دعاني صديقي حميد لشرب فنجان قهوة في مكتبه، وحميد هذا لا يتصل بي عادة إلا إذا كانت لديه أخبار فضائحية عن مجتمع الصحافة، طلبت منه على الهاتف أن يزودني برؤوس أقلام عن المصيبة التي حصلت أو ستحصل، لكنه ضحك وقال: تعال بسرعة.
انطلقت بالفعل إلى حميد الذي يعمل في مؤسسة صحفية على بعد شارعين من مكان عملي، وما أن دخلت من باب مكتبه حتى باغتني بالسؤال مباشرة عن أخبار زميلنا سالم! قلت له وأنا أسحب كرسيا للجلوس: سالم حسبما أعرف ما زال على حاله، يعمل في تلفزيون محلي في النهار، ومساءً يدير دكانا للمواد التموينية والسكاكر فتحه قبل فترة ليعتاش منه، فالصحافة لا تُطعم خبزا اليوم كما تعلم.
انتبهت وأنا أحكي أخبار سالم أن حميد غير منتبه لي، بل كان منشغلا بنقل أصابعه بين فأرة الكمبيوتر وأرنبة أنفه، وظل يبتسم بطريقة خبيثة أعرفها جيدا، فقلت له مباشرة قبل أن يعلق على كلامي: هات من الآخر، ماله سالم؟.
رفع حميد مستوى الصوت في كمبيوتره تدريجيا وكأنه يكشف عن سر خطير، فجاء صوت زميلنا سالم هادرا عبر أثير راديو عالمي يعتبر من أعرق الإذاعات الدولية الناطقة باللغة العربية.
لم يصر سالم الذي تخرج من الجامعة حديثا مذيعا في الراديو الشهير، بل ضيفا تم اختياره للحديث عن رأيه في حرب اليمن وما سمي "عاصفة الحزم"، وبينما كنت وحميد نصغي بذهول لحديث سالم وكأنه خبير في الشأن اليمني وقضايا العرب، انفلتت مني ضحكة عالية، فهجم حميد باتجاه باب مكتبه المخلوع محاولا إغلاقه كي لا نزعج زملاءه بصوت قهقهاتنا، وعاد إلى كرسيه وهو يلعن عمال الصيانة الذين يَعدونه كل يوم بالمرور لإصلاح مقبض الباب ويَخلفون.
قبل استئناف الحديث عن سالم والشأن اليمني، طلبت من حميد تسجيل رقم هاتف لعامل صيانة يدعى عامر نعرفه منذ زمن، وقلت له أن يتصل به فيما بعد لإصلاح الباب.
سألت حميد باستغراب عن سبب اختيار الراديو لزميلنا سالم كي يعلق على حرب اليمن؟ هل هو مهتم بالشأن اليمني مثلا؟ قال حميد وهو يضحك: طبعا، إنه خبير بالشأن اليمني، والدليل أنه نشر ثلاثة منشورات في صفحته على فيسبوك بخصوص حرب اليمن.
شغَّلَ حميد حلقة أخرى من البرنامج السياسي لقضايا العرب والعالم على نفس الراديو الدولي الشهير، وكان سالم أيضا ضيفا في الحلقة للحديث عن رأيه هذه المرة في انضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية.
نعرف أنا وحميد أن هذه القضايا أكبر من سالم ومنا، لذلك كنا نضحك كالمجانين ونحن نستمع لزميلنا وهو يتحدث فيها كمحلل خبير عارف بخبايا الأمور.
خرجت من مكتب حميد وأنا أفكر بضيوف البرامج الحوارية في الإذاعات والفضائيات، وكيف يتم تقديمهم للجمهور كمحللين وخبراء وباحثين وأصحاب رأي. وعندما ركبت في سيارة الأجرة، فكرت بالناس العاديين الذين كوَّنوا وَعيهم السياسي والاجتماعي والثقافي والديني وغيره من وراء هؤلاء الضيوف؛ إن كان كل ذلك أو بعضه مزيفا، فالصحافة ترتكب جريمة بحق جمهورها الهش.
عندما وصلت إلى البيت، راجعت مبادئ اختيار الصحافة لضيوفها، ولفتني تكرار كلمة "التأكد" في كل سطر يتحدث عن هذه المبادئ الثابتة:
التأكد من اختيار ضيوف نشرات الأخبار والبرامج الحوارية بعناية، والتأكد من عدم خضوع اختيارك للضيف لأي ضغوط أو مؤثرات، والتأكد من وقت لآخر بأن ضيوفك الذين تعرف مسبقا استعدادهم لإجراء مقابلات ما زالوا الأفضل لإجراء تلك المقابلات، والتأكد من أهلية الضيوف وإلمامهم بالمواضيع المطروحة، والتأكد من تفادي تعريف الضيوف بمسميات هلامية لا تنطبق عليهم.
