من الشائع القول إن وسائل الإعلام الأمريكية طالما كانت مؤيدة لإسرائيل، في جولات الصراع بينها وبين العرب سابقاً، في حين كانت وسائل الإعلام الأوروبية - ولاسيما الفرنسية - أكثر انتقادًا لإسرائيل نسبيًا. يواجه هذا الانطباع، الذي يملك نوعاً من الوجاهة، انقلاباً جذرياً، منذ هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في فلسطين. لقد أصبحت وسائل الإعلام الأوروبية، وخاصة في فرنسا وألمانيا، متقدمةً على نظيرتها الأنغلوساكسونية بأشواط في الانحياز للسردية الإسرائيلية خلال تغطيتها للصراع. وهذا الحكم، ليس صادراً عن متابع عربي مقيم في فرنسا، أو عن متعاطف مع القضية الفلسطينية، بل أصبح مزاجاً يعبر عنه حتى المتخصصون الإسرائيليون في الإعلام، وهو الرأي الذي لم يتردد في التعبير عنه جيروم بوردون مؤرخ الإعلام وأستاذ علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، ومؤلف كتاب "القصة المستحيلة: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووسائل الإعلام" (INA/De Boeck, 2009)، الذي وصف التغطية الجارية بــ" الشيء الغريب".
يجد هذا التحول، النسبي في تغطية وسائل الإعلام الفرنسية الشديدة الانحياز لإسرائيل، الكثير من الذرائع، الإنسانية والسياسية، ولكنه لا ينفي أن وسائل الإعلام المهيمنة (وسائل الإعلام التلفزيونية أساساً) كانت قد بدأت في سلوك مسارات الانحياز منذ وقت طويل، وتحديداً منذ حرب 2009، وقد واصلت في حرب 2014 التموضع المنحاز لتغطيتها بشكل أكثر وضوحاً. وقد تجلى الانحياز اليوم في أشكال متعددة لا تتعلق بالتعليق السياسي والتحليل المنحاز المبتور عن سياقات تاريخية وجيوسياسية يقع إنكارها، بل وصل الأمر إلى الخبر، حيث شهدنا تطبيعاً مع الأخبار الزائفة، وأحادية المصادر الإسرائيلية، إلى جانب العبث بكل قواعد التوازن في التغطية بين جانبي الصراع.
الخبر حرّ والتعليق مقدس
يوجد دائما إجماع بين الصحفيين على الحاجة إلى قول الحقيقة، لكن في الوقت نفسه فإنهم أقل ميلاً إلى إيجاد تعريف مشترك لماهية الحقيقة الصحفية. إن الرغبة في معرفة الحقيقة، التي هي جوهر هذه المهنة كما أريد لها أن تكون، يتم تقويضها من خلال تكاثر مصادر المعلومات التي تجعل الإستراتيجيات والإجراءات الخاصة بتجميع المعلومات وفحصها والتحقق منها والتحقق من صحتها أكثر أهمية؛ لذلك يبدو أنه بدلاً من الحياد والموضوعية، بوصفهما وهميّين نظريّين في عالم الصحافة، يجب على المشتغل بهذه المهنة أن يتحرى الحقيقة الموضوعية ويقدمها، ثم يمكن له أن يضع حولها نوازعه الذاتية، بوصفه إنساناً قبل أن يكون صحافياً.
تغطية المأساة في غزة أصبحت يقودها المنطق الإغاثي، حيث لم تتحدث وسائل الإعلام إلا قليلاً عن جذور المشكل الاستعمارية، بقدر ما حصرت المشكل في المسألة الإغاثية الإنسانية.
تبدو هذه البداهة غائبةً اليوم في تغطية وسائل الإعلام الفرنسية لما يجري في غزة. الخبر لم يعد حراً، حيث رصدنا منذ اليوم الأول للصراع ترويجاً للأخبار الزائفة، المستوردة من وسائل إعلام أمريكية تتعلق بـــ "أعمال وحشية" اقترفها الفلسطينيون، وكذلك أخباراً مبتورةً، تتعلق أساساً بهجوم من جانب واحد هو المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل. وكذلك بمصادر أحادية لجميع المعلومات المتداولة وهو الجانب الإسرائيلي، سواءً تعلق الأمر بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، صاحبة النصيب الأكبر من الحظوة، أو بوسائل إعلام إسرائيلية.
