مرت الصحافة الاستقصائية عبر تاريخها بمراحل عديدة أثبتت خلالها دورها الحيوي في المجتمعات، فكانت صوت المواطنين وأداة لكشف ما يحدث في الظل وجلب المتهمين للعدالة. ومع ظهور الإنترنت وما صاحبه من طفرات تكنولوجية، ظهرت في الأفق فرص جديدة للصحافة الاستقصائية لمساعدتها على الاستمرار في لعب دورها المهم.. فرص ما زال الصحفيون والقراء حول العالم يستكشفون أبعادها وإمكاناتها عبر تطبيقات عصرية ومتطورة مثل الوسائط الاجتماعية.
عام 2015، ظهرت على الإنترنت 11.5 مليون وثيقة مسربة من إحدى شركات المحاماة في بنما تحمل تفاصيل حول عمليات غسيل أموال وتهرب من الضرائب يعود بعضها إلى سبعينيات القرن الماضي. الوثائق التي ظهرت على موقع ويكيليكس الذي يتيح للمستخدمين نشر وثائق سرية دون الكشف عن هوياتهم، كانت مادة لواحد من أهم التحقيقات الاستقصائية في التاريخ.
أكثر من 400 صحفي حول العالم تعاونوا سويا في استقصاء تفاصيل تلك المستندات المسربة في عمل جماعي استمر لمدة عام، نُشر في الوقت نفسه في 80 دولة، وهو ما كشف الغطاء عن عمليات غير قانونية لغسيل الأموال تورط فيها 140 سياسيا في أكثر من 50 بلدا، بعضهم على مستوى الزعماء، مما فتح الباب لتحقيقات موسعة في 90 دولة، وسط اهتمام كبير من الناس وصل حد المظاهرات في بعض الأحيان.
هذا الإنجاز كان يصعب كثيرا تحقيقه لولا وجود وسائط اجتماعية على الإنترنت أتاحت ظهور تلك الوثائق والعمل عليها بهذه السرعة وإتاحتها لملايين الناس في نفس الوقت، بفضل مساحات حرة ومرنة للنشر والتفاعل والعمل الجماعي.
عن أي تكنولوجيا نتحدث؟
تعتبر الوسائط الاجتماعية أحد أهم تجليات الجيل الثاني من الويب (Web 2.0) الذي كان له التأثير الأساسي في إلغاء نموذج "حراس البوابة" القديم، حيث كانت وسائل الإعلام المتحكمة في الرسائل التي تصل إلى الجمهور والتي حل محلها نموذج جديد قائم على الحوار بين وسائل الإعلام والجمهور والمصادر.
في هذا السياق كثيرا ما يستدعي الحديث عن الوسائط الاجتماعية ما يُعرف بالشبكات الاجتماعية وأشهرها فيسبوك، في خلط شائع مع مصطلح "الوسائط الاجتماعية" الأوسع والأعم، حيث تضم الوسائط الاجتماعية أي تطبيق رقمي يسمح للمستخدمين بإنشاء وتبادل المحتوى بأي شكل كان.
تحت هذا التعريف توجد أعداد ضخمة من التطبيقات على الشبكة تحمل الكثير من التنوع في الأغراض والمزايا، أحد تفريعاتها هي الشبكات الاجتماعية التي تتيح للناس التواصل بشكل شخصي ونشر المحتوى والتفاعل معه. بالإضافة إلى ذلك توجد تفريعات أخرى عديدة مثل مواقع النشر الاجتماعية أو ما يعرف بالمدونات، ومواقع الويكي مثل ويكيبيديا وويكيليكس، ومواقع نشر الوسائط المتعددة مثل يوتيوب وفليكر، وغيرها من المواقع المتخصصة في هوايات واهتمامات وتخصصات كثيرة.
أضف إلى هذا الطفرة الكبيرة التي حدثت في الأجهزة المحمولة الموصولة بالإنترنت ذي السرعات العالية والتكلفة المعقولة.. كل هذا أتاح لملايين الناس الولوج إلى الشبكة واستخدام تطبيقاتها وإثرائها بالمحتوى بشكل غير مسبوق.
فرص كامنة
يقول الأستاذ بكلية يو.أس.سي أنينبرغ للصحافة روبرت هرنانديز إن الصحفيين لو اتصلوا بمجتمعاتهم عبر الويب الاجتماعي واندمجوا في الحوار وشجعوه، سيكونون أكثر قدرة على الحصول على معلومات تفيد قصصهم وتكون مستحقة للاستقصاء، حيث تشكل العلاقة مع القراء أمرا لا غنى عنه. ويضيف هرنانديز أن الوسائط الاجتماعية ضخَّمت قدرتنا على الوصول إلى الناس وزادت من حجم شبكة مصادرنا، وهو ما يتطلب من الصحفيين الاستقصائيين قدرا جيدا من التواجد والتفاعل في هذه الوسائط سيؤتي أكله يوما ما.
