشعبوي هو خطاب عاطفي سفسطائي وغير واقعي".

ويرى نفس الباحث الجامعي أن الخطاب السائد يخلط بين الديماغوجيا والشعبوية بما أنها في الخطاب السائد أسلوب سياسي أو حيلة اتصالية تقوم على المقولات البسيطة أو التبسيطية التي لا تخاطب العقل بل الغريزة والعاطفة.

 

ومن نتائج الاستقطاب الأيديولوجي، نزع المصداقية عن مؤسسات الديمقراطية وخاصة الصحافة. وتتمثل هنا أدوار الإعلام في الانحياز السياسي والأيديولوجي عندما تتحوّل إلى مؤسسات منحازة، وكذلك عبر الخطابة الشعبوية التي تنقلها البرامج الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون وفي وسائل التواصل الاجتماعي والأساليب التي يعتمدها معلقون أو صحفيون يؤججون الصراعات والأحقاد ويتحدثون بحدة وبشكل متطرف باستعادة خطابات التخوين والتقسيم.

 

ويضيف الحمامي في نفس الكتاب الصادر في مطلع سنة 2022: "من أهم نتائج الاستقطاب السياسي الذي ساهم الشعبويون في تأجيجه أن تصبح الصحافة مؤسسة تتجاذبها الأهواء السياسية والأيديولوجية".

إنّ من أبرز النقاط التي طرحت في هذا الكتاب النوعي؛ ما أثير حول الأسلوب الاتصالي الشعبوي بما أنّه أسلوب صدامي وعدائي يدغدغ المشاعر في الحياة السياسية ويستثمر في الحقد بشتى الوسائل.

 

إنّ صراع الصحافة المهنية والمستقلة مع الشعبوية ليس بصراع سياسي ولا أيديولوجي بقدر ما هو صراع من أجل الحقيقة ومن أجل الدفاع عن مهنة الصحفي وعن الإعلام كمؤسسات وسيطة يقول عنها رضا شهاب المكي، أحد أبرز المنظرين لمشروع الرئيس قيس سعيد إنّ عصرها قد انتهى. ففي الزمن الحالي لم يعد المواطن في حاجة إلى الصحيفة أو وكالة الأنباء لكي يتلقى المعلومة، وفق تقديره، معتقدا أنّ الجمهور يمكن أن يكتفي بما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي (7).

والحقيقة أن الصحافة هي عكس ذلك إطلاقا لأن ما يقوم به الصحفي من جهد احترافي ضروري من أجل صناعة الخبر والتحري في المعلومة والتحقيق في المواضيع الشائكة والملتبسة وتفسير القضايا المعقدة لا يمكن التخلي عنه لا في زمن الديمقراطية التمثيلية ولا في زمن الديمقراطية المباشرة.

 

في هذا الإطار، لا ينبغي أن يخضع الصحفي إلى هواجس الرقابة الذاتية تحت يافطة تجنب المواضيع التي قد تجعله في صدام مع موجة الشعبوية. كما أنّ الصحفي لا ينبغي أن يتحوّل إلى ناشط سياسي مناصر للرئيس سعيّد تحت ذريعة قناعاته الشخصية الفكرية والسياسية والواجب الوطني.

 

إنّ الحقيقة هي كنه العمل الصحفي وبالتالي من المهم عدم الزيغ عن طريق البحث عنها بشكل مهني صرف. فالسياق التونسي الراهن حتى وإن كان عسيرا وغير محفز، فإنّ انتهاج صحافة الجودة (صحافة التفسير، الصحافة الاستقصائية، صحافة التحري، صحافة البيانات…) والصحافة البناءة أمر ضروري وحتمي من أجل أن تحافظ الصحافة على دورها كسلطة رقيبة بشكل يمكن أن يساهم في إنارة الجمهور وبناء جسور جديدة للثقة.

من المهم ألا يتخلى الصحفي عن حقه في المعلومة وعن دوره كوسيط بين الفاعلين السياسيين والجمهور. فالتراجع عن لعب هذا الدور سيكون بمثابة هدية لأنصار الفكرة الطوباوية القائمة على مقولة نهاية المؤسسات الوسيطة.

في سنة 1898، وبينما كان السواد الأعظم من الفرنسيين منحازا للرواية الرسمية التي تدين النقيب بالجيش الفرنسي ألفريد دريفوس الذي اتهم بالخيانة لصالح الجيش الألماني، نشر إيميل زولا مقاله الشهير "إني أتهم" في جريدة الفجر الباريسية الذي دافع فيه عن المتهم. كان وقتها زولا ضدّ التيار الغالب في المجتمع الفرنسي لكنه لم يخش قول الحقيقة كما رآها واكتشفها. هذا المقال الذي ما زال يستشهد به إلى اليوم حيث يدرس في كبرى الجامعات في العالم في علاقة بمادة تاريخ الصحافة تحوّل إلى تجربة مرجعية في العمل الصحفي القائم على الانتصار للحقيقة والإنسان قبل كل شيء. ولعلّ في هذه التجربة وغيرها الكثير من الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها والاستئناس بها في الواقع الإعلامي التونسي اليوم المتسم بشعبوية لا تقل خطورة عن زمن الاستبداد (8).

