مثل العديد من المهن تواجه الصحافة تطورًا لا هوادة فيه في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي يبدو أنها على وشك الاستحواذ على المهارات البشرية، خاصة تلك التي تنطوي على الإبداع والتعبير. لذلك من الطبيعي أن تشعر بالخوف. ومع ذلك، فقد أظهر لنا التاريخ أن الثورات التكنولوجية تخلق أيضًا فرصًا. قد تقلل التطورات التكنولوجية من الحاجة إلى الوظائف السابقة، لكنها لا تلغيها بالضرورة؛ ومفتاح البقاء هو التكيف. المطبعة لم تقض على الكَتَبَة، ولا الإذاعة أفنت الجرائد، التلفزيون بكل عظمته لم يوقف الإذاعة، وثورة الإنترنت لم تلغ كل وسائل الإعلام التقليدية. يتطلب كل تقدم جديد التعلم والتكيف والتطور، وهذا المد التكنولوجي الجديد لا يختلف. في هذه المقالة، سوف نستكشف الجوانب الإنسانية التي ستظل حاسمة في الصحافة وكيف يمكننا تحقيق أقصى استفادة من التغييرات التي تأتي في طريقنا مع ثورة الذكاء الاصطناعي.
قد تقلل التطورات التكنولوجية من الحاجة إلى الوظائف السابقة، لكنها لا تلغيها بالضرورة؛ ومفتاح البقاء هو التكيف.
قوة التعاطف
في الوقت الحالي، لا يمكن للذكاء الاصطناعي، مهما كان متطورًا، أن يحلّ محلّ قدرة الإنسان على التعاطف مع البشر الآخرين أو قدرة الصحفيين على نقل ما يلامسهم ويؤثر عليهم أثناء تواصلهم مع أبطال قصصهم. يتيح الحس البشري للصحفيين فهم تجاربهم واحترامها ونقلها بشكل حقيقي وإنساني لقرائهم وجمهورهم. التعاطف هو عدسة نرى العالم من خلالها. تمكننا تجاربنا الإنسانية من ألم وحزن وخوف وسعادة وأمل، أن نلتمس تجارب ومشاعر الآخرين ونجسّدها في قصصنا. قدرتنا على التعاطف وفهمنا للمواقف هو ما يمكننا من سرد القصص بإنسانية وترك صدى عميق على المستوى الإنساني. التعاطف هو أيضًا الدافع الذي يوجّهنا نحو قصة معينة ويجعلنا نصرّ على سردها.
ويُقدّر صحفيون مثل نيكولاس كريستوف، الحائز على عدد من الجوائز بما فيها جائزة بوليتزر للصحافة، لتغطيته الصحفية المتعاطفة التي يلقي الضوء فيها على قضايا حقوق الإنسان العالمية والظلم الاجتماعي، من الاتجار بالبشر إلى عدم المساواة والفقر. لا يمكن للذكاء الاصطناعي، مهما كان متقدماً، أن يلمس ويعبّر عن التعاطف البشري. إنه الفرق بين النص الجاف والقصة التي تمس القلوب وتغيّر العقول.
على الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة كمية هائلة من البيانات بسرعة غير مسبوقة والمساعدة في التحقق من صحة المعلومات أو زيفها إلا أنه يفتقر إلى القدرة البشرية على التحليل ووضع السياق والاستدلال.
الحاجة إلى التفكير النقدي، وفهم السياق، والقدرة على التشكيك
لا يقتصر دور الصحفيين على سرد المعلومات فحسب، بل في تحليلها والتحقق منها وتفسيرها. يتم تعزيز هذا التفكير النقدي بشكل أكبر مع القدرة على تأطير الموقف وربط أحداث تبدو منفصلة لإنتاج تحليل وتفسير منطقي للأحداث. تمكننا هذه الجوانب البشرية من التساؤل والتحقيق وتقديم وجهات النظر الدقيقة وإنتاج تغطية معمقة. وعلى الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي معالجة كمية هائلة من البيانات بسرعة غير مسبوقة والمساعدة في التحقق من صحة المعلومات أو زيفها إلا أنه يفتقر إلى القدرة البشرية على التحليل ووضع السياق والاستدلال.
في عصر التحميل الفائض للمعلومات، المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي، والأخبار الشائعة والشعبوية، والأخبار سريعة الانتشار التي تطلقها الخوارزميات، أصبحت القدرة على تمييز الحقيقة من المعلومات المضللة والمغلوطة، والتنقيب في الضوضاء والعثور على معلومات ذات مغزى، أكثر أهمية من أي وقت مضى. إن قدرة الإنسان على التفكير النقدي هي ما تسمح لنا بالتشكيك والتحقق في المعلومات المتدفقة، وتحدي الافتراضات، وتقديم وجهات نظر متوازنة ودقيقة. إنه ما يميزنا نحن الصحفيين عن محتوى تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي المُدرَّب على جميع أنواع المعلومات، بما في ذلك المعلومات المضللة الموجودة في فضاء الإنترنت والمتأثرة بالخوارزميات.