لقد بات المحتوى الذي يُنتجه المستخدم معينا لا ينضب من الأفكار والأخبار والآراء، فالكثير من القصص الصحفية المهمة بدأت بتغريدة على تويتر أو بمنشور على فيسبوك أو تدوينة. طائرة الخطوط الجوية الأميركية التي هبطت اضطراريا في نهر هدسون في يناير/كانون الثاني 2009 كان الحادث الذي عرفه العالم لأول مرة عبر صورة نشرها على تويتر شخصٌ كان موجودا على قارب قرب مكان هبوط الطائرة، وهذا مجرد مثال للكثير من الأخبار وأفكار التحقيقات الاستقصائية التي تظهر أول ما تظهر على المواقع الاجتماعية ويعمل عليها الصحفيون بعد ذلك.
إلى جانب أدوات البحث التقليدية مثل غوغل، باتت المواقع الاجتماعية على اختلاف أشكالها وأغراضها أدوات جديدة للبحث عن الناس وفيما ينشرونه من محتوى يفيد في العمل الصحفي بعد التحقق منه. واستخدام إمكانات البحث على تويتر أو فيسبوك أو إنستغرام أو يوتيوب يأتي بنتائج مختلفة تماما عما يمكن أن يحصل عليه الصحفي من البحث على محركات البحث التقليدية.
كذلك بات بإمكان الصحفيين ممن يعملون في مؤسسات صحفية أو بشكل مستقل؛ نشر ما ينتجونه من تحقيقات استقصائية عبر المدونات أو الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك والوصول إلى القراء في أي مكان من العالم بسهولة وتكلفة زهيدة، والاستعانة بردود أفعالهم لاستكمال القصة أو تعديلها.
يقول مؤلف كتاب "نحن الميديا" دان غيلمور الذي عمل صحفيا استقصائيا لفترة من حياته: "بعد كل قصة استقصائية جيدة، يتلقى الصحفي عادة مكالمات تخبره بأن القصة عظيمة، ولكن فاتك كذا وكذا". ويوضح غيلمور أن أفضل نتيجة من تحقيق استقصائي قد تأتي عبر الإعلان أن القصة يتم العمل عليها، و"الكثير مما سيأتي عبر حشد المصادر سيكون بلا قيمة، والبعض حتى سيقودونك إلى الطريق الخاطئ، ولكن في الوقت ذاته الكثير من الأدلة ستأتي عبر هذه الطريقة".
كما يمكن للصحفيين اليوم العمل بشكل جماعي ومنظم على الإنترنت بفضل أدوات سهلة ومتاحة مثل تطبيق "سلاك" ومجموعات فيسبوك، وتطبيقات الحوسبة السحابية مثل غوغل درايف، وهي الأدوات التي تتيح للصحفيين التواصل وتنظيم العمل خاصة في التحقيقات الاستقصائية التي تتطلب قدرا عاليا من التواصل في غرفة الأخبار.
المراقبة وحشد المصادر
في 2009 حصلت صحيفة الغارديان البريطانية على قرابة نصف مليون وثيقة ذات صلة بمصروفات وإنفاق أعضاء البرلمان البريطاني خلال 4 سنوات. كانت هذه فرصة ممتازة لمعرفة الكثير عن التجاوزات التي ربما حدثت في تلك المصروفات، ولكن العدد الكبير للوثائق قاد الصحيفة إلى فكرة الاستعانة بالقراء من أجل فحص وتدقيق تلك الوثائق، وهي الدعوة التي لبَّاها أكثر من 27 ألف قارئ للصحيفة على الإنترنت فأنجزوا تلك المهمة.
ما فعلته الغارديان يسمى "حشد المصادر" (crowdsourcing)، وهو دعوة الناس للمشاركة في مهمة صحفية مثل جمع الأخبار، جمع أو تحليل البيانات، عن طريق دعوة موجهة أو مفتوحة للمشاركة في التجارب الشخصية أو المستندات وغيرها بالاستفادة من تطبيقات الويب الاجتماعي، وهي الطريقة التي تستخدمها منذ سنوات مؤسسات إعلامية عديدة حول العالم من أجل الاستفادة من الجمهور كمصدر للمحتوى بشكل منظم، وهو ما أسفر عن الكثير من الإنجازات الصحفية. ويتم استخدام طرق وأدوات عديدة للتفاعل مع الجمهور وإشراكه مثل مجموعات فيسبوك ومواقع استطلاعات الرأي مثل سيرفي مانكي وغيره.
