لماذا سيلقى المحقق شارلوك هولمز ترحيبا إن أراد العمل في وحدة التحقيقات الاستقصائية التابعة لشبكة الجزيرة؟
في إحدى روايات سلسلة شارلوك هولمز، كان المحقق الإنجليزي يناقش دليلا مع صديقه الوفي واطسون.. كان الشرطيان يحققان في الطريقة التي وصل بها كنزٌ مدفونٌ إلى لندن. قدم هولمز تفسيرا محتملا، وأجابه واطسون "لكن هذا محض تخمين"، قال هولمز "بل هو أكثر من ذلك.. إنها الفرضية الوحيدة باعتبار الحقائق المتوفرة".
يتشابه العمل الذي يقدمه الصحفيون الاستقصائيون في جانب كبير منه مع ما يقوم به المحققون على شاكلة شارلوك هولمز.
غير أن كلمة "استقصائي" تستخدم بتوسّع في مجالنا، ولا تحمل في الغالب معنى دقيقا، إذ تُستخدم أحيانا لتضفي بريقا على عمل صحفي تقليدي. كما تُستخدم الكلمة في بعض البلاد مع أي محتوى خبري تتجاوز مدة عرضه دقيقتين. يزعم كثير من الصحفيين والبرامجيين أنهم استقصائيون، مع أنهم لا يقدمون سوى حقائق معروفة. لا يقلل هذا من أهمية الصحافة التقليدية وخواص السرد القصصي المطلوبة في هذا النوع من الصحافة، لكنها ببساطة ليست صحافة استقصائية.
في واقع الأمر، تختلف الصحافة الاستقصائية الحقيقية عن الصحافة التقليدية اختلافا جذريا، وتكمن الاختلافات الجوهرية في ممارسات العمل المتباينة فيها.
نُطبِّق في وحدة التحقيقات الاستقصائية التابعة لشبكة الجزيرة منهجية تشبه المنهجية التي يمكن أن يتبعها أي محقق. وفي حقل الدراسة الأكاديمية الصحفية، تُوصف في الغالب إحدى المنهجيات المشابهة لمنهجيتنا "بالسرد القائم على الفرضية". ويضيف صاحب أحد الكتب المهمة هذا التوضيح ليقول لنا "لقد استُخدمت طرق مشابهة في استشارات الأعمال، والعلوم الاجتماعية، وعمل الشرطة.. ما فعلناه هو التعامل مع الآثار المترتبة عليها (على الطرق) من أجل استخدامها في العملية الصحفية، ولخدمة أهداف الصحافة الاستقصائية".
إننا داخل وحدة التحقيقات الاستقصائية لا ننقل الحقائق التي نراها حولنا، فالصحافة التقليدية التي تشمل الأخبار والشؤون الحالية بصفة يومية أو أسبوعية، تفعل ذلك بنجاعة. يعمل المراسلون الصحفيون وفقا لمجموعة من القواعد، ويحاولون إنتاج صورة واضحة للعالم من حولهم، وهو ما يحدث غالبا عبر السعي وراء "موازنة" الآراء المختلفة. يحاول المراسلون الصحفيون أن يكونوا "موضوعيين"، ويرتكزون على ما يبدو كاتجاهين معاكسين للخبر.. إنهم ينقلون الروايات الرسمية للأحداث ويضعونها في الغالب أمام بديل ما، لكنهم لا يستقصون الحقيقة الكامنة وراء كل منها. تظهر المصادر في هيئة تسجيلات صوتية أو اقتباسات، حتى وإن لم يتحقق المراسل الصحفي مما ورد في هذه المصادر.
أما الصحافة الاستقصائية فتتعلق بتقديم الدليل لبرهنة صدق أحد الجانبين، أو ربما كذب كليهما، فلا تقبل بالنسخة المتداولة من "الحقيقة"، بل تبدأ بالقول إن ثمة نقصا في الصورة التي تنقلها الصحافة التقليدية للعالم من أجل فهمه.
ولكي نصل إلى حقيقة أخرى غير المتوفرة والشائعة، ينبغي علينا أن نقدم معلومات حصرية ومخفية، لا يمكنك أن تبحث عنها في غوغل كي تجدها، ولم ينقلها الصحفيون المحليون.. إنها معلومات جديدة تماما.