يمكن برمجة الذكاء الاصطناعي للعمل ضمن قواعد معينة، لكنه يفتقد إلى القدرة على إصدار أحكام وقرارات أخلاقية في المواقف الحساسة.
العمل بنزاهة أخلاقيات العمل
إن مدونة أخلاقيات الصحافة هي حجر الأساس في مهنتنا. مبادئ مثل الصدق والإنصاف، والدقة والحياد، والمساءلة والموضوعية القائمة على الحقائق، واحترام وحماية المصادر، هي المعايير التي توجه عملنا. الأخلاق قيمة إنسانية بطبيعتها تكسبنا ثقة جمهورنا ومصداقية مهنتنا.
يمكن برمجة الذكاء الاصطناعي للعمل ضمن قواعد معينة، لكنه يفتقر إلى القدرة على إصدار أحكام وقرارات أخلاقية في المواقف الحساسة. فمثلاً عند حادثة تسريبات أوراق البنتاغون من قبل دانيال إلسبرغ، وتسريبات برقيات الدبلوماسية لويكيليكس بواسطة جوليان أسانج، وتسريبات إدوارد سنودن حول تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكي وجمع كل المحادثات والبيانات الخاصة في الفضاء الرقمي، اتخذت وسائل الإعلام المستقلة قرارات أخلاقية صعبة، ونشرت ما تم الكشف عنه في الوثائق رغم سريتها لمحاسبة الحكومة الأمريكية على جرائم الحرب التي ارتكبتها ولتعزيز مبدأ الشفافية تجاه المواطن. في الوقت الحالي، لن يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على فهم سياق وتعقيدات مثل هذه المواقف، ولن يكون قادرًا على اتخاذ قرارات أخلاقية كهذه إذا كانت تنافي قواعد البرمجة. ولكن يكون بإمكان الذكاء الاصطناعي في تقدير اعتبارات مثل الضرر المحتمل، والمصلحة العامة، والحق في الخصوصية.
ومع ذلك، يجب أن نعترف بوجود فوارق في ثقة القارئ أو المشاهد، التي تختلف من وسيلة إعلامية إلى أخرى ومن صحفي لآخر. الصحفيون مسؤولون عن عملهم أمام الجمهور والقانون، يتم تدريبهم على الدقة والتحقق من صحة المعلومات التي يحصلون عليها، ويُتوقع منهم تصحيح أخطائهم ومواجهة عواقب أي سوء سلوك أخلاقي. أما عندما ينشئ الذكاء الاصطناعي، محتوى خاطئا أو مضللا، فإنه لا يأخذ العِبرة من أخطائه ولا يتحمل مسؤولية أخطائه أو الأذى الذي يسببه.
كصحفيين، يمكننا التعرف على التحيزات التي تواجهنا والسعي لإنتاج تقارير عادلة. وعندما نصادف معلومات مضللة أو تحريفات للمجتمعات المحرومة، توجب علينا أخلاقيات العمل الصحفي أن تكون تقاريرنا منصفة لهم. أما الذكاء الاصطناعي فيمكن برمجته على تجنب تحيزات معينة؛ ولكن لا يمكنه تفادي التحيزات الاجتماعية المنعكسة في البيانات التي تم تدريبه عليه أساساً. فمثلاً، يمكن أن يكون المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي يعكس عدم المساواة بين المرأة والرجل في مجموعة البيانات الأصلية، ما يمكنه أن يؤثر سلبًا على الأشخاص غير الممثلين بشكل عادل في البيانات، حيث يعيق التمييز تكافؤ الفرص ويؤدي إلى استمرار الظلم والتحيز والاضطهاد في مخرجاته.
على سبيل المثال، مجتمعنا العربي يلمس بشكل واضح وصريح تحيز الغرب وتحريفه للوقائع في القضايا العربية، وخاصة لقضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتفضيله للسردية الإسرائيلية لرواية الأحداث. ونظراً لأن برامج نماذج اللغات الكبيرة Large Language Models LLM دُرّبت على مليارات الكلمات المشتقة من المقالات والكتب والمحتويات الأخرى المستندة إلى الإنترنت، لأن اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة على الإنترنت، سواء من حيث عدد المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام الإخبارية أو المواد الأكاديمية والتعليمية (في بعض التقديرات، 63.7٪ من جميع محتويات شبكة الويب العالمية باللغة الإنجليزية. في أوروبا، يمثل المحتوى باللغة الإنجليزية حوالي 70٪ من جميع مواقع الويب، بينما في آسيا، يقترب من 40٪.)، يمكننا أن نستشعر التحيز ضد القضية الفلسطينية في المواضيع الحساسة (مثل نظام الفصل العنصري و"الإرهاب") على برامج مثل ChatGPT وBard وBing باللغة الإنجليزية.
الذكاء الاصطناعي يمكن برمجته على تجنب تحيزات معينة؛ ولكن لا يمكنه تفادي التحيزات الاجتماعية المنعكسة في البيانات التي تم تدريبه عليه أساساً.
