في كلّ بيت تدخل إليه -باستثناءات جد محدودة في بعض المناطق الريفية التي لا يصلها الكهرباء أو تلك التي يعانيسكانها من الفقر المدقع- لا بد أن تجد جهاز التلفاز في ركن ما من المنزل، لدرجة أنه تحوّل إلى قطعة أساسية من مكوّنات الفضاء العائلي. مكانة لم يتخذها هذا الجهاز اعتباطيا، فقد شكّل فرصة سانحة لأفراد الأسرة الواحدة لأجل التجمع حول عرض يغري بالمشاهدة.
في عام 2026، سيُكمل جهاز التلفاز قرنا من الوجود، أي منذ بث أول صور تلفزية على يد المهندس البريطاني جون لوجي بيرد في المعهد الملكي بلندن (تاريخ اختراع التلفاز شارك فيه أكثر من اسم). مرّ الجهاز بمراحل متعددة، بدءًا من بث بضعة دقائق من الصور، ثم الفيديو، ثم البث بالألوان، ثم البث المباشر، حتى وصلنا اليوم إلى التلفاز الذكي، لكن مع هذا التطوّر التكنولوجي الحاصل والتوجه الكبير نحو الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية والألواح الإلكترونية، يُطرح سؤال حول مصير آلاف القنوات التلفزيونية التي تتنافس فيها بينها لجذب المشاهدين: هل تعيش التهديد ذاته الذي طال الصحافة المطبوعة مثلا بعد انتشار الإنترنت لدرجة أن هناك من يتنبأ بانقراضها؟
أرقام توّضح الخطر
منذ البداية تَظهر المقارنة صعبة بين الصحافة المطبوعة والبث التلفزيوني، ففي الوقت الذي لا يمكن فيه للورق أن يدخل ضمن نطاق الذكاء الاصطناعي، يستطيع التلفاز أن يتلاءم مع التطوّر التكنولوجي الحاصل، والنتيجة أن لدينا أجهزة تلفاز تستقبل القنوات الفضائية دون الحاجة إلى جهاز إضافي، كما أنها ترتبط بالإنترنت، وعبرها يمكن الولوج للكثير من التطبيقات والربط بأجهزة أخرى كالحاسوب والهاتف، ومن خلالها يُمكن مشاهدة برامج تحت الطلب، لكن قدرة التلفاز على مواكبة التقنيات الحديثة لم تُنه التهديد الحاصل، بل قد تكون فاقمته، فالكثير من الأرقام تبيّن تراجعا واضحا في مشاهدة البث التلفزيوني عبر أجهزة التلفاز.
اعترفت ميشيل غوتيري، المديرة العامة لقناة ABC الأسترالية، خلال لقاء خاص مع صناع برامج تلفزيونية، أن البث التليفزيوني مات أو في طريقه نحو ذلك، ثم صرّحت أمام العموم (قلّلت من حدة لهجتها) أن القناة باتت تحتاج إلى شركاء جدد حتى تكون متوفرة في كل مكان، ما دام ذلك الزمن الذي تنتظر فيه القناة من المشاهد أن يبحث عنها قد انتهى.
أدلة كثيرة عززت اعترافها في تقرير (1) نقلته جريدة the Saturdaypaper، فجهاز التلفاز لم يعد يجذب المشاهدين الشباب داخل أستراليا، بل إن عددا منهم ترعرعوا دون أن يعتادوا على الجلوس قبالته لمشاهدة القنوات بسبب ارتباطهم الدائم بالشبكات الاجتماعية والألعاب.. إحصائيات كثيرة من داخل البلاد تبين ذلك، فإذا كان نصيب مشاهدة البث المباشر للقنوات التلفزيونية يحتل حصة الأسد من معدل مشاهدة الفيديو شهريا داخل أستراليا (81 ساعة من أصل 90,16 ساعة)، مقابل نِسب منخفضة للهاتف واللوح الإلكتروني، فإن التدقيق في النسب يُبيّن أن الفئة العمرية فوق 65 سنة هي الوفية لجهاز التلفاز بمعدل 158,43 ساعة شهريا، بينما لا تشاهد الفئة العمرية ما بين 25 و34 سنة سوى 57 ساعة.
