لم تشهد الصحافة، ولا جموع الصحفيين في فلسطين وخارجها، مثيلا لمسيرة وسيرة كما هو الحال بالنسبة للزميل العزيز وائل الدحدوح. ولم تشهد الإنسانية جمعاء غلا وحقدا وانتقاما من قبل دولة تجاه فرد صحفي بمثل ما استهدفت به إسرائيل وائل وعائلته. لقد تحول وائل الصحفي الإنسان إلى طود شامخ، وليس في تاريخ الصحافة والإعلام صحفي تناوبت عليه النائبات في حرب مجرمة كالحرب الإسرائيلية على غزة وظل واقفا على رجليه ينقل الحقيقة للناس وجعله صبره "أيوب فلسطين" مثل (أبو حمزة) وائل الدحدوح.
فقد وائل (أبو حمزة) زوجته وطفلته شام وابنه محمد وحفيده آدم وتسعة آخرين من أقربائه عندما استهدف القصف الإسرائيلي منزل أقرباء له لجأت إليه عائلته في مخيم النصيرات جنوبي القطاع من حي الزيتون في مدينة غزة شمالي القطاع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ظنا منها أنها لجأت إلى الأمن والأمان من ويلات الحرب الإسرائيلية.
ثم عاد وائل وفقد زميله المصور سامر أبو دقة، عندما كان برفقته في خان يونس، وكانا في مهمة صحفية يصوّران محاصرين في مدرسة، فاستُشهد سامر وأصيب وائل بجراح.
واستمر استهداف وائل وعائلته عندما قصف الجيش الإسرائيلي سيارة تقل نجله البكر حمزة مع زميله مصطفى، وأصيب سائق السيارة التي كانا فيها في حي مصبح شمال رفح، بينما كانوا عائدين من التصوير في شاليهات أبو النجا؛ العائلة التي فقدت 18 من أفرادها في قصف إسرائيلي.
كما استهدف الجيش الإسرائيلي عائلة الزميل محمد أبو القمصان فني البث في فريق الجزيرة، بينما كانت في منزلها في مخيم جباليا، واستشهد 18 من أفرادها، منهم والده.
واستهدف الجيش الإسرائيلي عائلة الزميل المنتج والمراسل في مكتب غزة مؤمن الشرافي؛ إذ استشهد 22 منهم في قصف منزل لأقرباء لهم لجؤوا إليه في جباليا.
وائل الإنسان، الأب المكلوم، والجد الحزين على حفيده الرضيع، والزوج الذي ترمل باكرا. وائل الصحفي الأيقونة، كان وسيظل ذخرا في إنسانيته ومهنيته لزملائه الصحفيين أينما وجدوا، ولشعبه، ولوسيلته الإعلامية شبكة الجزيرة بيته الثاني.
كان وائل في كل تلك المصائب التي ألمت به على مدار الأشهر الثلاثة الأولى من حرب إسرائيل على غزة يواري أعزاءه الثرى وقد شتتتهم حرب إسرائيل أحياء وأمواتا، ويعود ليقود زملاءه المنكوبين ويواصل التغطية من عين المكان ويخبر الناس بهول الفقد والكارثة له ولغيره.
وائل الإنسان، الأب المكلوم، والجد الحزين على حفيده الرضيع، والزوج الذي ترمل باكرا. وائل الصحفي الأيقونة، كان وسيظل ذخرا في إنسانيته ومهنيته لزملائه الصحفيين أينما وجدوا، ولشعبه، ولوسيلته الإعلامية شبكة الجزيرة.
كل من عرف وائل تعرف على أصالته وكرمه وتواضعه ومهنيته. لقد عرفته عندما اقترحتُه على الجزيرة مراسلا في 11 سبتمبر/ أيلول 2004، كنتُ قد التقيته قبل هذا التاريخ بقليل في مدينة غزة. ولا أبالغ إذا قلت إنه ومن اللحظة الأولى كان لافتا بإنسانيته وعمله وعلمه. أدركت حينئذ أنه سيكون المتكأ الذي سنعتمد عليه في قادم الأيام. لم يخب أملنا به في واقعة أو موقعة. كان رجلا إنسانا بكل ما في الكلمة من معنى. كان مهنيا مسؤولا يُعتَدّ به، ولا يزال زميلا أهلا للثقة. لذلك؛ حمل كل أعباء المكتب والطاقم في غزة بعد الأيام السوداء للإخوة الأعداء عام 2007 حين تعذر عليّ الوصول الى غزة لمتابعة المكتب والطاقم بشكل مباشر، وأنيطت الصلاحيات الإدارية والمالية والتحريرية بـ(أبو حمزة)، وأصبح مديرا فعليا للمكتب والطاقم.