ومثلما يوحي شعار وحدة التحقيقات الاستقصائية، لا يتعلق عملنا بنقل الأخبار، بل بصناعة الأخبار. كما أن مخرجات وحدتنا تنقلها بانتظام المنظمات الإخبارية الأخرى، وهي علامة جيدة على ما إذا كانت التحقيقات حصرية حقا. تُغطي جدران مكاتبنا تقارير الأخبار التي تتناول تحقيقاتنا، إذ يشمل ذلك أخبارا نُشرت في الصفحات الرئيسية لعديد من الصحف العالمية مثل الغارديان البريطانية، ونيويورك تايمز الأميركية، وإلباييس الإسبانية، وميل أون صنداي البريطانية، وعديد من الصحف الأخرى.
لذا قد تتساءلون: كيف تبدؤون التحقيق في شيء لا تعلمون عنه شيئا؟ سوف يُستدعى شارلوك هولمز إلى مسرح الجريمة. لكن بالنسبة إلينا، يختلف الأمر قليلا.
إذا كنت محظوظا، قد تأتي القصة إليك.. قد يأتيك صوت عميق عبر الهاتف يبلغك بأن لديه وثائق سرية، أو قد يقرر أحد المبلغين عن المخالفات أن يسعى للوصول إليك. من المؤكد أن هذا لا يحدث بصورة عشوائية.. إننا نصنع حظنا بأنفسنا، إذ إن تطوير المصادر يتعلق بالإقناع وتشجيع الناس للكشف عن الأسرار والأدلة المتعلقة بالمخالفات.
إذا لم يحدث هذا فنحن بحاجة إلى فتح ملف تحقيقي. يعد هذا الفارق في الطرق التشغيلية هو الأكثر جوهرية بين ما تتبعه وحدة تحقيقات استقصائية وما تتبعه غرفة أخبار تقليدية أو قسم برامج تقليدي، وهنا يأتي دور شارلوك هولمز!
إننا نبحث عن أي شذوذ في الطريقة التي يقدم بها العالم نفسه، والطريقة التي يُنقل بها عبر الأخبار.. لدينا فكرة بأن ثمة شيئا في الأخبار لا يبدو مقنعا، وأن جزءا من الأحجية لا يتفق مع باقي الصورة.
نحاول كصحفيين استقصائيين دومًا أن نبدأ بوضع فرضيات مختلفة لموقف معين، تمامًا مثلما يفعل شارلوك هولمز حين يصل مسرح الجريمة، ونبدأ بطرح أسئلة عديدة من قبيل: هل من المعقول أن (أ) يقول الحقيقة بينما الواقعتان (ب) و(ج) تكذبان ذلك؟ هل يمكن أن تكون مجموعة من الإحصاءات دقيقة مع أنها تبدو مخالفة للمنطق السليم؟
يطلق محللو أدب روايات شارلوك هولمز على هذا "السبب والحس السليم". ويقولون "إنه تفكير قائم على معرفة مشتركة يمتلكها جميع الناس (ولكن نادرا ما يستخدمونها).. إنك تستخدم المنطق السليم عندما تطرح أسئلة تقول "هل يبدو هذا منطقيا؟" أو "هل هذا عملي؟" أو "هل هذا طبيعي؟" أو "هل هذا منطقي؟" أو "هل هذا معقول؟" أو "هل هذا جدير بالتصديق؟" أو "هل هذا واقعي؟".
ستجد في عديد من أعمال السير آرثر كونان دويل أن شارلوك هولمز يرشد واطسون إلى الطريقة الصحيحة لتكوين فرضية.. إنه دائما يبحث عن الدليل أولا. في رواية "فضيحة في بوهيميا"، يخبر هولمز واطسون قائلا "ليس لدي بيانات بعد.. إنه خطأ فادح أن يضع المرء نظرية قبل أن يكون لديه بيانات. وبدون وعي، يبدأ المرء في ليّ الحقائق كي تتماشى مع النظريات، بدلا من أن تتماشى النظريات مع الحقائق".