 

المراجع 

 

1- انظر نصّ الإعلان العالمي لأخلاقيات مهنة الصحفيين الذي تمّ تحيينه في مؤتمر تونس سنة 2019.

https://www.ifj-arabic.org/fileadmin/user_upload/IFJ_Declaration_of_Principles_on_the_Conduct_of_Journalists.pdf

 

2- راجع في هذا السياق كتاب ناديا أوربيناتي: "أنا الشعب: كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية".

3- عبد الله العروي: مفهوم التاريخ. منشورات المركز الثقافي العربي.

 

4- انظر مقال محمد اليوسفي المنشور على موقع الكتيبة تحت عنوان: "قيس سعيد وحرية الصحافة: وعود بطعم العسل…وممارسات بمذاق الحنظل".

 

5- حسب هيئة الانتخابات فإنّ مشروع الدستور الجديد الذي أعده الرئيس سعيّد حظي بتصويت مؤيد بنعم من قبل أكثر من 94 بالمائة من المصوتين الذين بلغ عددهم وفق نفس النتائج الرسمية أكثر من 2,8 مليون مشارك.

 

6- بيان مجلس الصحافة التونسي حول المشهد الإعلامي بعد 25 جويلية

https://bit.ly/3zMGPSl

 

7-https://www.youtube.com/watch?v=ZurcKn71Mdg&t=2557s

8-https://alantologia.com/blogs/4282/

 

 

More Articles

Revisioning Journalism During a Genocide

Western media’s coverage of the Gaza genocide has revealed fundamental cracks in the notion of journalistic objectivity. Mainstream outlets have frequently marginalized or discredited Palestinian perspectives, often echoing narratives that align with Israeli state interests. In stark contrast, Palestinian journalists—reporting from within a besieged landscape—have become frontline truth-tellers. Through raw, emotional storytelling, they are not only documenting atrocities but also redefining journalism as a form of resistance and a reclaiming of ethical purpose.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 4 Apr, 2025
How Media Drives Collective Adaptation During Natural Disasters in Oman

This paper highlights how Omani media, during times of natural disasters, focused on praising government efforts to improve its image, while neglecting the voices of victims and those affected by the cyclones. It also examines the media’s role in warning against and preventing future disasters.

Shaimaa Al-Eisai
Shaimaa Al-Eisai Published on: 31 Mar, 2025
Systematic Bias: How Western Media Framed the March 18 Massacre of Palestinians

On March 18, Israel launched a large-scale assault on Gaza, killing over 412 Palestinians and injuring more than 500, while Western media uncritically echoed Israel’s claim of “targeting Hamas.” Rather than exposing the massacre, coverage downplayed the death toll, delayed key facts, and framed the attacks as justified pressure on Hamas—further highlighting the double standard in valuing Palestinian lives.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Mar, 2025
Misinformation in Syria: Natural Chaos or Organised Campaign?

Old videos inciting “sectarian strife,” statements taken out of context attacking Christians, scenes of heavy weaponry clashes in other countries, fabricated stories of fictitious detainees, and a huge amount of fake news that accompanied the fall of Bashar al-Assad’s regime: Is it the natural chaos of transition or a systematic campaign?

Farhat Khedr
Farhat Khedr Published on: 11 Mar, 2025
Trump and the Closure of USAID: A Candid Conversation on "Independent Media"

The impact of U.S. President Donald Trump's decision to halt foreign funding through the U.S. Agency for International Development (USAID) on Arab media platforms has largely gone undiscussed. Some of these platforms have consistently labelled themselves as "independent" despite being Western-funded. This article examines the reasons behind the failure of economic models for Western-funded institutions in the Arab world and explores the extent of their editorial independence.

Ahmad Abuhamad Published on: 9 Mar, 2025
The Sharp Contrast: How Israeli and Western Media Cover the War on Gaza

Despite being directly governed by Israeli policies, some Israeli media outlets critically report on their government’s actions and use accurate terminology, whereas Western media has shown complete bias, failing to be impartial in its coverage of Israel’s aggression in Gaza.

Faras Ghani Published on: 5 Mar, 2025
International Media Seek Gaza Access; What Do Palestinian Journalists Say?

As international media push for access to Gaza, Palestinian journalists—who have been the primary voices on the ground—criticize their Western counterparts for failing to acknowledge their contributions, amplify their reports, or support them as they risk their lives to document the war. They face systemic bias and exploitation, and continue to work under extreme conditions without proper recognition or support.

NILOFAR ABSAR
Nilofar Absar Published on: 26 Feb, 2025
Journalism and Artificial Intelligence: Who Controls the Narrative?

How did the conversation about using artificial intelligence in journalism become merely a "trend"? And can we say that much of the media discourse on AI’s potential remains broad and speculative rather than a tangible reality in newsrooms?

