في صبيحة 7 أكتوبر عام 2023، أفضت هجمات المقاومة الفلسطينية، التي خلّفت 1,139 قتيلًا، إلى تجدد العمليات العسكرية الإسرائيلية وتصعيدها على نحو غير مسبوق، بيد أنّ التغطية الإعلامية الغربية أمعنت في التركيز على «المعاناة» الإسرائيلية وحق إسرائيل -وهي دولة احتلال- في "الدفاع عن النفس"، وغضّت عديد وسائل الإعلام الغربية السائدة الطرف عن السياق المهم للعمليات وتفاصيل الضحايا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مقتل مدنيين إسرائيليين بسبب القصف الإسرائيلي على المباني التي احتُجزوا فيها. وتفشّت في وسائل الإعلام مزاعم عن قطع رؤوس 40 طفلا إسرائيليا قبل دحضها لاحقا، وفي ذلك برهان جلي على انتشار المعلومات غير المؤكدة من مصادر إسرائيلية بلا حسيب ولا رقيب.
تبين الدراسات كذلك مدى التحيز الإعلامي الممنهج في الدول الغربية بحق الفلسطينيين؛ ففي حين يتواصل العنف الإسرائيلي في غزة بلا هوادة بحق المدنيين وحياتهم، تظل أمامنا أسئلة ملحة عن القوة المفرطة ودور وسائل الإعلام في صياغة الخطاب السائد؛ لذا تحاول هذه المقالة تقديم نظرة تأصيلية لجذور التحيز المرصود في وسائل الإعلام الغربية في تغطية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتأثيرها على آفاق إنهاء العدوان وحل الصراع وحصول الفلسطينيين على حقوقهم.
تغطية مبتورة
ما انفكت حملة الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي مستمرةً في قطاع غزة؛ فقد تعرض ما يربو على مليوني نسمة -أي أكثر من 90% من الغزيّين- إلى التشريد أو القتل جراء القصف والعدوان المتواصلين. وأوردت الأرقام الرسمية مقتل أكثر من 37 ألف فلسطيني، منهم ما يزيد على 15.000 طفلٍ، وهو رقم يفوق عدد الأطفال القتلى في كل الحروب العالمية طوال السنين الأربع الماضية. لا ريب أنّ هذا العدوان المتواصل يعد نكبة جديدة أو كارثة مشابهة لما حدث خلال النكبة الأولى عام 1948؛ إذ أُجبِر 700 ألف فلسطيني على هجر منازلهم، وأُكرِهوا على مغادرة أرضهم ليصبحوا لاجئين.
تُمعن وسائل الإعلام الغربية في تركيزها على "المعاناة الإسرائيلية" و"الدفاع عن النفس" عقب هجمات حماس صبيحة 7 أكتوبر عام 2023، التي أفضت إلى 1,139 قتيلا وفقا لبيانات السلطات الإسرائيلية. ويتوزع هذا الرقم على النحو الآتي: 695 مدنيا إسرائيليا، و373 عنصرا أمنيا، و71 أجنبيا. ويجدر التنويه إلى اشتمال ذلك الرقم على مدنيين إسرائيليين قتلهم جيش الاحتلال، ولا سيما عندما قصفت دباباته المنازل التي احتُجز فيها أولئك الأشخاص؛ فهذا تفصيلٌ جوهري قلّما ورد في تغطية وسائل الإعلام الغربية. وباشرت مقالات صحفية حديثة (1) دحض الادعاءات الزائفة التي نشرتها وسائل إعلامية إسرائيلية من دون سابق تحقق، ثم تلقّفها الغرب مكررا إياها؛ فقد تبين، مثلا، زيف التقارير الأولية التي زعمت قطع رؤوس 40 طفلا إسرائيليا، وهي مزاعم باطلة سرعان ما روجتها وسائل الإعلام الغربية والساسة الغربيون، ومنهم الرئيس الأمريكي جون بايدن. كذلك أبانت دراسات كثيرة (2) تحيزا إعلاميا ممنهجا بحق الفلسطينيين في شتى الدول الغربية.