وإن كان من المعروف أن الفئة الشابة غالبا ما تشاهد التلفاز أقلّ من فئة الشيوخ للارتباطات المهنية والدراسية وحتى الترفيهية، فإن ما يؤكد تراجع الإقبال على البث التلفزيوني هو معدل مشاهدة البرامج الترفيهية الذي انخفض داخل أستراليا، إذ لم تعد تحقق تلك الأرقام الضخمة كما في السابق، وانخفض المعدل اليومي لمشاهدة التلفاز من ثلاث ساعات ونصف أو أكثر في السابق إلى ساعتين ونصف فقط حاليا.
بعيدا عن أستراليا، لنأخذ مثال الولايات المتحدة، إحصائيات موقع ستاتيستا (2) الخاص بالبيانات توضح أن نسبة مشاهدة الشباب ما بين 18 و24 سنة للبث التلفزيوني انخفضت من 26,28 ساعة أسبوعيا عام 2011 إلى 14,31 أسبوعيا عام 2016، أي بانخفاض يقترب من 40 بالمئة. كما توضح إحصائيات DEFY Media(3) أن 90 بالمئة من مستهلكي الفيديو في الفئة العمرية المذكورة يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أول لمشاهدته، بينما لا تزيد الاستعانة بالبث التلفزيوني في هذا الجانب عن 56 بالمئة.
مثال آخر يُبيّن حجم الخطر الذي يتهدد البث التلفزيوني، فأيّ متتبع لمجال الإعلام، يعلم أن الإعلانات تمثل مصدرا أساسيا من مصادر تمويل القنوات الفضائية، لكن عندما تصل توّقعات موقع متخصص في الإعلان كـ Emarketer (4) بأن تصل نفقات الإعلانات على الفيديوهات الرقمية (عبر استخدام الإنترنت) إلى 22,18 مليار دولار عام 2021 داخل الولايات المتحدة، ويقارن ذلك بتراجع طلب المُعلنين على القنوات التلفزيونية التقليدية، فإن صناع الإعلام المرئي مدعوون فعلا للانتباه إلى الظاهرة.
يوتيوب ونتفليكس.. الخطر القادم
لو لم يقع هذا التطوّر الذي تشهده أجهزة التلفاز سواء عبر تقوية تجربة المشاهدة من خلال شاشات باهرة، أو من خلال ارتباطها بالإنترنت وتطبيقاته، لربما قد قُطعت شعرة معاوية بينها وبين الجيل الجديد الذي بات يستخدم جهاز التلفاز بشكل غير تقليدي، لكن هذا التطور، وإن حَفظ الجهاز في حد ذاته، بما أن مبيعات أجهزة التلفاز لا تزال مستمرة بتقنيات مُدهشة تتطوّر سنة بعد سنة، فإنه لم يستطع درء الخطر عن البث التلفزيوني، إذ يبدو أن الجهاز يتحوّل إلى أداة لمشاهدة الفيديو عبر الإنترنت أكثر من القنوات التقليدية.
أشهر منصتين جعلتا الفئات الشابة تستمر في استخدام جهاز التلفاز هما اليوتيوب ونيتفليكس. المثال الأوّل تجاوز مجال استخدامه الذي ظهر فيه لأول مرة، أي الحاسوب، إلى الهاتف الذكي واللوح الإلكتروني قبل أن يصل في السنوات الماضية إلى التلفاز الذكي، ممّا جعله يوّفر لملايين المستخدمين عبر العالم إمكانية مشاهدة ما يرغبون فيه من مقاطع فيديو على شاشتهم في الوقت الذي يريدون، فأضحت مشاهدة الأفلام الوثائقية والتخيلية والبرامج الحوارية والأغاني مُتاحة بشكل أسهل ممّا هي عليه في القنوات التلفزيونية التي باتت ترى في اليوتيوب شرا لا بد منه، إذ تعلم أن نشر برامجها في هذا الموقع قد يقلّل من نسبة متابعة البرامج في وقت البث، لكنها تدرك أن عدم امتلاكها حسابا في هذه المنصة سيؤثر سلبا على سمعتها وانتشارها.
