ضحكَ زميل لي في المهنة بل واصل الضحك لدقائق، عندما كنّا نخوض نقاشاً حول واقع الإعلام الرقمي في العالم العربي.. كنت قد أخبرتُه أن القارئ العربي سيجد نفسه يوماً ما مضطرّاً لدفع الأموال للحصول على معلومات دقيقة واستهلاك أشكال إعلامية متطوّرة.
لم أجتمع مع هذا الزميل كثيراً بعد هذا الحوار الذي دار عام 2014، لكن ثمّة رغبة كبيرة في إعادة خوض هذا النقاش معه مجدّدًا اليوم، لأن الأمور تغيّرت كثيراً في هذه السنوات الثلاث، كما ستتغير أكثر في السنوات المقبلة، وقد تتحوّل وسائل الإعلام في العالم العربي من الاستثمار الإعلامي في الإعلانات إلى الاستثمار في الاشتراكات من الجمهور، في مواكبة للتجربة الإعلامية الغربية.
دخلت الألفية الثانية، ودخلت معها الهواتف النقّالة، لتُصبح تدريجياً في حوزة الجميع، الصغير منهم قبل الكبير، على الرغم من إمكانياتها المحدودة حينها، والمُتمثّلة في الاتصال اللاسلكي وإرسال الرسائل فقط.. في ذلك الوقت كانت شركات الاتصال تقدّم خدمات إخبارية مدفوعة عبر عقد اتفاقيات مع وسائل الإعلام، كما كانت الوكالات المحلية تفتح باب الاشتراك في خدمة الأخبار عبر الرسائل النصّية، محاولةً تسهيل المهمّة على القرّاء في المكوث أمام التلفاز والبحث عن الأخبار.
وبعد ظهور الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي وخدمات الأخبار عبر الإنترنت، لم تعد الخدمة المدفوعة مجدية كثيراً، إذ إن أي شخص بات بإمكانه الولوج إلى الأخبار عبر الإنترنت مجّانا دون أي اشتراك. غير أن عدة عوامل وتطورات حدثت اليوم، أدت إلى تهيئة بيئة مجدّدة للخدمات المدفوعة، ولكن بحلّة جديدة، تختلف عما كانت عليه سابقاً.
ثمة عوامل تحرّض على البدء الفعلي في التجربة المدفوعة عربياً، ولاسيما مع التدفّق غير المنطقي للأخبار المغلوطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب أمام أي شخص ليخاطب الجمهور.
الشائعات تدفع نحو الخدمات المدفوعة
"هذا الخبر ملفّق.. أنتم كاذبون وتحاولون اختلاق أخبار لتحصلوا على مزيد من المشتركين في صفحتكم".. قد لا يبدو أمراً غريباً أن تجد أمثال هذا التعليق على منشورات إخبارية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا الأزرقيْن: الغامق "فيسبوك"، والفاتح "تويتر".
إنّها مُعادلة سهلة الحل، فبكل بساطة يُمكن القول إن ناشر الخبر شخص عادي، ليس معروفاً بالضبط مدى كفاءته العلمية على نشر الأخبار الصادقة والصحيحة، وقدرته على تدقيقها والتحقّق منها.. هذا مع افتراض حسن نيّته وأنه يريد نشر خبرٍ صحيح، فماذا لو كان يتعمّد بث أخبار من مخيّلته؟
الواقع يقول إن الشائعات والأخبار الملفّقة أو غير الدقيقة على أقل تقدير باتت أمراً روتينياً متاحاً أمام الجمهور، وأصبح المتلقّي أمام سيل كبير من تدفّق الأخبار والمعلومات، بعضها صحيح وآخر لا أساس له من الحقيقة. غير أن النقطة المهمّة هنا، أن هذا المُتلقّي لن يستطيع حتماً تمييز تلك الأخبار الحقيقية من الزائفة، وإن كان يستطيع فإنه بحاجة إلى إهدار نصف يومه لمقاطعة الأنباء والبحث عن الخبر ذاته من مصادر أخرى، لكن هذا الأمر ليس من مهمّة المتلقّي الذي يبحث عن "وجبة طعام مطبوخة وجاهزة ليتناولها".
وكما كان متوقّعاً، فإن هذا السيل الجارف من الشائعات سيجعل صبر الجمهور ينفد، ويُضطر للبحث عن مصدر واحد موثوق ليحصل منه على معلومة لا يُتعب نفسه في التشكيك بصدقيتها، حتّى لو اضطر لشراء تعبه في الجري بين الشائعات بدفع اشتراك شهري يُسهّل عليه عناء البحث.. أهلاً بكم في زمن الإعلامي الرقمي المدفوع، الذي على الرغم من تجاربه الخجولة في العالم العربي مقابل التجربة الغربية، فإن كل المعطيات تُشير إلى أن الجمهور سيكون مضطراً يوماً ما للولوج إلى المواقع المدفوعة بحثاً عن راحة من عناء الإبحار في الشائعات.