من جهة أخرى، باتت ممارسات الصحافة البديلة من ميدان الحدث شبه مستحيلة؛ إذ دأب جيش الاحتلال الإسرائيلي على استهداف الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وقتل أكثر من 140 صحفيا فلسطينيا منذ 7 أكتوبر حتى الآن.
تعامت وسائل الإعلام الكبرى عن واقع حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المتواصلة بحق قطاع غزة، وبات نزع الأنسنة عن الفلسطينيين ملازمًا للاستعراض الإعلامي للحرب، وطغى الاستخفاف من آمالهم وفاعليتهم السياسية في أحيان كثيرة. ولو راجعنا التغطيات الإعلامية الغربية الكبرى، لرأينا السردية قاصرةً في تطرقها للأحداث على يوم 7 أكتوبر فقط، من دون توفير سياق واف أو سعي لتفسير تأزم الوضع على مدار السنوات الماضية. والملحوظ كذلك أن آراء الفلسطينيين أنفسهم عن السياق التاريخي قوبلت غالبا بالمنع أو الطمس، ولا سيما حين يسعون لإبراز أسباب تلك الأحداث، وهو ما أكده الناشط الصحفي الفلسطيني معتز عزايزة (3)، الذي نشر تغريدة حديثة بخصوص تساؤلات وسائل الإعلام الغربية الكبرى عن 7 أكتوبر، فقال فيها: «أجبت عن السؤال مرات عديدة لكنهم أهملوا الإجابة ولم ينشروها قط؛ فهم سجلوا مقابلتي واقتصوا منها كلاما ملائما لأجندتهم».
بات نزع الأنسنة عن الفلسطينيين ملازمًا للاستعراض الإعلامي للحرب، وطغى الاستخفاف من آمالهم وفاعليتهم السياسية في أحيان كثيرة.
أسهمت الطبيعة المتأصلة للدولة الإسرائيلية بوصفها كيانا استعماريا استيطانيا، وسياساتها على مر السنين، في استحداث الأحوال والظروف (4) المسببة لأحداث 7 أكتوبر وما أعقبها، وهو الحال غالبا لدى القوى الاستعمارية وقوى الاحتلال على مر التاريخ. لكن ثمة استسهال مفرط في تصوير 7 أكتوبر على أنّه «هجوم إرهابي» من دون توفير السياق التاريخي اللازم في حالات كهذه؛ فتُوصف الأفعال الإسرائيلية بحق غزة بأنها «دفاع عن النفس»، وتُعامل جرائمها بحق الفلسطينيين بقلّة اكتراث عامة.
لماذا تصر معظم وسائل الإعلام الغربية الكبرى على تبني السردية الإسرائيلية وإقرارها والدفاع عنها؟ ولم الميل نحو تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم والإفراط في لومهم على مسار الأحداث الراهنة؟ ما مصلحة المؤسسات الإعلامية الغربية الكبرى من مواصلة هذا النوع من التغطية؟
ترجع إجابات الأسئلة السابقة إلى الاستشراق والعنصرية والإمبريالية؛ فهي جميعها مترابطة، والصور والسرديات التي تروجها تلك الوسائل الإعلامية ليست بمعزل حقا عن المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للنخب الحاكمة في الدول الغربية. فلا بدّ من إدراك أدقّ وأكثر اعتدالا -يوفر مساحة مناسبة للصوت الفلسطيني- لفهم أصول هذا الصراع المعقد والطويل، وتغطيته تغطية إعلامية سليمة.
ثمة استسهال مفرط في تصوير 7 أكتوبر على أنّه «هجوم إرهابي» من دون توفير السياق التاريخي اللازم، فتُوصف الأفعال الإسرائيلية بحق غزة بأنها «دفاع عن النفس»، وتُعامل جرائمها بحق الفلسطينيين بقلّة اكتراث عامة.