أما نتفليكس، مثالنا الثاني، فقد أضحى اليوم أشهر منصة للفيديو حسب الطلب (VOD) عبر العالم، برقم بلغ هذا العالم مئة مليون مشترك (5)، وقوة هذه الشركة التي بدأت قبل عشرين عاما في مجال تأجير الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وتوزيعها عبر البريد ثم انتقلت إلى بثها عبر الإنترنت، ليس فقط في تقنية المحتوى حسب الطلب، بل كذلك في المحتوى الخاص بها، إذ استحوذت على وقت الذروة في العروض التلفزيونية بأكثر من بلد بفضل إنتاجاتها الخاصة رغم كونها غير مجانية، ممّا جعل قيمتها تصل في السوق إلى 78 مليار دولار.
ومع اضطلاع المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي بوظائف نشر الأخبار في وقت قياسي بالصوت والصورة لا سيما مع الاستثمار الكبير لكبريات مؤسسات الإعلام الرقمي في الفيديو، يتبيّن أن الدور الإخباري للقنوات التلفزيونية لم يعد قائما بالأهمية ذاتها التي كان عليها الحال سابقا عندما كانت هذه القنوات تحتكر الفيديو الإخباري، والاستنتاج ذاته بخصوص برامج الترفيه مع انتشار منصات الفيديو تحت الطلب التي باتت تستقطب مشاهدين ملّوا من انتظار أن تجود عليهم قناة ما بفيلم صدر قبل مدة طويلة في توقيت معيّن قد لا يناسبهم، ممّا قد يجعلنا نتساءل: ما مصير القنوات التقليدية مع هذا التطوّر؟
تطوّر كي لا تلتهمك التكنولوجيا!
هناك عدة سيناريوهات لمستقبل البث التلفزيوني مع التطوّر الحاصل في التكنولوجيات الحديثة، يمكن تقسيمها إلى خمسة:
-
المشاهدة السلبية: يستطيع التلفزيون أن يستمر في الاشتغال دون أن يعيره أحد اهتماما أو أن يجلب اهتماما لحظيا ينجلي بسرعة، نتحدث هنا عن المشاهدة السلبية عندما يكون الجهاز شغالا في المنازل أو المطاعم أو المقاهي أو الفنادق أو مؤسسات عامة أخرى، دون أن تحظى برامجه بمتابعة بشكل دقيق. يستفيد التلفاز هنا من العادة الإنسانية التي دأبت على وجوده، لكن دوره يبقى على سبيل الاستئناس وليس لأجل متابعة برامجه.
-
التحوّل نحو الفيديو حسب الطلب: انتعشت خلال السنوات الأخيرة منصات نتفليكس وأيس فليكس وهولو وغيرها من خدمات الفيديو حسب الطلب، بشكل أثر كثيرا على العادات التلفزيونية للمشاهدين الذين باتوا يفضلون مشاهدة البرامج التي يريدون في الوقت التي يريدون، ممّا يحث القنوات التلفزيونية على التحوّل نحو هذه الخدمات أو توفيرها للمشاهدين، وهو أمر بات جليا عند مجموعة من الشبكات العربية التي أضحت تقدم هذه الخدمات إلى جانب قنواتها التقليدية.
