بدأ الحديث اليوم يكثر من قبل النقاد والمختصين في المجال الإعلامي عن مدى تأثير وسائل الإعلام في الجمهور وتأثر تلك الوسائل بالجمهور.
الإعلام يتحكم في الجمهور
منذ بداية ظهور وسائل الإعلام وتطورها إبان القرن العشرين، بدأت العديد من النظريات تتبلور حول مفهوم التأثير القوي لوسائل الإعلام بالجمهور انطلاقا من نظرية الطلقة السحرية التي وضعها "هارولد لاسويل"، مرورا بنظرية وضع الأجندة لـ"والتر ليبمان"، وغيرها.
وتقوم نظرية الرصاصة السحرية على الدور الفعال لوسائل الإعلام في حياة الفرد والجمهور، بينما تركز النظرية الثانية على ما تسلط عليه وسائل الإعلام الضوء، ولذلك عرفت أيضا بنظرية "ترتيب الأولويات"، حيث استند صاحبا النظريتان –لاسويل وليبمان- على عدة مقومات، منها:
- النظرية السلوكية الفردية لـ"سيجموند فرويد" التي تقوم على أن سلوك الأفراد ينبع من اللاوعي واللاشعور. ويرى مؤسِّسو هذه النظرية أن وسائل الإعلام تستهدف اللاوعي الفردي .
- ظهور الدعاية السياسية في الحرب العالمية الأولى 1914/1918 وما قام به الاتحاد السوفييتي والولايات والمتحدة من حروب معنوية ونفسية إبانها.
- تطور السينما التي ظهرت في فرنسا على يد الأخوين ماريان عام 1895، ثم تطورت عام 1929 ليظهر مفهوم السينما الناطقة.
- حادثة غزاة المريخ في الولايات المتحدة التي كان بطلها مقدم البرامج بشبكة "سي بي إس" الإذاعية أورسون ويلز، حيث قام الرجل باقتباس رواية الخيال العلمي "حرب العوالم" خلال حضوره عيد القديسين سنة 1938. تحكي القصة عن غزاة يهاجمون الأرض قادمين من كوكب المريخ، وفي لحظة انقلبت النكتة إلى حقيقة صدقها الأميركيون وانقلبت أميركا رأسا على عقب.. الآلاف يتدفقون للشوارع هروبا من الموت المحقق ومن غزاة المريخ الخياليين، ما أدخل البلاد في مشكلة عويصة استدعت محاولات لتهدئة الجماهير فخرج الرجل البارع ويلز محاولا أن يصلح ولو قليلا مما أفسده وظل يحاول ويحاول حتى صدق الجمهور الأميركي أنها كانت مجرد نكتة ساذجة أبكت أكثر مما أضحكت.. وقيل يومها إن الجمهور أصبح تحت رحمة وسائل الإعلام تسيره كيف شاءت وأنى شاءت.
يرى المتتبعون لشأن الإعلامي وحاله اليوم أن هذه النظرية أصدق ما يصف حال وسائل الإعلام مع الجمهور اليوم. ومع دخول رأس المال إلى الإعلام وتحكّمه فيه عن طريق الإشهارات والتسويق، لا يمكن الحديث عن أي دور للمشاهد بل بات الجميع متأثرا بالإعلام بكل أشكاله سواء المرئي أو المكتوب، وأصبح يطلق عليه أسماء من قبيل: صاحبة الجلالة والسلطة الرابعة.
وفي منطقتنا العربية، وصل الأمر بالبعض باتهامه بصناعة ثورات الربيع العربي لشدة تأثيره.. نظرة يختلف معها المعارضون للتأثير القوي لوسائل الإعلام الذين يرون أن الجمهور اليوم هو الذي يحكم ويتحكم.
الجمهور أكثر من مستقبِل
لقد جاء طرح هذه القضية الآن بعد التطورات التي شهدتها وسائل الإعلام، فقد تناولت مؤخرا بعض الأحداث لكنها فشلت في تغيير توجه الجمهور، كما حدث في انتخابات التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني في الولايات المتحدة الأميركية التي فاز بها المرشح الجمهوري دونالد ترامب، مفاجئا الجميع ومخالفا كل التوقعات والاستطلاعات والتكهنات الإعلامية .
بدأ جميع المختصون يعودون إلى النظرية القديمة التي تحدثت عن التأثير الانتقائي لوسائل الإعلام مستشهدة بحادثة قريبة من حادثة فوز ترامب.. حيث قامت وسائل الإعلام بحملة دعاية قوية ضد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت خلال انتخابات سنة 1940، ولم يترك الإعلام يومها حيلة لتحطيم صورته أمام الجمهور الأميركي ولكن المفاجأة كانت أنه تم إعادة انتخاب الرجل لولاية أخرى رغم مرضه.
بول لازارسفيلد، صاحب نظرية "تدفق المعلومات على مرحلتين"، يرى أن المعلومات تصل إلى الجمهور عبر وسيلتين (مرحلتين): وسائل الإعلام وقادة الرأي (Opinion Leaders)، ولأن لدى كل شريحة من الجمهور نخبة أو صفوة (مهندس، مثقف، دكتور، متتبع للأخبار) يلجأ إليه الجمهور في كل وقت ليشرح له ما ورد في النشرة أو يأتيه بالتفاصيل الكاملة.
ويرى لازارسفيلد بأن تأثير قادة الرأي في الجمهور أكثر من تأثير وسيلة الإعلام، لأن الجمهور غالبا ما يتبع قائده في كل شيء، ولا يلجأ للوسيلة إلا للفرجة وللاستماع للخبر.. فهو إذا يحتاج لمن يشرح ويحكم.
ويدعم أصحاب هذه التوجه رأيهم بعدة عوامل تساهم في تفسير الدور الفعال للجمهور من أهمها:
- المواطن الصحفي
ظهر مفهوم صحافة المواطنة في الولايات المتحدة الأميركية مع ظهور الإنترنت، حيث أصبح المواطن يشارك في بث المعلومة والتعليق على الأخبار بل وصناعتها والمشاركة فيها.. وسرعان ما تطور ذالك ليظهر التدوين كمنافس قوي لكبرى مصادر الخبر من الوكالات العالمية الكبرى.
- الإعلام الرقمي
ما يسمى حديثا بمفهوم الإعلام الرقمي من أكثر الأمور التي ستجعل الجمهور يتفوق على الإعلام ويتحكم.. فمع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتوتير وغيرها، بدأ المشاهد يتحكم في المشهد الإعلامي عن طريق ما يعرف بالتدوين، وأصبحنا نشاهد كبرى مؤسسات الإعلام العالمية والعربية تتجه إلى ذالك المجال علها تستطيع التحكم فيه أو على الأقل تخفف من ضرره عليها في ما بات يعرف اليوم بالإعلام الافتراضي.
ولهذا، فقد باتت كبريات وسائل الإعلام تمنح الجمهور مساحة للمشاركة والتفاعل مع برامجها ونشراتها الإخبارية عن طريق التقرب إلى جمهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تصنع المشاهير وتُسقط بعض نجوم وسائل الإعلام. بل إن بعض المذيعين ومقدمي البرامج باتوا يخضعون لشريحة الجمهور التي تتابعهم وأحيانا لا يستطيعون الخروج عن النص والفكرة الأساسية التي كونها الجمهور عنهم خوفا من فقدانهم.
يرى مختصون في المجال الإعلامي بأن مستقبل وسائل الإعلام هو العالم الافتراضي الذي يعتبر الجمهور سيده.. لكن السؤال سيظل مطروحا دوما حول من يحكم من.. الإعلام أم الجمهور؟