الوجه المتطور للاستشراق: مقاصد وغايات ثابتة
الاستشراق أيديولوجية جوهرية متأصلة في الفلسفة المثالية والمفاهيم الهيغلية التي تنص على أنّ مصير الناس مرهون بثقافاتهم ودياناتهم القديمة. وأبصر مصطلح «المستشرق» النور عام 1779 في اللغة الإنجليزية، وعام 1799 في اللغة الفرنسية، وعني في بادئ الأمر بالدراسة اللغوية، ثم سرعان ما اقترن بالتوسعات الاستعمارية الإمبريالية الغربية في الشرق وأماكن أخرى من العالم. وما لبثت القوى الأوروبية أن وسعت نطاق تدخلها وغزواتها وهيمنتها على شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا في القرن التاسع عشر، فبرزت خطابات تصف الإمبراطورية العثمانية بأنها «رجل أوروبا المريض»، وتَسِمُ العرب بمصطلحات مثل «الإنسان الإسلامي». وما تزال فكرة الجوهر العربي/الإسلامي حاضرة في التحليل التقليدي والاستشراقي الجديد.
شهدت تلك المدة الزمنية تفوقا جليا لأوروبا على الإمبراطورية العثمانية والشرق عامة، سواء في النواحي الاقتصادية أو التقنية أو العسكرية أو السياسية أو الثقافية. واقترن هذا التفوق بالدين المسيحي (بحسب فهمه الغربي وممارساته الغربية) وانتكاسات العالم الإسلامي مع الإسلام. وهكذا ظهرت المسيحية في مظهر المُجارِي للتقدم، أما الإسلام فأُلبِسَ ثوب الرجعية ومناهضة التقدم؛ لهذا دُعيت أي مقاومة للنفوذ الأوروبي بأنها تعصب ديني ونبذ للحضارة.
لم يخلُ المشهد السياسي الغربي ووسائل الإعلام الغربية الكبرى من خطاب كهذا، وإنما تفاوتت حدته مع الزمن، ومن الأمثلة الجلية لهذا المنظور الاستشراقي خطابُ جوزيب بوريل، نائب رئيس المفوضية الأوروبية والممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، الذي ألقاه في أكتوبر 2002 في الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية الجديدة في بروج؛ فخطاب بوريل يقدم أوروبا على أنها «بستان جميل» تسير فيها الأمور «على خير حال»، وتجمع في ربوعها بين «الحرية السياسية، والازدهار الاقتصادي، والتلاحم الاجتماعي التي حققتها الإنسانية كلها»، ثم ما يلبث أن يجاهر بخشيته من «بقية العالم الشبيه بالغابة، والقادر على التسلّط على البستان؛ فالبستانيون مطالبون إذًا بالذهاب إلى الغابة، والأوروبيون مطالبون بالانخراط أكثر في شؤون سكان العالم، وإلا فإنهم سيغزونهم بشتى السبل والوسائل». ولا ريب أنّ هذا الخطاب يتغاضى عن الصعود المستمر لليمين المتطرف في عموم أوروبا، وتفشي العنصرية والهجمات على الحقوق الديمقراطية والمهاجرين، وهلم جرا.
لا عجب إذًا أن يُوظِّف المسؤولون الإسرائيليون والغربيون ووسائل الإعلام الكبرى مثل هذا الخطاب لتوصيف هجمات حماس في 7 أكتوبر بالبربرية، وتسويغ حرب منظورة في محكمة العدل الدولية بوصفها إبادة جماعية تشنها إسرائيل على سكان قطاع غزة؛ ففي أحد الأمثلة قال كاتب إسرائيلي في صحيفة جيروزاليم بوست: «يوم 7 أكتوبر؛ هزيمة للحضارة الغربية وانتصار للبرابرة.. الغرب الحديث في مواجهة الجهاد الإجرامي الدموي». (5) وفي مثال آخر قالت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية: «إنّه شرّ قديم، وهو تذكرة لنا بالماضي المظلم وصدمة لنا جميعا حتى الصميم. يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها بمواجهة هذه الهجمات الشنيعة»(6).