القدرة على التكيف
ظل مشهد الإعلام الإخباري يتغير باستمرار، واستطاع الصحفيون التكيف مع التغييرات التكنولوجية من المطبعة إلى الإنترنت. وتتطلب المواقف الجديدة تغييرًا سريعًا في المهنة مثل التغطيات المباشرة للوقائع والحروب، واكتساب الصحفيين السريع لمهارات جديدة لتقديم التقارير المطلوبة في هذه الظروف. فمثلاً، في جائحة كوفيد-19، كان على الصحفيين أن يكتسبوا بسرعة أحدث المعلومات الطبية وكيفية المحافظة على سلامتهم أثناء تغطيتهم للأزمة. فقدرتنا على التأقلم في مواجهة التغيير جعلت من مهنتنا أكثر تنوعًا وملاءمة. ثورة الذكاء الاصطناعي هي واحدة من هذه التغيرات. إنها فرصة للمعرفة وتعلم كيفية استخدام أدوات توفير الوقت. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الصحفيين على التدقيق في الكم الهائل من المعلومات وبالبيانات، واكتشاف الأخبار والمحتوى المزيف، إلى جانب العثور على المصادر وجهات الاتصال، وإعداد مواضيع للتقارير القادمة.
فن السرد القصصي
الصحافة في الأساس شكل من أشكال سرد القصص. يتعلق الأمر بتحويل المعلومات والوقائع والشهادات إلى روايات تقدم المعلومات ويتردد صداها لدى الجمهور ويلهمه. يسمح لنا التواصل البشري والفهم العاطفي بالتواصل مع الأشخاص الذين نريد سرد قصصهم. يبني الصحفيون علاقات ثقة مع مصادرهم مع مرور الوقت، ونتيجة لذلك، يمكنهم الوصول إلى معلومات قد لا يحصلون عليها بطرق أخرى، وهو أمر لن يتمكن الذكاء الاصطناعي من القيام به في شكله الحالي. قد يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يُنشئ محتوى أو أن يقلد أسلوب رواية بعض المشاهير، لكنه لا يزال يفتقر إلى القدرة على سرد قصة بطريقة دقيقة مع صدى عاطفي.
علاوة على ذلك، فإن التعبير البشري عن حواسهم الخمس له أهمية هائلة في سرد القصص. عندما نصف منطقة نزاع من خلال رائحة الدم أو الأشلاء، أو عندما نرى السعادة في الأشخاص المبتهجين في الاحتفالات، فإننا نشارك شيئًا لا يفهمه سوى البشر. السرد القصصي هو مهارة مخيلة مكتسبة تحول المعلومات إلى فهم والأخبار إلى معرفة. يصف خبير الصحافة الرقمية بول برادشو أدوات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT بأنها "رواة غير موثوقين، وأولويتهم هي القصص المعقولة وليس الحقيقية" في إشارة إلى عيوب "الهلوسة" أو المعلومات المختلقة لدى برامج نماذج اللغات الكبيرة LLM.
الحدس وقدرة إجراء مقابلات متعمقة
أثناء إجراء مقابلات متعمقة، غالبًا ما يحتاج الصحفيون إلى طرح أسئلة متابعة أو تلقائية، فهم يستشعرون من خلال قراءته لغة الجسد توجه المقابلة، ويتخذون قرارتهم بشأن تعديل أسئلتهم ونهجهم وفقًا للإجابات. هناك طبقة إضافية لهذا الحدس والقدرة على فهم الموضوع؛ وهو القدرة على فهم لغة الجسد المصبوغة بالثقافة المحلية. هذه القدرة على "قراءة الهواء" كما نسميها باللغة اليابانية، أو "جس النبض" باللهجة اللبنانية، هي حدس بشري بحت، وثروة قيمة في عملية الاتصال البشري. يمكن برمجة ذكاء اصطناعي متطور لقراءة نبض الإنسان حرفيًا وتحليل مدى راحة أو عدم راحة الشخص، لكن الحدس ليس شيئًا قادرًا عليه.
خاتمة
بينما ننتقل إلى عصر الذكاء الاصطناعي، ستظل صفاتنا البشرية ضرورية بشكل مستمر في الصحافة. إن الذكاء الاصطناعي لا يزال غير قادر على الشعور وتحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الأخلاقية ووضع السياق والتدقيق وقراءة لغة الجسد ورواية القصص، وهي المهارات التي تشكل جوهر الصحافة كمهنة. إنما السباق الحقيقي اليوم هو بين البشر. أولئك الذين يتأقلمون بسرعة ويتعلمون كيفية استخدام العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي المفيدة لمهنتهم سيختبرون الانتقال السلس إلى المرحلة التالية. لقد أثبت الصحفيون أنهم من بين الأوائل الذين تمكنوا من التغيّر والتكيّف في العصور السابقة، والآن سيحتاجون بشكل خاص إلى قدرات الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تحديد المعلومات المضللة المتزايدة والأخبار المزيفة.
لم تضع الحكومات والمنظمات الدولية بعد قواعد الاستخدام الأخلاقي للمحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي؛ لذا فإن الأمر متروك لنا نحن الصحفيين لمواجهة المد الجديد بنزاهة أخلاقية والتفكير النقدي، ودعم قيم المساءلة، الصدق والإنصاف، ونحن نخطو نحو المشهد الإعلامي الجديد.