كنا، أنا وهو، نتندر في أحاديثنا الهاتفية -وما أكثرها!- بعد أن عز اللقاء من القهر على ما آلت إليه الأوضاع، كنت أردد على مسامعه: "الله ينصركم على بعض" ، كان يقهقه ويردد: "وعليكم "، مع العلم أن أيا منا لا يمت بصلة للمتقاتلين. كنا أبرياء من كل سجالاتهم واتهاماتهم التي لم يكلوا ولم يملوا في توجيهها لنا ولكل زملائنا. كنا نسخر من الواقع المرير الذي آل إليه الحال الفلسطيني بسبب الإخوة الأعداء وصراعهم على منافع سلطة غير موجودة.
قادني الشوق والواجب للقاء الطاقم، لم يكن ذلك ممكنا لأن الجيش الإسرائيلي حظر علي الدخول إلى غزة أسوة بكل صحفي يحمل بطاقة الهوية الإٍسرائيلية بعد سيطرة حركة حماس على السلطة في قطاع غزة، وذلك بعد أن تعرض صحفي إسرائيلي عربي من أبناء الطائفة المعروفية "الدروز" عمل لصالح شبكة CNN للاختطاف والحجز لبعض الوقت في غزة. وقد تكرم مدير قناة الجزيرة حينئذ السيد وضاح خنفر بترتيب سفر عودة وائل والزميلين سامر أبو دقة ووسام حماد -وكانا في دورة بالدوحة- عبر تركيا. اقتضى الترتيب أن ألتقيهم في إسطنبول، وهو ما كان بالفعل. التقينا بعد طول غياب.
كنا أبرياء من كل سجالاتهم واتهاماتهم التي لم يكلوا ولم يملوا في توجيهها لنا ولكل زملائنا. كنا نسخر من الواقع المرير الذي آل إليه الحال الفلسطيني بسبب الإخوة الأعداء وصراعهم على منافع سلطة غير موجودة.
كانت تلك المرة الأخيرة التي نلتقي بها مباشرة. هناك التقينا ورافقنا الزميل الراحل عمر خشرم تغمده الله بواسع رحمته، وها نحن نودع الزميل سامر أبو دقة أيضا ويودع وائل وغيره من الزملاء في مكتب غزة نحو 17% من أفراد عائلاتهم جراء العدوان الإسرائيلي الدامي على القطاع وأهله الفلسطينيين.
انضم وائل إلى طاقم الجزيرة في غزة. كان شابا يافعا لم يتجاوز عمره عمر بكره حمزة يوم استشهاده. ينحدر وائل من عائلة مناضلة قدمت للوطن كثيرا من الشهداء والشهيدات. هذا الغزي الأصيل كان كريما بكرم عائلته في حياته ومعيشته وعمله ومؤازرته لزملائه.
كانت مهنيته عالية. غطينا وبمشاركة الزميلة الشهيدة العزيزة شيرين أبو عاقلة والزملاء أطال الله في أعمارهم جيفارا البديري وإلياس كرام وسمير أبو شمالة وكل الزملاء والزميلات الأعزاء في مكتب فلسطين مرض الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ووفاته التراجيدية في شهري أكتوبر ونوفمبر 2004، والانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس عامي 2005 و2006، وقتال الإخوة الأعداء على سلطة معدومة السيادة، وقد حوصر خلالها وائل مع بقية الطاقم في مكتب الجزيرة في غزة جراء اشتباك بين مسلحي الفرقاء في المبنى نفسه الذي فيه مقرّ المكتب. وغطينا مع كل الزميلات والزملاء ومِن على جانبي الحدود بين غزة وإسرائيل انسحاب قوات هذه الأخيرة من أرض غزة العزة في يوليو/ تموز 2005، وقد كان وائل وطاقمه وإلى جانبه سمير أبو شمالة وهبة عكيلة وبقية الزملاء في غزة من داخل المناطق الفلسطينية في القطاع، وكذلك كانت شيرين وطاقمها نجوان سمري ونبيل مزاوي من داخل المستوطنات التي جلا عنها الاحتلال ومستوطنوه في قطاع غزة. بينما كنت أنا وطاقمي وإلياس وطاقمه وكذلك جيفارا البديري كل في موقعه من الجانب الآخر للحدود، وليعذرني بقية الزميلات والزملاء مع حفظ الأسماء والألقاب. غطينا كذلك عملية قُتِلَ فيها جنود وأُسِرَ الجندي شاليط عام 2006 من قبل كتائب القسام، وغطينا القصف الإسرائيلي الذي تلاها. غطى هذا الطاقم كل الحروب على غزة من حرب عام 2008 حتى حرب عام 2023. وحتى هذه الحرب التي لا تشبه حربا مثلها، غطاها فريق الجزيرة بكامل عناصره وكوادره في غزة والقدس ورام الله على امتداد البلاد وعرضها: من رأس الناقورة إلى رفح، ومن المطلة ومجدل شمس إلى إيلات. لقد وصلوا الليل بالنهار ليوصلوا الحقيقة إلى الناس.