في خضمّ هذه الإستراتيجية تنامت لدى المسؤولين الإسرائيليين والغربيين ووسائل الإعلام الغربية الكبرى المقارنات بين داعش وحماس، كما حدث حين وصف لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، حماس بقوله إنّها «أسوأ من داعش».(7) ولا شك في أنّ مساعي إسرائيل والحكومات الغربية لتشبيه حماس، والفلسطينيين عامة، بالإرهابيين والمنظمات الجهادية ليست حديثة العهد؛ ففي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وصفت الطبقة الحاكمة الإسرائيلية حربها على الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية بأنها «حرب على الإرهاب»، وتغاضى هذا التوصيف عن إدانة السلطة الفلسطينية وحماس لأفعال تنظيم القاعدة. كذلك دُعيت عمليات حماس التفجيرية في القدس المحتلة وأماكن أخرى في فلسطين التاريخية بأنها من «أوجه الإرهاب الإسلامي العالمي». وسبق ذلك كلام المسؤولين الإسرائيليين ومقارنتهم بين منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وبين النازيين.
تدأب إسرائيل والمسؤولون الغربيون على الخلط بين حماس والجماعات الجهادية مثل داعش والقاعدة؛ فهذا جزء من إستراتيجية أشمل تعوّل على الإسلاموفوبيا لتسويغ الحرب على الإرهاب. وفي مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أيدت إدارة بوش حق إسرائيل في الدفاع عن النفس بمواجهة «الإرهاب الإسلامي»، وهو تصرف مشابه لأفعال الإدارة الأمريكية الحالية والدول الغربية.
من هذا المنطق تكون هزيمة حماس والقضاء عليها مسوغًا للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كما أبان الصحفي في صحيفة نيويورك تايمز بقوله: «حماس هي السبب الأساسي لمأساة قطاع غزة، وعليها وحدها وزر المعاناة التي ألحقتها بإسرائيل، واستجلبتها عمدا بحق الفلسطينيين؛ فالطريقة المثلى لإيقاف المعاناة هي اقتلاع المُسبب لا كفّ يد المقتلع».(8) لهذا، يَسعُ المسؤولين الإسرائيليين والمعلقين الصحفيين المؤيدين لإسرائيل أن يزعموا أن أفعالهم دفاع عن النفس، بل وأن يدّعوا أيضا أنها لمساعدة الفلسطينيين باقتراف إبادة جماعية بحقهم.
يبدو هذا المنظور العنصري لدى وسائل الإعلام الغربية الكبرى متأصلا في النظرة الاستشراقية للعالم والمنطقة بخاصة، بل ومتجذرة في الديناميكيات السياسية الحديثة، ومنها الإمبريالية والاستعمار، والصراع الطبقي والجندر والعنصرية. ويأتي هذا الفهم مغايرا لفهم إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الشهير مؤلف كتاب الاستشراق؛ فسعيد لم ينتقد المثالية التاريخية بوصفها القالب الأساسي للجوهرانية الثقافية غير التاريخية في كتابه الاستشراق، وثمة ضرب من التتابع التاريخي المتسق في انتقاداته للاستشراق منذ عهد اليونان القديمة حتى وقتنا الحالي، وما من مراعاة للديناميكيات الطبقية، وديناميكيات الجندر، وما من ذكر للتاريخ، والمقاومة، ومشاريع تحرير الإنسان بحسب كلام إعجاز أحمد(9).
يبدو المنظور العنصري لدى وسائل الإعلام الغربية الكبرى متأصلا في النظرة الاستشراقية للعالم والمنطقة بخاصة، بل ومتجذرة في الديناميكيات السياسية الحديثة، ومنها الإمبريالية والاستعمار، والصراع الطبقي والجندر والعنصرية.
لذلك لا يعد الاستشراق ظاهرة بالغة الحداثة، وإنما وليد نزعة أوروبية قديمة وراسخة تسعى في بعض تمظهراتها إلى تشويه الحقائق بشأن الثقافات والشعوب واللغات الأخرى، وتكريس الذات الغربية المهيمنة. وعلاوة على الانتقادات البناءة لمؤلفين مشرقيين نقدوا الاستشراق مثل صادق جلال العظم، ومهدي عامل، وسمير أمين، وإعجاز أحمد، فإنه يُخشى في تناول إدوارد سعيد للاستشراق من مغبة الانزلاق إلى شكل من «الاستشراق المعكوس» (10) كما أوضح العظم. في الواقع، كيف عسانا نفسر دفاع وسائل الإعلام الغربية عن سياسات إسرائيل المدمرة لولا أنها تصب في حماية مصالحها السياسية؟ حسنا يجري ذلك برؤية الأمور من منظور استشراقي.