هذا الخبر المكبل بأحادية المصادر وبالوقائع الزائفة، أوجد مناخاً ملوثاً من التحليلات والتعليقات السياسية المنحازة للجانب الإسرائيلي، التي تؤدي دوراً قوياً - أكثر تأثيراً من الأخبار - في صناعة الرأي العام. واللافت أن هذه التعليقات – شديدة الذاتية وسطحية المعالجة – جعلت من التعليق مقدساً، وفي مرتبة فوق الخبر، كما نلاحظ في النقاط التالية:
· أولاً، منذ اللحظة الأولى للحرب تشكل مشهد المعلقين في وسائل الإعلام الفرنسية السائدة – وخاصة التلفزيونية والصحف الكبرى – من محللين سياسيين يعيدون إنتاج السردية الإسرائيلية للصراع في أشكال مختلفة، بعضها أمني وبعضها قانوني وبعضها إنساني وبعضها تاريخي.
· ثانياً، غاب تماماً عن هذا المشهد الصوت الفلسطيني، أو أصوات ناقدة لإسرائيل، وهو ما يضع توازن التغطية على محك الانحياز. وحتى في الحالات القليلة، التي حاول فيها المعلقون التحلي ببعض التوازن ونقد الجانب الإسرائيلي، لاحظنا حالة من "رهاب فلسطين" عبرّ عنها معلقون آخرون أو حتى مقدمو البرامج ضد هذه الأصوات الناقدة الخجولة.
· ثالثاً، يقوم التحليل أو التعليق السياسي على مبادئ صحافة الرأي في كونه حراً يعبر عن موقف صاحبه، لكنه في الوقت نفسه يجب أن يقوم على معطيات موضوعية وعلى سعة أفق وثقافة صاحب التحليل، التاريخية والجيوسياسية، ومعرفته بموضوع التعليق. لكن الملاحظ فيما يكتب في الصحف الفرنسية السائدة وما يصدر عن معلقي القنوات التلفزيونية - سطحية التحليلات والتعليقات - التي تعبر عن فقر معرفي وثقافي لأصحابها، وكذلك اعتماد أغلبها على معطيات صادرة عن الجانب الإسرائيلي، وبالتالي يصب أغلبها في التحليل النهائي في صالح الرواية الإسرائيلية للحرب.
· رابعاً، بقدر ما عبرت أغلب التحليلات عن سطحية في المعالجة، إلا أن هذه السطحية تبدو مطلوبةً في ذاتها. حيث قامت استراتيجية التغطية الإعلامية الفرنسية منذ اللحظة الأولى من الحرب، على عزل اللحظة عن سياقها السياسي وعن جذورها التاريخية، وكذلك عزلها عما تبعها من الأحداث. حيث أصبح الحديث في أغلب وسائل الإعلام والصحف عن هجوم مقاتلي حركة حماس في الداخل الإسرائيلي، بوصفه "هجوماً إرهابياً" دون تحليل خلفياته ودوافعه وجذوره التاريخية التي تمتد إلى ما قبل سبعة عقود. وكذلك عزله عن اللحظة اللاحقة، لـ "الجرائم" التي ارتكبتها إسرائيل في حق سكان قطاع غزة. وبالتالي أصبح لديها "خبر معلق في الهواء" تنطلق منه التغطية وتعود إليه تحليلاً وتعليقاً، من خلال تكرار لمفردات من نوع "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس "، و"الحرب على الإرهاب" وغيرها من التراكيب التي تعزز من حالة الانحياز العاطفي للجانب الإسرائيلي. في تجاهل تام حتى للتعليقات العنصرية الإسرائيلية، وأبرزها وصف يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، الفلسطينيين بــ "الحيوانات".
فتّش عن المال
شكلت لحظة قصف المستشفى المعمداني في غزة مساء 17 أكتوبر/ تشرين الأول، نقطة تراجع نسبية في وسائل الإعلام الفرنسية، وخاصة في الصحف الكبرى. رغم أنه منذ شيوع أخبار عن الهجوم، شرعت في تداول الرواية الإسرائيلية حول الحادثة، ولكن الرأي العام الفرنسي أصبح أكثر انتباهاً إلى أن الردّ الإسرائيلي قد تجاوز كل الحدود. ورغم هذا التحول النسبي، إلا أن تغطية المأساة في غزة أصبحت يقودها المنطق الإغاثي، حيث لم تتحدث وسائل الإعلام إلا قليلاً عن جذور المشكل الاستعمارية، بقدر ما حصرت المشكل في المسألة الإغاثية الإنسانية.
الخبر المكبل بأحادية المصادر وبالوقائع الزائفة، أوجد مناخاً ملوثاً من التحليلات والتعليقات السياسية المنحازة للجانب الإسرائيلي، التي تؤدي دوراً قوياً في صناعة الرأي العام. واللافت أن هذه التعليقات السطحية جعلت من التعليق مقدساً، وفي مرتبة فوق الخبر.