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 23 Feb, 2025
The Whispers of Resistance in Assad’s Reign

For more than a decade of the Syrian revolution, the former regime has employed various forms of intimidation against journalists—killing, interrogations, and forced displacement—all for a single purpose: silencing their voices. Mawadda Bahah hid behind pseudonyms and shifted her focus to environmental issues after a "brief session" at the Kafar Soussa branch of Syria’s intelligence agency.

Mawadah Bahah
Mawadah Bahah Published on: 18 Feb, 2025
Culture of silence: Journalism and mental health problems in Africa

The revealing yet underreported impact of mental health on African journalists is far-reaching. Many of them lack medical insurance, support, and counselling while covering sensitive topics or residing in conflicting, violent war zones, with some even considering suicide.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 13 Feb, 2025
Tweets Aren’t News: Why Journalism Still Matters

Twitter, once key for real-time news, has become a battleground of misinformation and outrage, drowning out factual journalism. With major newspapers leaving, the challenge is to remind audiences that true news comes from credible sources, not the chaos of social media.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 10 Feb, 2025
Will Meta Become a Platform for Disinformation and Conspiracy Theories?

Meta’s decision to abandon third-party fact-checking in favor of Community Notes aligns with Donald Trump’s long-standing criticisms of media scrutiny, raising concerns that the platform will fuel disinformation, conspiracy theories, and political polarization. With support from Elon Musk’s X, major social media platforms now lean toward a "Trumpian" stance, potentially weakening global fact-checking efforts and reshaping the online information landscape.

Arwa Kooli
Arwa Kooli Published on: 5 Feb, 2025
October 7: The Battle for Narratives and the Forgotten Roots of Palestine

What is the difference between October 6th and October 7th? How did the media distort the historical context and mislead the public? Why did some Arab media strip the genocidal war from its roots? Is there an agenda behind highlighting the Israel-Hamas duality in news coverage?

Said El Hajji
Said El Hajji Published on: 21 Jan, 2025
Challenges of Unequal Data Flow on Southern Narratives

The digital revolution has widened the gap between the Global South and the North. Beyond theories that attribute this disparity to the North's technological dominance, the article explores how national and local policies in the South shape and influence its narratives.

Hassan Obeid
Hassan Obeid Published on: 14 Jan, 2025
Decolonise How? Humanitarian Journalism is No Ordinary Journalism

Unlike most journalism, which involves explaining societies to themselves, war reporting and foreign correspondence explain the suffering of exoticised communities to audiences back home, often within a context of profound ignorance about these othered places. Humanitarian journalism seeks to counter this with empathetic storytelling that amplifies local voices and prioritises ethical representation.

Patrick Gathara
Patrick Gathara Published on: 8 Jan, 2025
Mastering Journalistic Storytelling: The Power of Media Practices

Narration in journalism thrives when it's grounded in fieldwork and direct engagement with the story. Its primary goal is to evoke impact and empathy, centering on the human experience. However, the Arab press has often shifted this focus, favoring office-based reporting over firsthand accounts, resulting in narratives that lack genuine substance.

AJR logo
Zainab Tarhini Published on: 7 Jan, 2025
I Resigned from CNN Over its Pro-Israel Bias

  Developing as a young journalist without jeopardizing your morals has become incredibly difficult.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 2 Jan, 2025
Digital Colonialism: The Global South Facing Closed Screens

After the independence of the Maghreb countries, the old resistance fighters used to say that "colonialism left through the door only to return through the window," and now it is returning in new forms of dominance through the window of digital colonialism. This control is evident in the acquisition of major technological and media companies, while the South is still looking for an alternative.

Ahmad Radwan
Ahmad Radwan Published on: 31 Dec, 2024
Independent Syrian Journalism: From Revolution to Assad's Fall

Independent Syrian journalism played a pivotal role in exposing regime corruption and documenting war crimes during the 13-year revolution, despite immense risks to journalists, including imprisonment, assassination, and exile. Operating from abroad, these journalists pioneered investigative and open-source reporting, preserving evidence, and shaping narratives that challenged the Assad regime's propaganda.

Ahmad Haj Hamdo
Ahmad Haj Hamdo Published on: 17 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
Challenging the Narrative: Jeremy Scahill on the Need for Adversarial Journalism

Investigative journalist Jeremy Scahill calls for a revival of "adversarial journalism" to reinstate crucial professional and humanitarian values in mainstream Western media, especially regarding the coverage of the Gaza genocide.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 10 Nov, 2024
Freedom of the Press in Jordan and Unconstitutional Interpretations

Since the approval of the Cybercrime Law in Jordan, freedom of opinion and expression has entered a troubling phase marked by the arrest of journalists and restrictions on media. Musab Shawabkeh offers a constitutional reading based on interpretations and rulings that uphold freedom of expression in a context where the country needs diverse opinions in the face of the Israeli ultra right wing politics.

Musab Shawabkeh
Musab Al Shawabkeh Published on: 8 Nov, 2024
Voting in a Time of Genocide

The upcoming U.S. presidential election occurs against the backdrop of the ongoing genocide in Gaza, with AJ Plus prioritising marginalised voices and critically analysing Western mainstream media narratives while highlighting the undemocratic aspects of the U.S. electoral system.

Tony Karon Published on: 22 Oct, 2024