الصحفي الاستقصائي في الغارديان بول لويس عمل عام 2010 على قصة حول وفاة أحد المرحَّلين على طائرة من بريطانيا إلى أنغولا، حيث تعرض الحراس المرافقون للانتقاد بسبب معاملتهم القاسية. وللعثور على شهود عيان رأوا ما حدث على الطائرة، غرَّد لويس على تويتر سائلا أي شخص كان على الرحلة رأى ما حدث مستخدما وَسمًا (هاشتاغا) باسم الضحية، وحصل بالفعل على ردود تفيد بأن الرجل كان يطلب المساعدة طوال الرحلة ولم يحصل عليها، وساهم ذلك في كشف ما حدث للرأي العام والسلطات.
يقول المحاضر في الصحافة الرقمية بجامعة برمنغهام سيتي بول برادشو: "إن أراد المحرر استخدام صحافة حشد المصادر، فهذا يتطلب علاقة قوية كفاية بين الصحفي ومجتمعه". برادشو كان من أوائل الصحفيين الذين استعانوا بالوسائط الاجتماعية على الإنترنت لحشد الناس، حيث أطلق عام 2009 موقعا أطلق عليه اسم "ساعدني لأتقصى"، وهو الموقع الذي أنشئ من أجل مساعدة الناس والصحفيين على تقصي إجابات أسئلة ذات علاقة بالاهتمام العام، وكان وسيلة لإنجاز العديد من التحقيقات الاستقصائية الناجحة آنذاك.
طريقة أخرى للاستفادة من محتوى الجمهور وهي بمراقبة نشاطهم العفوي على المواقع الاجتماعية، وإعادة استخدام هذا المحتوى والعمل عليه والتحقق منه هو ما يسمى "تنضيد المحتوى" (content curation). وتوجد الكثير من الأدوات المدفوعة والمجانية التي تساعد في عملية المراقبة الدائمة هذه، مثل قوائم تويتر وتطبيق تويت دِك، وتطبيق "IFTTT" الذي يتيح صنع وصفات من المهام ذات الصلة، وتطبيق Buzz Sumo وغيرها الكثير.
كيف تغيرت المهنة؟
السؤال الآن: هل غيّرت التكنولوجيا من الصحافة الاستقصائية؟ وبأي طريقة؟ في الواقع أن الصحافة في جوهرها لم تتغير بعد وجود الإنترنت وتجلياته مثل الوسائط الاجتماعية، فما زال الصحفيون يجمعون المعلومات من المصادر ليعرفوا حقيقة الوضع حسب ما تيسر لهم من مصادر، وما زالوا بحاجة إلى التواصل مباشرة مع مصادرهم وجها لوجه، فالمهارات الأساسية باقية لم تتغير. الجديد مع الوسائط الاجتماعية أنه بات لدينا كصحفيين مصادر للاستعانة بها أكثر بكثير من ذي قبل، مما يتطلب منا مهارات إضافية وأدوات جديدة تعيننا على التعامل مع هذا الزخم بشكل لا يتعارض مع القيم الأساسية للمهنة.
يحدث هذا بينما تضع الوسائط الاجتماعية على الصحفي الاستقصائي الكثير من الضغوط، بجعله يراقب عددا ضخما من الحسابات والصفحات في الوقت نفسه، قد يحمل الكثير من المحتوى الذي لا يحتاجه الصحفي، مما يتطلب عملية مستمرة من الفلترة والتنظيم، مع احتياجه أيضا إلى استخدام أدوات مختلفة لمراقبة كل منصة من المنصات الاجتماعية على حدة.
فكما أضافت الوسائط الاجتماعية منافذ جديدة للصحفيين، أضافت عليهم عبء مراقبة تلك المنافذ باستمرار وتنظيم ما يأتي منها والتحقق منه. فهذه الوسائط قد تكون مساحة ممتازة لإيجاد الأفكار والمصادر، لكنها أيضا ملجأ مثالي لمروجي الشائعات وأصحاب المصالح ممن يعملون بشكل فردي أو لحساب جهات منظمة كالشركات والمنظمات والحكومات.
ولعل التحقيقات الاستقصائية من أكثر القوالب الصحفية التي تحتفظ للصحافة بأهمية وجودها في عصر الوسائط الاجتماعية، فالأخبار لم تعد حكرا على وسائل الإعلام وبات الناس يساهمون في صناعتها، لتأتي أهمية الصحافة فيما بعد في التقصي والتحقق. ولهذا تعد التحقيقات الاستقصائية نموذجا لما ينبغي على وسائل الإعلام العمل عليه من إضافة عمق وسياق واضح للأحداث وربطها ببعض لتبقى مفيدة وذات تأثير على حياة الناس. والفرصة هنا تكمن في الاستفادة من سمات تلك الوسائط الجديدة من سرعة وانتشار ومرونة في العرض وتنوع في أشكال المحتوى، إلى جانب الاستفادة من وجود التكنولوجيا في جيوب وأيادي الناس والسرعة الكبيرة في اتصالهم بالإنترنت.