في الوقت الذي بدأت فيه شركات رقمية حول العالم توفر منتجات تتلاءم مع احتياجات الشباب في القرن الواحد والعشرين، بقيت مؤسسات إعلامية كثيرة متقوقعة في مؤمنة أن "الإعلام الجديد" لن يحلّ مكان "الإعلام التقليدي". وقد دفعت مؤسسات إعلامية عالمية وعربية ثمن عدم استثمارها لتطوير أدوات تكنولوجية تتلاءم مع احتياجات المستخدمين والمتابعين لها.
لست أناقش الفروقات بين الاثنين (الإعلام الجديد والإعلام التقليدي)، إنما ألفت الانتباه إلى أننا في حقبة مختلفة تماما عما أنتجه الإعلام التقليدي من أدوات.. ما يعني أننا بحاجة لتطوير مهارات جديدة لدى العاملين في قطاع الإعلام ولإعادة النظر بما يتم تداوله وتدريسه في كليات الإعلام عالميا عامة وعربيا خاصة.
بالرغم من أن الدراسة الأكاديمية لا تعني أن الخريج مؤهل للعمل بشكل مهني في كثير من الأحيان. ورغم أن التعلم وتطوير المهارات ليسا حكرا على طلاب مؤسسات، إلا أن الدراسة الأكاديمية لها جوانب عديدة مفيدة إذا ما وفرت البيئة اللازمة للبحث والتطوير للطلاب.
فالدراسة الأكاديمية ليست شرطا لتطوير مهارات البحث، غير أنها بيئة ممتازة لمتابعة ما تتركز عليه الأبحاث، إذا ما افترضنا أن الطالب يدرس في مؤسسة تحترمه وتزوده بالموارد اللازمة لتطوير مهاراته ليواكب آخر التطورات التكنولوجية (بالطبع الشق الإيجابي المتفائل هذا، هو نتيجة دراستي لعامين في الولايات المتحدة).
علينا أن نتذكر أن العمل في القرن الواحد والعشرين يتطلب من الموظفين في قطاعات العمل المختلفة مهارات تدمج ما بين دراسات متعدِّدة. هذا التقاطع والدمج ما بين المواضيع المتنوّعة يعطي الموظف أفضلية على غيره، إذ أن شمولية المعرفة لدى موظف كهذا ستؤثر على إبداعه وتفكيره النقدي.
في العامين الأخيرين من دراستي في الولايات المتحدة، تابعت الكثير من برامج كليات الإعلام. هناك برامج جديدة ومختلفة تحت مسميات تتلاءم مع احتياجات هذا العصر. وعلى سبيل المثال، يوجد في "جامعة ولاية أريزونا" التي أدرس بها، كليةٌ مختصة بالاتصال والصحافة، إضافة لأخرى تدمج ما بين الفنون والإعلام والهندسة. واحد من الأهداف الأساسية لمثل هذه البرامج هو أن يكون الطلاب قادرين على إنتاج مواد إعلامية تفاعلية، سواء من خلال الشاشة أو الكتابة أو الصوت أو تفاعل المستخدم أو البيانات الرقمية أو تفاعل الإنسان مع الحاسوب أو تبادل المحتوى. في هذا الصدد، تقدم كليّات كهذه مساقات عديدة تتعلق بالإعلام الرقمي من جهة، وتفاعل الإنسان مع التكنولوجيا من جهة أخرى. ليكون في المحصلة لدى الخريج سلة أدوات تمكِّنه من العمل في عدّة مجالات في عالم الإعلام وقطاع التكنولوجيا الرقمية.
وفي الجامعة ذاتها، تبدو دراسة التواصل والإعلام ممتعة. ولا أعني بذلك المساقات التي تتعلق بالصحافة من إنتاج الأخبار والتحرير، فعالم الإعلام اليوم ليس محصورا في خانة الصحافة. توفر الجامعة (وهذا الأمر موجود بجامعات عديدة) مساقات متنوعة تتيح للطالب في العالم الأكاديمي المجال لأن يطّلع على ما يحدث في الصناعة، هذا من جهة مفيد لسوق العمل، والأهم من ذلك ما تحدثه تلك المساقات من أثر كبير على إعداد الخريجين ليكونوا رياديي أعمال بأنفسهم، قادرين على إنشاء مشاريع تكنولوجية طليعية في عالم لم يعد فيه الإعلام حكرا على المؤسسات الضخمة.