يعتقد جيروم بوردون أن سبب هذا الانحياز الفجّ خلال هذه الجولة من الصراع في فلسطين داخل وسائل الإعلام الفرنسية هو "الصدى مع المحرقة". إن لعبة المقارنة دائمًا ما تكون معقدة، لكن هذه المرة، المدنيون هم الذين يُذبحون، وليس الجنود. وهذا أثر حتماً أكثر وسحب الغطاء نحو إسرائيل. لقد جرت العادة على التلاعب بهذه المقارنة من قبل السلطات الإسرائيلية، لكنها جاءت هنا من مكان آخر". رغم وجاهة هذا الدافع، إلا أن عاملاً أساساً آخر يمكن أن يضيء منطقة مظلمة حول هذه التغطية وهو التركّز الشديد لوسائل الإعلام الفرنسية السائدة في يد المجموعات المالية الاحتكارية، حيث كان واضحاً منذ بداية الحرب أن التغطية الأكثر انحيازاً كانت على شاشات وصفحات وسائل الإعلام الخاصة، أكثر من وسائل الإعلام المملوكة للدولة، رغم موقف الدولة المنحاز تماماً للجانب الإسرائيلي. هذا العامل الاقتصادي المحدد، يكشف أيضاً عن الدور المحوري الذي يؤديه العامل الاقتصادي للإعلام في النزاعات الجيوسياسية. ويكشف كذلك عن تحول جذري في المشهد الإعلامي الفرنسي، الذي يغادر منطق احتكار الدولة نحو نسخة أمريكية تقوم على نيوليبرالية إعلامية شديدة الفجاجة.
صحافة الذُعرّ
الملمحّ الآخر للتغطية الفرنسية الإعلامية للصراع في الشرق الأوسط، هو تطبيق إستراتيجيات انعكاسية للربط بين ما يجري في فلسطين وما يجري في فرنسا. قد يبدو الأمر غريباً، من منطق الجغرافيا السياسية، ولكنه يعمل بشكل جيد في عقل المتابع الفرنسي. فقد تزامن اندلاع الصراع في غزة مع هجمات مسلحة شهدتها فرنسا، راح ضحيتها أستاذ تعليم ثانوي على يد متطرف من أصل أنغوشي (روسي)، وهجوم آخر في العاصمة البلجيكية بروكسل تبناه تنظيم الدولة الإسلامية. لذلك لعبت وسائل الإعلام لعبة الربط بين هذه الهجمات، وما خلفتها من حالة ذعر داخل المجتمع، وما يجري في فلسطين، لكي تصوغ خطابها المنحاز للرواية الإسرائيلية.
يقدم الصراع أنه ثنائي بين إسرائيل وحركة حماس، دون أي حديث عن الشعب الفلسطيني، ثم يقع تقديم حماس بشكل عام على أنها منظمة إرهابية مثل "داعش التي تضرب في كل مكان". وبمجرد أن توضع هاتان الفكرتان، تنتهي المناقشة، دون النظر في الواقع الأشد تعقيداً من هذه الفكرة البسيطة.
قام هذا الخطاب على فكرة بسيطة وهي أن "الإرهاب الإسلاموي العالمي يضرب في كل مكان، في إسرائيل وفرنسا وبلجيكا"، طبعاً دون الحديث عن الهجوم الذي أودى بحياة طفل فلسطيني في شيكاغو ونفذه متطرف يميني أمريكي في الوقت نفسه. يقدم الصراع على أنه صرع ثنائي بين إسرائيل وحركة حماس، دون أي حديث عن الشعب الفلسطيني، ثم يقع تقديم حماس بشكل عام على أنها منظمة إرهابية شأنها شأن داعش التي تضرب في كل مكان. وبمجرد أن توضع هاتان الفكرتان، تنتهي المناقشة، دون النظر في الواقع الأشد تعقيداً من هذه الفكرة البسيطة. لكن هذه الفكرة تجد صدى واسعا لدى الرأي العام، متضافرةً مع أفكار عديدة تدور حول الإسلام والأجانب والهجرة، دأبت وسائل الإعلام الفرنسية على ترويجها خلال السنوات الماضية، بدفع من خطاب السلطة السياسية، الذي يرفع شعار مكافحة الإرهاب والحد من الهجرة. ولكن بدفع أكبر من تيار اليمين المتطرف، ذلك أن جزءاً من مسار احتكار المجموعات المالية الكبيرة لوسائل الإعلام السائدة، يتضمن سيطرة بعض هذه المجموعات ذات النزوع اليميني المتطرف على قنوات وصحف ومجلات، لعل أبرزها "مجموعة بولوريه"، لصحابها الملياردير فانسان بولوريه، الذي لا يخفي دعمه لليمين المتطرف.