إن كل ما نفعله يعتمد على الأدلة، ورغم هذا، ومثلما يفعل أي شرطي يبدأ تحقيقًا، قد يشك في أنه يعرف مرتكب الجريمة، لكنه لا يملك دليلا كافيا لإدانته.
وبطريقة مشابهة، تكمن مهمة الصحفي الاستقصائي في السعي وراء دليل لدعم أي فرضية نعتقد أنها حقيقة، ولكننا لا نمتلك دليلا كافيا بعد لإثبات صحتها. تبقى الفرضية مجرد فرضية حتى يتم التحقق من صحتها.
ومثلما يسعى هولمز لإدانة شخص ما بارتكاب جريمة، تسعى صحافتنا للوصول إلى دلائل كافية لإثبات المخالفات والتجاوزات. قد يتعلق الأمر بإثباتنا أن (أ) قد خرق القانون.. في هذه الحالة، قد تستخدم السلطات ذات الصلة أدلتنا كي تحاكمه.. في حالات أخرى، قد نكشف عن حدوث خداع ومخالفات. بعبارة أخرى، قد نكشف عن معلومات أراد (أ) إخفاءها ومنع الآخرين من معرفتها.
وعلى عكس رجال الشرطة، ليست لدينا سلطة إجراء المقابلات أو الاحتجاز أو المساومات، ولكن بوسعنا اللجوء إلى طرق مبتكرة لجمع الأدلة. يمكن أن تتضمن هذه الطرق استخدام تسجيلات سرية، واستخدام خدعة ما لجذب المشتبه به، أو الاكتفاء بالمراقبة لتحديد ما هو بصدد القيام به.. إننا نفكر في كل الأوقات مثل شارلوك هولمز، ونسأل أنفسنا هل نحن قادرون على الوصول إلى أدلة كافية لإثبات المخالفات؟
بعد صياغة فرضيتنا المبدئية، إذا ظهرت حقائق جديدة، ربما نُضطر إلى إلغاء تحقيقنا لأن شكوكنا كانت خاطئة، أو قد نعدل الفرضية. فعل شارلوك هولمز ذلك عندما تعارضت البيانات الجديدة مع فرضيته، فقد قال هولمز في قصة "لغز الوجه الأصفر": "عندما نعلم الحقائق الجديدة التي لا يمكن أن تشملها معرفتنا، فإن هذا هو الوقت المناسب لإعادة النظر في موقفنا".
تتعلق الصحافة الاستقصائية أيضا باختبار فرضياتنا، ففي قصة "مغامرة الجندي الشاحب" اختبر هولمز نظريته حول سبب بقاء شاب صغير في منزل والده، ونصح واطسون قائلا "قد يكون هناك عدة تفسيرات باقية، وفي هذه الحالة يختبر المرء التفسير تلو الآخر حتى يحمل أحدها كمًّا مقنعا من الأدلة".
تتعلق الخطوة النهائية في أي تحقيق بتقييم الأدلة التي جمعها المرء، وتقرير هل هو قادر على الوصول إلى نتيجة وخلاصة.. نتساءل "هل يمكننا إثبات أن (أ) لم يكن يقول الحقيقة؟"، ثم تسعى وحدة التحقيقات للحصول على استشارة من المحامين والالتزام بما يطلبونه من أدلة مهما كان قدرها، وهو نفس القدر الذي احتاجه شارلوك هولمز ليثبت أمام القاضي وهيئة المحلفين أن مشتبها به ارتكب جريمة.
يوجد جانب تشابه آخر.. تتوصل أعمال الصحافة الاستقصائية الأفضل إلى حقائق جديدة تجعل العالم يبدو منطقيا.
ولذلك، حين صاغ هولمز نظرياته، كان يبحث دائما عن موضوع مشترك يربط بوضوح بين الحقائق غير المترابطة. في رواية "كلب آل باسكرفيل"، وصف واطسون عقل هولمز بـأنه "يحاول دوما وضع إطار لموضوع ما، حيث يمكن لجميع هذه الحلقات التي تبدو غريبة وغير مترابطة أن تظهر ملائمة ومُركَّبة داخله".
فلو كان هناك شارلوك هولمز حقيقي يعيش بيننا اليوم، فأعتقد أنه كان سيصبح صحفيا استقصائيا ناجحا.