إسرائيل عنصر مهم للنخب الحاكمة الغربية
ضمن إطار استشراقي نموذجي، وطوال عقود من الزمن، قدّم الحلفاء الغربيون ووسائل الإعلام الكبرى إسرائيل على أنها: "نبراس الديمقراطية والتقدم في محيط معادٍ يقطنه برابرة همجيون".
وروّج لهذه الدعاية قادةُ الحركة الصهيونية قبل إنشاء إسرائيل، ولا تزال هذه الدعاية مستمرة حتى يومنا الحالي على لسان المسؤولين الإسرائيليين. ولو عدنا بالزمن إلى قبل النكبة وقيام إسرائيل عام 1948، لوجدنا تيودور هرتزل، المنظر الأيديولوجي للحركة الصهيونية، يصف الدولة اليهودية المستقبلية بأنّها ستكون «طليعة الحضارة بمواجهة البربرية الهمجية»، وهو بذلك يدعو لتمكين سكان أوروبيين بمعظمهم، وأصلهم يهودي، على أرض غالبية سكانها من العرب، وهي فلسطين في هذه الحالة.
في الوقت الراهن يتداول المسؤولون الإسرائيليون هذا الخطاب؛ فرئيس الوزراء نتنياهو صرّح في خطاباته عقب 7 أكتوبر بالآتي: «لا تخوض إسرائيل حربها فحسب، وإنما تخوض حرب الإنسانية بمواجهة البرابرة»(11)، و«حلفاؤنا الغربيون وشركاؤنا في العالم العربي يدركون تمامًا أنّهم الضحايا اللاحقون في حملة القتل والغزو لمحور الشر إن أخفقنا في الانتصار». كذلك ادعى إسحاق هرتزوغ، الرئيس الإسرائيلي، أن غاية الحرب على غزة هي «إنقاذ الحضارة الغربية»، وأن إسرائيل «تعرضت لهجوم من جماعة جهادية»، ولولاها «لكانت أوروبا هدفا تاليا تردفها الولايات المتحدة»(12).
دعم المسؤولون الغربيون ووسائل الإعلام الكبرى هذه الدعاية؛ إذ خلا كلام هذه الجهات الفاعلة تقريبا من عبارة «حرب إبادة جماعية» أو «إبادة جماعية»، وهم كذلك استنكروها ورفضوها حينما ذكرها منتقدو إسرائيل. ويسعنا القول إنّ هذه الحصانة المعطاة لإسرائيل ليست وليدة 7 أكتوبر، وإنما هي فعل متواصل طوال عقود من السنين، وحتى الجماعات والمنظمات الكبرى باتت الآن تدرك الطبيعة العنيفة والرجعية للدولة الإسرائيلية؛ فمنظمة حقوق الإنسان و"بتسيلم" الإسرائيلية، مثلا، أدانتا الاستيلاء الإسرائيلي المتواصل على الأراضي الفلسطينية، ووثقتا الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية ودعمها أكثر من 700 ألف مستوطن لبناء مستوطنات في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وتوصلت تلك المنظمات إلى أن إسرائيل دولة فصل عنصري؛ إذ تمنح اليهود امتيازات خاصة، وتعامل الفلسطينيين على أنهم مواطنون من درجة أدنى.
يبرهن هذا الأمر مرة ثانية على زيف مبادئ الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وادعاءاتها عن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان؛ فهي ليست إلا دعاية خطابية هدفها إخفاء سياساتها الرامية إلى حماية مصالحها السياسية والاقتصادية. وفي هذا السياق صَدَق كلام القس الفلسطيني منذر إسحاق، من بيت لحم، حين قال: «أقول لأصدقائنا الأوروبيين: لا تكرروا على مسامعنا مجددا محاضراتكم عن حقوق الإنسان أو القانون الدولي».(13)
سعت دول أوروبية كثيرة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية للجمع بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، فهي بذلك تهدف إلى تجريم التضامن مع النضال الفلسطيني، وتجريم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). ولا بد من إدراك المقاصد والغايات من هذه الأفعال الرامية لتحقيق هدف أكبر لدى النخب الغربية، واستهداف السياسات التقدمية واليسارية كما حصل في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، فضلا عن محاولات تقييد الحقوق الديمقراطية في تلك الدول.