عادة تستعين وسائل الإعلام بمكاتبها في البلدان البعيدة لاختيار ضيوفها الذين لا يعرفهم المذيع من هذه البلدان، لكنني أستبعد أن يكون هناك من رشَّح سالم لمذيعة البرنامج السياسي على الراديو الشهير ذاته.. وللتأكد، قمت بزيارة سرية لصفحة سالم في فيسبوك، وحرصت على ألّا أترك أثرا بـ "لايك" أو تعليق تجنبا لإحراجه، ووجدت أن المذيعة وسالم أصدقاء افتراضيون في فيسبوك. وعلى الأرجح قَدَمَ سالم نفسه للمذيعة على أنه صحفي سياسي مخضرم كما نفعل دائما في عز مراهقتنا المهنية التي من الصعب وضع حد لها في هذا الفضاء الأزرق الذي يتيح للناس كتابة أي سيرة ذاتية تعجبهم، فيتلقفها الصحفيون ويبنون عليها.
ورطني حميد في قضية بحث صعبة عندما طلبني لشرب فنجان قهوة في مكتبه، ها أنا أضع نفسي مرة مكان سالم وأخرى مكان المذيعة.
لو كنت مكان سالم هل كنت سأرفض الإدلاء بدلوي لراديو دولي شهير يناقش موضوع موزمبيق مثلا؟ أم كنت سأوافق فورا وأجهز نفسي بقراءة صفحتين من هنا وهناك عن الموزمبيقيين؟ بصراحة لا ألوم سالم، ليس لأنني من الممكن أن أفعل مثله في موقف مشابه، بل لأن الصحافة تتحمل مسؤولية اختيار ضيوفها كاملة.
وضعت نفسي مكان المذيعة، وقلت سأجرب أن أتأكد بأن سالم مناسب للمقابلة، وبكبسة زر فقط وقراءة التعليقات على منشور سالم الذي طلب فيه من أصدقائه الاستماع له غدا للحديث في الشأن اليمني على الراديو العريق (...) يمكن أن أتأكد من أهلية سالم للموضوع.
مر وقت طويل ولم ألتق حميد، لكنني توقعت اتصالا منه عندما هبت انتفاضة القدس في تشرين أول أكتوبر 2015، ففي مثل هذه الأحداث تكثر خطايا الصحافة، وحميد مثل معظم الصحفيين في بلدي فلسطين، يقضي وقت فراغه في تصيد أخطاء زملائه وتمريرها للبقية.
وكما توقعت اتصل حميد ودعاني لزيارته فورا من دون مقدمات، حتى أنه لم يقل تعال نشرب فنجان قهوة أو كأس شاي.
وصلت إلى مكتب حميد، وقبل أن أجلس مددت يدي إلى الباب لإغلاقه لأنني متأكد بأننا سنضحك كثيرا، لكنني لم أجد المقبض، فقلت له بغضب: "متى ستصلح بابك؟ أعطيتك رقم عامر في آخر مرة زرتك فيها قبل شهور، قلت لك أطلبه يأتي فورا".
قال حميد وهو يدير شاشة الكمبيوتر جهتي "ها هو عامر بشحمه ولحمه".
وقفت مصدوما أمام شاشة يطل منها عامر، ويتحدث في بث مباشر على إحدى الفضائيات العربية كإعلامي فلسطيني استضافته القناة للتعليق على تسويق الرواية الإسرائيلية على صفحات الفيسبوك الفلسطينية في انتفاضة القدس.
نعم، على الشاشة.. ها هو عامر يُفخِّم صوته ويمطُ حرف العطف بين كل كلمتين كما كان يفعل في الحقيقة وهو يتندر على الصحفيين عندما يجدون أنفسهم في مأزق أسئلة لا يعرفون إجاباتها، ويتقن حشو إصبعه في أذنه لتحريك سماعة البث ويقول "كرري السؤال لو سمحتي، ك.. ك.. كرري السؤال"، ويغرق في إلقاء بعض الجمل العامة التي يحفظها كخطاب، فيخطب ردا على سؤال عن سبب تفوق رواية الصحفيين الإسرائيليين على الرواية الفلسطينية بالقول: "لن نقبل، ونحن الآن كإعلاميين يبدأ التحرير من عندنا... إلخ".
قطع حميد حبل شرودي الذهني مع عامر عندما قال إن ما يعزُ عليه أكثر من قضية اختيار الصحافة لضيوفها، هو أن الناس كلهم صاروا محللين وإعلاميين وخبراء وأنه على ما يبدو لن يجد من يُصلح له مقبض الباب.