وفي هذا الصدد نشر ريتشارد فليتشر تحليلاً إعلاميّاً معمّقاً في "رويترز"، اشتمل على مقابلات مع 70 ألف شخص من 36 بلداً، حول الأسباب التي تدفع الناس لدفع الأموال مقابل الأخبار.
وجاءت نتيجة البحث على العينة المذكورة أن 17% يدفعون الأموال لوسيلة إعلامية ما لأنّها لا تسمح بالدخول المجّاني إليها، في حين أن 17% يدفعون الاشتراكات للوسيلة لأنّهم يحصلون على معلومات متخصّصة، وبرّر 17% آخرون سبب الدفع بأنّهم يحصلون على معلومات لا يصل إليها معظم الناس، بينما رأى 16% أنهم دفعوا مقابل اشتراكات لوسائل إعلام لأنّهم يحصلون على فوائد أخرى غير الوصول إلى الأخبار. أما السبب الذي دفع 16% آخرين للاشتراك، هو أن الاشتراك بدون الاتصال بالشبكة، أي عبر الرسائل النصية، أرخص من الاشتراك بخدمة الإنترنت.
واعتبر ناشر التحليل أنه من الضروري أن تكون رسالة ناشري المحتوى الرقمي المدفوع واضحة، وأنَّ عليهم التأكّد من عدّة نقاط، وهي "عرض المحتوى بسرعة، تكيّف المحتوى مع شكل العرض على شاشة الهاتف الصغيرة، التصميم اللائق، وأخيراً اختبار معظم أسعار المحتوى المدفوع على الإنترنت لمعرفة أيّ منها تقدّم نتيجة أفضل".
تجربة عربية فريدة
شرعت صحيفة "النهار" اللبنانية في دخول تلك "المغامرة" الصحفية لتكون أولى الصحف العربية التي قرّرت تخصيص مواد من محتواها الإلكتروني بشكلٍ مدفوع.
وبدأت الصحيفة الأعرق في لبنان تجربتها في الخدمات الصحفية المدفوعة منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي، على الرغم من التحذيرات بصعوبة إقناع القرّاء باستهلاك محتوى إلكتروني مدفوع، سيما أنّ المُتلقّي يواجه تدفّقًا كبيراً من الخدمات الإخبارية المجّانية.
غير أن هذه التحذيرات تخفّف من وقعها المسؤولة في الموقع الإلكتروني "للنهار" ديانا سكيني، إذ تقول: "كون النهار تستند إلى عراقة وصدقية اسمها، فإنّها تعتمد المهنية قبل وبعد تفعيل الخدمات المدفوعة".
وأضافت لمجلة "الصحافة" أنَّ أحد العوامل الأساسية التي تدفع الجمهور لتسديد اشتراك رقمي هو الكم الكبير من الشائعات في الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي وانتشار المواقع الإلكترونية غير ذات الصدقية. ولكنها استطردت أن هذا السبب ليس الوحيد، إذ إنَّ هناك عوامل أخرى مثل حاجة الجمهور إلى المحتوى الإعلامي النوعي، وأن يكون شريكاً مع الصحيفة.
وأوضحت سكيني أن الصحافة الورقية في معظم أنحاء العالم عانت من أزمات مالية، لذلك فهي أمام تحدٍّ حقيقي يتمثّل في المقاومة من أجل البقاء، مشيرة إلى أن موقع "النهار" يلبّي اتجاه الجمهور الباحث عن مواد الديجيتال والملتيميديا، لذلك فإن الصحيفة استثمرت هذا المحتوى لتبقى مؤسّسة مُنتجة قادرة على تقديم محتوى مهني من جهة، وتستمر في تأمين نفقاتها ذاتياً من جهةٍ أخرى، ولم يكن هناك طريقة لتحقيق هذه الغاية سوى مواكبة التجربة العالمية وتفعيل الخدمات المدفوعة.
وكغيره في معظم أقطار العالم العربي، فإن الريع السياسي والحزبي في لبنان هو السائد وينعكس أيضاً على وسائل الإعلام، وعليه فإن وسائل الإعلام التي تتلقّى تمويلاً من القوى السياسية التي تقف خلفها ليست بحاجة إلى تفعيل خدمات مدفوعة، ولا تنتظر سوق الإعلانات ولا تُعنى بالاستثمار التجاري في الإعلام، وفقاً لما تشير إليه سكيني، ثم تضيف: "نحن في النهار كمؤسسة مستقلة تجاوزنا المنطق الريعي، وقرّرنا أن نكون مؤسّسة تموّل نفسها ذاتياً، ويكون مُنتجها الخبر الصادق وتقديم الملتيميديا والإنفوغراف وأشكال الإعلام المختلفة بعيداً عن الجمود والتيار الكلاسيكي".