-
ملاءمة أكبر مع منصات العرض: الاستمرار في المنافسة، وكما قالت مديرة ABC الأسترالية، يفرض الوصول إلى المشاهد وليس انتظاره، ممّا يعني الوصول إلى حاسوبه وهاتفه الذكي ولوحه الإلكتروني بدل الاقتصار على الحضور في جهاز التلفاز، وهنا بات ضروريا توفير إمكانية مشاهدة القناة عبر الإنترنت في أي مكان وعبر أي جهاز إلكتروني دون الحاجة لمستقبل هوائي (ما يعرف بـIP TV)، مع مراعاة توفير البث بجودة مختلفة تراعي سرعة الانترنت.
-
البث المباشر للرياضة: لا تزال المنافسات الرياضية المباشرة تمثل أحد أهم الأحداث التي تجلب القنوات التقليدية من خلالها المشاهدين وتحقق عبرها نسب مشاهدة جد مرتفعة (بلغ عدد مشاهدي إحدى مباريات الكلاسيكو هذا العام داخل إسبانيا 6.3 مليون مشاهد(6))، فلا توجد حاليا أيّ خدمة تعمل بشكل قانوني تتيح منافسة القنوات التقليدية في البث المباشر للأحداث الرياضية التي باتت أسعار الحصول على حقوقها غالية الثمن، بما أنها تشكل أحد المنافذ الأخيرة لجلب أكبر عدد من المشاهدين، زيادة على أن هذه المنافسات، وعكس بقية البرامج المباشرة كالحوارات، تنتهي قيمتها، بالنسبة للمشاهد، بعد نهاية البث المباشر، ممّا يجعل أغلبية المشاهدين يحرصون على متابعتها مباشرة.
-
البرامج الحصرية: كما عليه الحال مع الصحافة المطبوعة، استمرار القنوات في المنافسة يفرض عليها التميز عمّا هو موجود في المواقع الإلكترونية، ممّا يعني تقديم برامج حصرية تجلب الاهتمام كالحوارات المباشرة التفاعلية مع الجمهور والتغطيات الإخبارية الحصرية والبرامج الاجتماعية المؤثرة، مع بذل مجهود أكبر في الإعلان وتعريف الجمهور بهذه البرامج حتى يتابعها في أوقات العرض بشكل أكبر من متابعة تسجيلها في الإنترنت.
ختاما، يمكن القول إن السيناريوهات السابقة تنطلق من حقيقتين واضحتين: الأولى هي أن جهاز التلفزيون، شأنه شأن القنوات الفضائية، قابل لأن يساير التطور التكنولوجي، بشكل يفوق بكثير الصحافة المطبوعة والراديو. والحقيقة الثانية هي أن تطوّر وسائل الإعلام عبر التاريخ لم يلغِ سابقاتها، فالتلفزيون لم يدفع الراديو إلى الانقراض، والصحافة الإلكترونية لم تُصب في مقتل الصحافة المطبوعة (مع كل التراجع الذي وقع لهذه الأخيرة)، ممّا يُعطي للبث التلفزيوني هامشا للمناورة لأجل الاستمرار على قيد الحياة في مواجهة غول تكنولوجي لا يرحم الغافلين: إما أن تسايره وتطوّر من إمكانياتك حتى تستفيد منه، وإما أن يبلعك وينهي مسارك أو يعرقله، ولا تعوزنا الأمثلة في ذلك، فمن يتذكر كيف استحوذت هواتف نوكيا على العالم قبل سنوات، ثم فشلها في التخطيط للمستقبل، فالتهمها عصر الهواتف الذكية وحوّلها إلى ذكرى كان فيها الناس يلعبون مع الثعبان Snake.
المصادر
(2) https://www.statista.com/chart/3613/tv-usage-by-american-teens/
(3) https://www.fool.com/investing/2016/08/13/its-official-the-tv-industry-is-dying.aspx
(5) http://money.cnn.com/2017/04/17/technology/netflix-subscribers/index.html
(6) http://www.kooora.com/?n=613957&cancomp=14183