حرب لا تشبه أي حرب قبلها شنتها إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب القسام في غلاف غزة وقتلت وأسرت فيها المئات من العسكر والمدنيين الإسرائيليين في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، العملية التي أذلت الجيش الذي لا يُقهَر وهشمت عقيدته.
أدمت الحرب قلوب الجميع، كان الكمد يفطر الكبد، لكن وائل كان من أكثر الناس صبرا ورباطة جأش؛ فقد فيها رفيقة دربه أم عياله واثنين من فلذات كبده وحفيده الرضيع، ثم فقد زميله المصور/منتج الصورة سامر -وهو زميله الذي سبقه إلى الجزيرة والشهادة- ثم فقد بكره حمزة. لقد دفعت ثلاثة أجيال من عائلته النووية أثمانا في هذه الحرب، ودمرت طائرات الـ F16 منزل عائلته بقصف جوي، ولم نتحدث هنا عن المعاناة النفسية إثر فقدان الزوجة والضنى والمعاناة الجسدية وتحمل الأعباء. وكان نصيب الزميل المتألق هشام زقوت أن يكون هو أول من يخبرني بهذه المآسي المتتالية. هكذا كان الأمر عندما استشهدت أم حمزة وابنها وابنتها وحفيدها، وهكذا كان الأمر عندما أصيب وائل ومعه الزميل سامر. وعملنا على مدار خمس ساعات مع الصليب الأحمر واتحاد الصحفيين الأجانب وكل طرف ممكن حتى تمكنا من الوصول إلى سامر الجريح لنجدته، لكنه كان قد فارق الحياة ونُقِل إلى مستشفى ناصر شهيدا.
لم تكن تلك المحنة الوحيدة في تاريخ وائل مع الجزيرة، هذه القناة التي يحدق الخطر بها وبالعاملين فيها، وكنا قبل ذلك قد اختبرنا الحسرة عندما فقدنا زميلتنا العزيزة شيرين أبو عاقلة في استهداف إسرائيلي عند مدخل مخيم جنين في الحادي عشر من مايو/ أيار عام 2022. لم تكن تلك مأساتنا الوحيدة ولا مآسي وائل وزملائه وعائلاتهم في غزة، لكنها ومن دون أدنى شك كانت أشدها قسوة ودموية وفقدا ووجعا له ولنا ولكل من عرفه ومن لم يعرفه عن قرب؛ فقد مر وائل ومررنا معه بتحديات ومحطات لم تكن سهلة. حوصر وائل وفريقه الذي ضم المنتج وسام حماد والمصور سامر أبو دقة من قبل دبابات الجيش الإسرائيلي في منطقة بيت لاهيا في شمال قطاع غزة خلال عملية توغل لجيش الاحتلال في حرب عام 2009. وحوصر أيضا بمعية طاقمه الذي ضم مصورا من شركة إنتاج تلفزيوني والزميلين المنتج وسام حماد والمساعد الفني محمد كسكين الذي أصيب في رأسه بمنطقة بيت حانون، وذلك خلال اقتحام قوات الاحتلال محيط معبر بيت حانون \ إيرز المدخل الشمالي الرئيس لقطاع غزة في الخامس من يوليو/ تموز 2006.
بلغ الخطر ذروته عندما اتصل بي وائل يخبرني بأن الجيش الإسرائيلي أخطر صاحب البرج الذي يقيم فيه مكتب الجزيرة في مدينة غزة ومكاتب صحفية أخرى بضرورة إخلائه خلال نصف ساعة لأنهم قرروا قصفه وتدميره، كان ذلك في حرب يونيو/ حزيران عام 2021، وهو ما كان بالفعل رغم كل الجهود لإلغاء القرار الخاطئ والظالم، "انهار البرج " قال وائل وكررها بصوت شجي عدة مرات على الهواء وفي بث حي على شاشة الجزيرة. كان البرج يهوي أمام الناظرين بعد أن قصفته الطائرات الحربية الإسرائيلية.