وتظهر في موقع "النهار" كلمة "بريميوم" بمجرد الدخول إلى الصفحة الرئيسية، وعند الضغط على الأيقونة يظهر المحتوى الإعلامي المدفوع، حيث تتقاضى الصحيفة ستة دولارات عن الاشتراك الشهري، مع إتاحة الاشتراك مقابل دولار واحد في الشهر الأول كنوع من تشجيع القرّاء على الاشتراك، في حين تبلغ قيمة الاشتراك السنوي 60 دولاراً.
وتصف سكيني تجربة "النهار" بأنها "مبشّرة"، إذ "منذ اليوم الأول لتفعيل الاشتراكات تلقّت الصحيفة موجة كبيرة من الاتصالات تسأل عن كيفية الاشتراك، وبالأخص من الجمهور المُعتاد على قراءة النهار". لكنها لا تنكر وجود تحدّيات كبيرة مثل حاجة الصحيفة إلى بذل جهد أكبر من أجل مخاطبة جميع الشرائح لتقنع جماهير المواقع المجّانية بالاشتراك، وأكّدت أن الشريحة التي هرعت مباشرةً للاشتراك هي شريحة قرّاء النسخة الورقية من الصحيفة.
وتُشير إلى أنّه من الطرق التي تحث الجمهور على الاقتناع بالخدمة الإعلامية المدفوعة، خلق علاقة شخصية معه وجعله شريكاً في المحتوى، وليس قارئًا عاديًا وحسب.
أمّا عن خلاصات هذه التجربة، فتعتبر سكيني أنه من المبكّر الحديث عن مخرجاتها لكونها تجربة ناشئة، ولا يمكن حالياً الحديث عن خلاصات نهائية، لافتةً إلى أن تقييم تفاعل الجمهور مع الخدمات المدفوعة يحتاج إلى عدّة سنوات حتّى يتبلور.
وحثّت الصحفَ العربية أوّلا على الاجتهاد في تقديم محتوى مهني، ومواكبة الأنواع الصحفية الحديثة، ثم الاتجاه بعدها نحو تفعيل الدفع الإلكتروني كحلٍّ أفضل من الاستسلام أمام الإغلاق.
وبناءً على تجربة "النهار"، تقترح سكيني القيام بحملات مكثّفة حول ثقافة الدفع الإلكتروني الآمن، لكون معظم المستهلكين في العالم العربي لا يثقون بالدفع الإلكتروني، مشيرةً إلى أنّ بقيّة الصحف في لبنان لو انتهجت النهج ذاته وفعّلت خدمات إعلامية مدفوعة، فسيحصل نوع من التعاون بين وسائل الإعلام، مما يؤدّي إلى تعزيز ثقافة الدفع الإلكتروني مقابل الحصول على الأخبار بين الجمهور.
وختمت: "بنينا الأساسات ووضعنا خططا تحريرية من أجل إنجاح التجربة المدفوعة، إذ لا يُمكن تخيّل لبنان بدون الصحافة الحرّة وبدون صحيفة النهار انطلاقاً من إرثها التاريخي".. وتضيف "نؤمن بأنَّ الصحافة لا تموت لأنَّ هناك قرّاء في كل مكان يبحثون عن معلومة صادقة".
وأوضحت أن "النهار" تفرد جزءا كبيرا من أخبارها لتغطية القضايا العربية وليس اللبنانية فقط، لذلك تدعو القارئ العربي لأن يكون شريكاً في هذه التجربة الفريدة.
ماذا على وسائل الإعلام أن تفعل؟
بالتأكيد فإن الصحيفة التي تعتمد اشتراكاً مدفوعاً مقابل خدماتها، هي صحيفة مستقلّة ولا تتلقّى تمويلاً سياسياً، وهي نقطة تُحسب لها، ولكن لا بد لهذه الوسيلة دائماً أن تسأل نفسها "ما المحتوى الفريد الذي سأقدّمه وأدفع به جماهير الوسائل المجّانية إلى دفع الاشتراك؟".
وفي هذا السياق، يضع المخضرمون في المهنة عدّة معايير يأتي على رأسها ضرورة أن تقدّم أخباراً في منتهى الصدقية، لأن أحد الأسباب الرئيسية لاشتراك الجمهور فيها هو الهروب من الشائعات، إضافةً إلى تقديم أنواع إعلامية غير تقليدية كالإنفوغراف والملخّصات والقصص غير العادية التي تظهر بصمة المؤسسة الإعلامية وخصوصيتها في الطرح، بينما إذا أرادت تداول الأخبار المنقولة فلا بد أن تتيحها بشكلٍ مجّاني وتقيّد محتواها الخاص بشكلٍ مدفوع.
وأخيراً ينصح أهل المهنة بضرورة تقديم المحتوى المرئي (الملتيميديا) والمحتوى المتطوّر عنها (كروس ميديا).