تحضير الطلاب، وتزويدهم بمهارات تمكنهم من العمل بشكل مستقل له انعكاسات اقتصادية واجتماعية هامة، وهذا في الحقيقة يؤدي بنا إلى نقاش موضوع آخر، حول جاهزية مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي لتخريج أكاديميين قادرين على الإنتاج بأنفسهم دون الخضوع لنظام التوظيف والعمل في القطاع العام. ولهذا انعكاسات على نسب البطالة في العالم العربي التي تصل لحوالي 30? بين الشباب. نسأل هنا السؤال، هل أنظمة التعليم أكاديميا في العالم العربي قادرة على تخريج رياديي أعمال ومبتكرين في قطاع التكنولوجيا والثقافة؟
هذا التقرير يعرض لمحة مختصرة عن بعض المهارات التي تركِّز عليها كليات إعلام مختلفة، والتي تتمحور حول التصميم التفاعلي والتكنولوجيا.. مهارات تطلبها شركات تكنولوجية مختلفة في الصناعة اليوم. تتوزع المساقات في كلية الميديا والاتصال على مواضيع مختلفة، منها نظري مبني على الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومنها عمليٌّ يؤهل الطلاب للعمل في قطاع التكنولوجيا عامة، والتصميم التفاعلي خاصة.
هنا بعض الأمثلة على مهارات يطورها الطلاب خلال بعض المساقات.
تجربة المستخدم - User Experience
تحتل تجربة المستخدم حيزا هاما في عالم إدارة المنتجات. ومن خلال تطوير المهارات في هذا السياق، يمكن للطلاب التعرف على طرق تقييم تجربة المستخدم وأسس التصميم التفاعلي لها. تتركز المساقات المتعلقة بتجربة المستخدم على تطوير مهارات تصميم وحلول لتحسين قابلية استخدام منتج معين. في مثل هذه المساقات يمكن التعرف إلى أسس التصميم التفاعلي مع مراعاة الاحتياجات الثقافية والذهنية للمستخدم مثل بحث أو دراسة وتحليل صفات المستخدمين لمنتج ما وإعداد هيكلية وتخطيط لتحسين التجربة.
الكتابة التقنية وتصميم المواد التعليمية - Instructional Design
في عصر تدفق المعلومات، هناك أهمية كبيرة لتطوير مهارات الكتابة التقنية، بالذات فيما يتعلق بإنتاج محتوى تدريسي أو تعليمي لاستخدامات منتج معين. الكتابة التقنية تساعد في خلق محتوى يتناسب مع استهلاك المتابع أو القارئ.. مهارات كهذه تحسِّن القدرة على إنتاج محتوى سلس للقراءة. واحد من النماذج المستخدمة لإعداد مثل هذه المواد هو نموذج "ADDIE"، والذي يعتمد على خمسة أسس: التحليل، التصميم، التطوير، التطبيق، والتقييم.
الخيال العلمي - Science Fiction
مساقات كثيرة يمكن أن تخدم الطالب لتطوير خياله وإبداعه، سواء أكان ذلك من خلال الكتابة الإبداعية والفيديو أو التصميم.
في أحد المساقات التي تطوعتُ فيها لمساعدة الطلاب، تركِّز المساق حول استخدام روايات خيال علمي لتصميم اختراعات تكنولوجية تعليمية. كان تفاعل الطلاب مع هذا المساق مسليا، وتصاميمهم مدهشة. انطلقت التصاميم من الدراسة والبحث وإعداد عشرات من النماذج والبحث في تجربة المستخدم وتطبيق مبسط لنموذج التصميم، ومن ثم عرض المشاريع على طاقم مختص. وقد شملت بعض النماذج تصاميم مبنية على كل من الواقع المعزز وكذلك الواقع الافتراضي.
البيانات – التصميم والبرمجة
القدرة على إعطاء معنى للبيانات هي واحدة من المهارات الهامة في عالم الإعلام اليوم. الانتشار الواسع للإنفوغرافيكس وكذلك الفيديوهات القصيرة فيها تجسيد مبسط لذلك.
تصميم وبرمجة البيانات لا يعني فقط عرضها بشكل سلس للمستخدم على هيئة تصميم غرافيكي، إنما أيضا تطوير آليات تمكن المستخدم من التفاعل معها. مثلا: عن طريق مشاركة بيانات، إضافة لمحتوى البيانات وحتى نماذج لتصاميم تفاعلية مثل مشروع "Why Buses Bunch" والذي يجسد بوضوح كيفية تبسيط مشكلة بعرض بصري عن طريق اللعب - لماذا يحدث أن تتأخر الباصات ومن ثم تظهر كلها معا فجأة؟ سؤال نواجهه في حياتنا اليومية أثناء انتظارنا للباص، نجد له إجابة بطريقة تفاعلية سلسة.
في مثل هذه المساقات المذكورة أعلاه، تشمل مرحلة إعداد نماذج المنتج "Prototyping" تطوير مهارات مختلفة في الصناعة، كالطباعة ثلاثية الأبعاد والطباعة عن طريق الليزر البرمجة باستخدام آليات وإلكترونيات جاهزة كـ"arduino"، أو الطباعة على القماش وغيرها.