لا يعد الاستشراق ظاهرة بالغة الحداثة، وإنما وليد نزعة أوروبية قديمة وراسخة تسعى في بعض تمظهراتها إلى تشويه الحقائق بشأن الثقافات والشعوب واللغات الأخرى، وتكريس الذات الغربية المهيمنة.
في هذا السياق لا تتصدى نظريات المؤامرة الزاعمة بسيطرة اليهود على العالم الآراء الاستشرافية، بل إنها تعززها وترسخها في حقيقة الأمر؛ فثمة أوجه مختلفة للعنصرية يغذي بعضها بعضا كما قال المفكر المناهض للاستعمار فرانز فانون: «عندما تسمع مذمات عن اليهود، فأحسن الإصغاء لأنّ الناس يرمونك بكلامهم». كذلك تخفف هذه الادعاءات من مسؤولية النخب الغربية عن المأساة الفلسطينية، من دون أن يغيب عن بالنا أن الدعم الغربي لإسرائيل لم يمنع معاداة السامية المستمرة من النخب الغربية؛ فمنذ اللورد بلفور حتى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، دعموا جميعهم السياسات أو الديناميكيات المعادية للسامية؛ فصحيح أنّ بلفور مشهور بإرساله الرسالة المتضمنة وعده المعروف: «تنظر حكومة صاحبة الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطني قومي للشعب اليهودي في فلسطين»، غير أنّه من مروجي قانون الأجانب عام 1905 وداعميه، الذي أغلق الحدود البريطانية بوجه المهاجرين اليهود الفارين من المجازر الروسية. أما أنصار ترامب (14) فذهبوا في مسيرة في شارلوتسفيل عام 2017، وهتفوا قائلين إنّ «اليهود لن يحلوا محلنا». والأمر ذاته حدث في فرنسا عندما وجهت الانتقادات إلى إيمانويل ماكرون لتكريمه المارشال بيتان، أو تسليط الضوء على المنظر المعادي للسامية تشارلز موراس.
نضال مشترك من الأسفل
تواجه النظرات الاستشراقية والعنصرية عن فلسطين والفلسطينيين، وآخرين من غير البيض، تحديا مرتبطا بالنضال المشترك المنطلق "من الأسفل"؛ أي من القواعد المدنية والشعبية في أرجاء العالم، ولا سيما في المجتمعات الغربية حين تكون المؤسسات الحاكمة منبعَ تلك الأفكار وأصلها. وكما أسلفنا القول، للقضية الفلسطينية تأثيرات بالغة على الديناميكيات السياسية خارج منطقة الشرق الأوسط.
برزت الانتقادات الأولى للاستشراق والدراسات الاستشراقية في الغرب خلال مرحلة نهاية الاستعمار عقب الحرب العالمية الثانية، وقدمها مؤلفون ومفكرون من البلدان المُستَعمَرة ممن عاشوا غالبا في الدول الغربية، مثل أنور عبد الملك وإدوارد سعيد. وبدأت الطعونات بالدراسات والتوجهات الاستشراقية في الأوساط الأكاديمية عقب الحرب العالمية الأولى، وأطلقتها الثورة الروسية، لكنها تعززت بفضل المقاومة المتنامية للحركات المناهضة للاستعمار والإمبريالية الغربية في الشرق؛ بدءا من آسيا ومرورا بالشرق الأوسط وانتهاء بأفريقيا. وأسهمت الحركات النسوية والمناهضة للعنصرية في التصدي لتلك الأفكار في الدول الغربية.
في الوقت الراهن تدور نضالات في شتى المجتمعات والأوساط الأكاديمية وأماكن العمل ووسائل الإعلام البديلة وغيرها، وهي تبذل جهودها للضغط على السلطات والحكومات لإيقاف حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المتواصلة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وإبراز السياق التاريخي للقضية الفلسطينية، وفضح الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية لإسرائيل ونظام حكمها العنصري، والتضامن مع الفلسطينيين؛ فهذا كله يتحدى المنظور الاستشراقي لوسائل الإعلام الغربية الكبرى، الذي يؤدي دور الدرع (من بين دروع أخرى) لحماية مصالح النخبة الحاكمة الغربية.