جاءت حرب إسرائيل على غزة التي اندلعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، وهي حرب دامية استخدمت فيها إسرائيل القوة الغاشمة دون رحمة ودون محرمات. إنها حرب انتقامية ليست ككل الحروب التي سبقتها. كنا على تواصل منذ لحظتها الأولى. كنا في كل مرة نُطمئِن بعضنا ونطمَئِنّ على الزملاء وعائلاتهم، وكنت دائما أحث وائل وأردد على مسامعه ومسامع بقية الزملاء -سواء في غزة أو على الحدود الإسرائيلية في غزة أو في شمالي الضفة الغربية أو في الجليل على الحدود مع لبنان- ضرورة توخي الحذر، وأؤكد على مسامع الجميع أن أمنهم وسلامتهم قبل كل شيء. عمل الجميع وفي طليعتهم أبو حمزة دون كلل أو ملل ونقلوا الحقائق للناس.
كعادتها كانت الجزيرة المرآة التي عكست حقيقة ما يجري على الأرض في هذه الحرب. كان وائل وزملاؤه هشام زقوت وهبة عكيلة ومؤمن الشرافي ينقلون من الميدان في غزة ويلات الحرب، وكان وائل كعادته وما يزال جبلا من جبال فلسطين الراسيات. جاءنا الخبر الصاعق عن استهداف الجيش الإٍسرائيلي لعائلته في المنزل الذي لجأت إليه في مخيم النصيرات جنوبي وادي غزة. قال المنادي -وكان الزميل هشام زقوت- وقد أجهش بالبكاء: "استشهدت أم حمزة وطفلاها محمود وشام ويبحثون عن البقية، لا تقل لوائل، لم يعلم بعد، سنأخذه ونذهب إلى هناك...".
عندما اشتدت الحرب تقصدتُ أن أعمل على إقناع وائل بالانتقال من البرج الذي يضم المكتب في مدينة غزة شمالي وادي غزة إلى جنوبي الوادي، كان يَعِد بذلك ويظل صامدا صابرا مؤمنا، لكنه اقتنع في النهاية، واستغرقت رحلة نزوحه -مع ثلاثة من أبنائه والزملاء الذين كانوا معه في المكتب في مدينة غزة إلى دير البلح وسط قطاع غزة- أكثر من أربع ساعات مضنية وطويلة إلى أن تم الاطمئنان عليه وعلى من معه. وصل وائل ومن معه إلى هناك وباشر العمل. والحقيقة أنه كان مرتاحا للترحاب الذي لقيه من الناس المنكوبين الذين قدروه وقدروا عمله وتضحياته، لكنه كأي نازح تم تهجيره قسرا من منزله وعائلته، كان يبحث عن قليل من الوقود وعن خيمة وخميرة للعجين وقليل من الحطب والطحين وبعض الماء الصالح للشرب. قال: نحن أصبحنا لاجئين في وطننا يا أبو بيسان. عاد وائل وقد طوى ألمه بين جانبيه، عاد ليمارس عمله ويدير الطاقم المشتت المكلوم يشارك في التغطية بكرم لافت ومهنية متألقة.
لكنه كأي نازح تم تهجيره قسرا من منزله وعائلته، كان يبحث عن قليل من الوقود وعن خيمة وخميرة للعجين وقليل من الحطب والطحين وبعض الماء الصالح للشرب. قال: نحن أصبحنا لاجئين في وطننا يا أبو بيسان.
لم يخب أملي بك أخي الذي لم تخلفه أمي (أبو حمزة). لا بل تفاجأت بك أهلا للثقة العمياء، أخا عزيزا، صديقا وفيا، زميلا متعاونا ودودا، راقيا عفيفا نظيفا متواضعا وصحفيا مهنيا متألقا. ولا أغالي إذا أطلقت على هذا الطود الشامخ لقب "أيوب فلسطين"؛ فما تحمله الرجل لا تتحمله الجبال، وكل ذنبه أنه صحفي عمل بضميره وإنسانيته ومهنيته ووطنيته بين أهله وناسه. لله درك يا أصيل يا ابن الأصلاء كم كنت عظيما في ألمك وأملك! ولا أجد ما أعزيك به أفضل وأقدس من قول رب العالمين في محكم كتابه "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون" صدق الله العظيم.