تفاعل الإنسان مع الحاسوب Human Computer Interaction
يمكن دمج ما ذكرته أعلاه من مساقات ومهارات، تحت خانة "تفاعل الإنسان مع الحاسوب"، هذا المجال الحديث نسبيا، يدمج ما بين ثلاثة عوامل: التصميم والبرمجة والعلوم الاجتماعية. الهدف الأساسي هو دراسة نظريات وطرق قابلة لاستخدام برمجيات وتصاميم ومنتجات لتفاعل أفضل معها من قبل المستخدم.
الحوسبة الاجتماعية - Social computing
يدمج مجال البحث هذا ما بين علوم التصرف وعلوم الحاسوب، ويهدف بالأساس إلى تطوير وتصميم أنظمة محوسبة تخدم الإنسان عن طريق استخدام ناجع للبيانات. تتنوع البيانات المستخدمة لتطوير مثل هذه الأنظمة.. منها البيانات النصية والكلامية ومنها البصرية. الهدف من تجميع مثل هذه البيانات هو أن يكون النظام المحوسب قادرا على التعلم الآلي، فلذلك هناك أهمية لدمج علم اللسانيات مع علم الحاسوب لتصميم ناجع لهذه الأنظمة.
بالرغم من أن اللغة العربية غنية، إلا أن واحدة من المشاكل التي يواجهها إنتاج ابتكارات تكنولوجية متخصصة في اللغة العربية، هي تنوع اللهجات، إضافة إلى ذلك الكم الهائل من الأخطاء الإملائية والنحوية في المحتوى الرقمي. هذا الأمر يحدًّ من إنتاج برمجيات اجتماعية (social computing) تراعي الاحتياجات الثقافية والذهنية والاجتماعية للمستخدم العربي عامة، وبالذات للمستخدمين ذوي الاحتياجات الخاصة التي تعتبر العربية لغتهم الأم. فتحسين المحتوى العربي يعني أيضا، تطوير آليات وبرمجيات أفضل في عالم تحكمه البيانات.
التفاعل المحسوس - Tangible Interaction
واحدة من مجموعات البحث المتعلقة في مجال "تفاعل الإنسان مع الحاسوب" هي ما يسمى "Tangible Interaction" أو التفاعل المحسوس. وهو مبني على تصميم وبرمجة تفاعل عن طريق مجسمات فيزيائية، تجسد بشكل ملموس بيانات أو معلومات يقوم المستخدم بالتفاعل معها. نجد أمثلة للتفاعل المحسوس في المتاحف، كذلك من خلال تصاميم تفاعلية لألعاب تعليمية. يعتمد تصميم التفاعل هنا على أربعة أسس، الأولى التفاعل مع المادة بشكل حسي، دمج البيانات وتجسيدها، التفاعل الجسدي مع المنتج ، التفاعل مع المنتج في سياق عام خارج المختبر بحيث يراعي ذلك جوانب أخلاقية وقابلية الاستخدام من قبل المستخدم مع مراعاة احتياجاته "مثلا: طفل مقابل بالغ" (1).
إن عدم تشجيع الطلاب على البحث وعدم تطوير التخطيط الاستراتيجي في تصميم المشاريع الأكاديمية، يخلق فجوة حقيقية توثر على جودة العمل والإنتاج في كلا القطاعين: العام والخاص. لا يستطيع المهندس أن ينتج منتجات قابلة للاستخدام دون أن يكون لديه إدراك تام باحتياجات مجتمعه أو جمهوره المستهدف. لذلك، تتوجه مثل هذه الكليات اليوم إلى التعاون ما بين مرافق مختلفة في الجامعة، كل طرف يزود ويثري بما لديه من مهارات. تجتمع العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية والعلوم التطبيقية كلها معا، تزود الطلاب بتوجهات توسع مدارك المعرفة لديهم من جهة وتحفزهم على تطوير مشاريع لها أثر.
هامش
بعض الأمثلة التي تجسد التصميم والبحث من جامعات أخرى في الروابط التالية:
مجموعة البحث من مختبر MIT MEDIA LAB - Tangible Media Group
https://i.ytimg.com/vi/lvtfD_rJ2hE/maxresdefault.jpg
http://tangible.media.mit.edu/
مجموعة البحث في التفاعل المحسوس في قسم علوم التعلم من جامعة نورثويسترين - http://tidal.northwestern.edu/projects/
أحد المشاريع مثلا يهدف إلى تعليم الأطفال البرمجة من خلال تفاعلهم مع قطع بازل، مثل هذا التصميم المبسط، يطور لدى الطفل مهارات إدراك ومهارات حسية.
http://tidal.northwestern.edu/static/images/projects/strawbies-figure1.jpg
تطبيقات شركة "أوسمو": https://www.youtube.com/watch?v=CbwIJMz9PAQ