المراجع
-
Nuqul, S. (n.d.). Western media are partners in Israel's genocide in Gaza. The New Arab. https://www.newarab.com/opinion/western-media-are-partners-israels-genocide-gaza
-
Elliards, X. (2024, January 9). Study shows BBC “bias” in reporting on Palestinian and Israeli deaths. The National. https://www.thenational.scot/news/24037746.study-shows-bbc-bias-reporting-palestinian-israeli-deaths/
-
MoTaz on X: “So it’s not about the 7th of October. . . I received this different times question (Do you condemn the 7th of October attacks) when I showed with different western media channels, but they keep cutting my answer because they actually don’t like my answer. They believed it may be. . . https://t.co/yzbrC6sba0” / X. (n.d.). X (Formerly Twitter). https://twitter.com/azaizamotaz9/status/1767500483650855308
-
For years, Netanyahu propped up Hamas. Now it’s blown up in our faces | The Times of Israel. (2023, October 12). The Times of Israel. https://www.timesofisrael.com/for-years-netanyahu-propped-up-hamas-now-…
-
Akunis, B. O. (2023, November 25). Israel-Hamas war is a clash of civilizations for a new Middle East. The Jerusalem Post | JPost.com. https://www.jpost.com/opinion/article-774843
-
Pollet, Mathieu. 2023. “EU Condemns Hamas Attack on Israel as ‘Terrorism in Its Most Despicable Form’” POLITICO, October 10, 2023. https://www.politico.eu/article/israel-ursulva-von-der-leyen-hamas-pale….
-
Sharp, Rachel. 2023. “Lloyd Austin Says ‘Evil’ Hamas Are ‘Worse Than Isis’ as He Meets Netanyahu in Israel.” The Independent, October 13, 2023. https://www.independent.co.uk/news/world/americas/us-politics/lloyd-aus….
-
Stephens, Bret. 2023. “Opinion | Hamas Bears the Blame for Every Death in This War.” The New York Times, October 17, 2023. https://www.nytimes.com/2023/10/15/opinion/columnists/hamas-war-israel-….
-
Ahmad, Aijaz. 1992. “Orientalism and After: Ambivalence and Cosmopolitan Location in the Work of Edward Said.” Economic and Political Weekly 27 (30). https://www.jstor.org/stable/4398691.
-
“Orientalism and Orientalism in Reverse - Sadik Jalal Al-’Azm.” n.d. Libcom.Org. https://libcom.org/article/orientalism-and-orientalism-reverse-sadik-ja….
-
Berman, Lazar. 2023. “PM: ‘Never Again Is Now,’ Israel Fighting ‘humanity’s War Against the Barbarians’ | the Times of Israel.” The Times of Israel (blog). October 28, 2023. https://www.timesofisrael.com/liveblog_entry/netanyahu-never-again-is-n….
-
“Middle East Eye on X: ‘at the Davos World Economic Forum, Israeli President Isaac Herzog Said “If Israel Were Not There, Europe Would Be Next... These Barbaric Jihadists Want to Drive All of Us Out of the Region.’ He Also Stated the War in Gaza as ‘An Essential Element in the History of Humankind’ https://t.co/Ia58OfniZF" / X.” n.d. X (Formerly Twitter). https://twitter.com/MiddleEastEye/status/1748745448511144343.
-
Admin. 2023. “‘Jesus Would Be Born Under Gaza Rubble’ – Palestinian Pastor.” Palestine Chronicle. December 24, 2023. https://www.palestinechronicle.com/gaza-is-moral-compass-of-the-world-p….
-
Rosenberg, Yair. 2021. “‘Jews Will Not Replace Us’: Why White Supremacists Go After Jews.” Washington Post, October 27, 2021. https://www.washingtonpost.com/news/acts-of-faith/wp/2017/08/14/jews-wi….