عيش أوروبا -والغرب عموماً- أزمة بنيوية تهدد صرحها الديموقراطي، مع تنامي نفوذ اليمين الشعبوي، وتراجع نسبة الإقبال على الانتخابات (الانتخابات الجزئية الأخيرة في فرنسا سجلت أدنى مستوى مشاركة منذ الحرب العالمية الثانية)، وعدم القدرة على استيعاب النزعات القومية (انفصال إقليم كتالونيا نموذجاً)، وحالة الترهل البادية على التكتّل الأوروبي خصوصاً بعد معضلة البريكست.
لكن يبقى ما يهمنا في هذه المقالة هو التراجع غير المسبوق لثقة المواطن الأوروبي في وسائل الإعلام، كمظهر من مظاهر حالة الركود الديموقراطي الغربي، وهذا وصف للمفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما.
مؤشر أزمة الثقة بين المواطن الغربي والصحافة هو ما كشف عنه استطلاع رأي للمؤسسة الفرنسية "كانتار سوفراس" (kantar sofres) بوصول ثقة الفرنسيين في الإعلام إلى أدنى مستوياته منذ العام 1987، أي أكثر من ثلاثة عقود. وضعية قد يربطها البعض بالمواجهة التي حدثت مؤخراً في فرنسا بين رجال الإعلام ومتظاهري السترات الصفراء، عندما هاجم هؤلاء عدداً من الصحفيين بدعوى أن تغطيتهم للاحتجاجات كانت متحيزة لصالح رجال الأمن، لولا أن هذا الاختلاف في وجهات النظر كان النقطة التي أفاضت الكأس في العلاقة بين الصحافة وما يمكن أن نسميه -تجاوزاً- الرأي العام الفرنسي. فهناك أسباب أعمق أفضت إلى ما نعيشه الآن من خسارة وسائل إعلام عريقة لمساندة متابعيها، وهذه الأسباب -كما سنوضح- لعب فيها اليمين الشعبوي ورجال الأعمال دورا محوريا.
التلفزيون.. ضحية أم وسيلة بيد الشعبويين؟
الدراسة الفرنسية أظهرت أن التلفزيون وإن حافظ على صدارة وسائل الإعلام المفضلة لدى الفرنسيين، إلا أن الثقة فيه تراجعت بنسبة 10% في ظرف سنة واحدة فقط. في المقابل، أظهرت الأخبار المنشورة عبر الإنترنت صموداً من حيث حيازتها على ثقة ربع المواطنين تقريباً، وهي نفس النسبة المسجلة منذ العام 2000، بينما تراجعت ثقة المتلقي في المحطات الإذاعية والصحف المكتوبة، ليظهر أن الأزمة تهمّ كل المنصات الإعلامية من دون استثناء.
وبالعودة إلى تاريخ الصحافة الفرنسية، فإن أزمة الثقة هذه ليست بالجديدة، فمع نهاية القرن التاسع عشر دار الحديث بقوة في الأوساط الإعلامية الفرنسية والأوروبية عن انعدام الثقة في الإعلام، ولهذا السبب قرر عدد من الصحفيين الفرنسيين عقد اجتماع عام 1918 لصياغة ميثاق أخلاق الصحافة، من أجل الحد من التراجع الخطير خلال تلك الفترة في منسوب الثقة، وما كان يعتبر حينها انتشار الأكاذيب والإشاعات، وهو ما بات يعرف بمصطلحات اليوم "الأخبار الزائفة". ومنذ تلك الفترة والعلاقة بين الملتقي والإعلام تعيش على وقع التراجع والارتفاع حسب الفترة، فإن كان الوقت وقت رخاء زاد منسوب الثقة، وإن حصلت أزمات مجتمعية أو سياسية تراجع هذا المنسوب.
وتشير الدراسة إلى نقطة مهمة على مستوى لغة التخاطب بين القنوات التلفزيونية والمتلقي الغربي، وهي أن الأخير يعيب على وسائل الإعلام المرئية أنها تتعامل معه إما بمنطق الأستاذية وتلقنه الدروس، أو أنها تخاطبه بلغة سطحية لا تتماشى مع ما ينتظره من الصحفيين، حيث لهؤلاء وضعهم الاعتباري، ويعتبرون من صناع الوعي العام في هذه المجتمعات، ولعله بات على القنوات التلفزيونية الالتفات إلى تجارب من يسمون "يوتيوبرز"، أي أصحاب القنوات في موقع "يوتيوب" التي تحظى بمتابعة كبيرة، ويهتمون بمناقشة الوضع العام. ويرى أستاذ الإعلام والتواصل في جامعة باريس أرنو مورسي أن "هؤلاء نجحوا في استقطاب فئات واسعة من الناس خصوصاً الشباب، لأنهم يقدمون خطاباً يتماشى مع متطلبات المجتمع وبلغة يستوعبها الجميع، ويختارون المواضيع التي تحظى باهتمام الرأي العام".
وعلى قاعدة "مصائب قوم عند قوم فوائد"، هناك مستفيدون من هذه الأزمة، وهنا تتجه الأنظار إلى اليمين الشعبوي أو الفوضوي، الذي يقدم نفسه كمناهض للمؤسسات التقليدية ولمركزية صنع القرار، فهؤلاء من بات نجمهم يسطع في سماء الإعلام والسياسة، وباتوا يستلمون مقاليد الحكم في دول عريقة (نموذج إيطاليا وبلوغ اليمين المتطرف الفرنسي للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية الفرنسية)، ويحدث هذا بالتزامن مع تراجع ثقة المواطن في وسائل الإعلام.
هذه العلاقة الجدلية بين الظاهرتين -صعود اليمين المتطرف، والتشكيك في خطاب المنصات الإعلامية- رصدتها دراسة لقسم عالم الاجتماع الشهير مارك إلشارديس في جامعة بروكسل البلجيكية عام 2004، من أهم خلاصاتها أن سلوك رفض المؤسسات والامتعاض من النظام العام ونقص التكوين، يرتبط بالإقبال المتزايد على الخطاب السطحي أو الشعبوي على وسائل الإعلام. ومعروف أن من ينتج هذا النوع من الخطابات هم أهل اليمين الأناركي.
ولعله من المفارقات أنه في نفس تلك الفترة شهدت العديد من القنوات العامة تراجعاً للتمويل الحكومي، أو تم تفويت بعض الحصص منه إلى القطاع الخاص، مقابل ارتفاع الاستثمار في قنوات الترفيه، وقامت قنوات أخرى بتغيير شبكاتها البرامجية لتقلص من المجلات الإخبارية لصالح الإعلانات وبرامج المنوعات كما فعلت قناة "آر.تي.بي.أف" (RTBF) العامة حتى تحافظ على نسبة مشاهدة معقولة.
من جهة ثانية، حتى ما يسمى مؤسسات الوساطة بين الشارع والدولة كبنية مجردة -وهي النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني بشكل خاص- استعاضت عن المساهمة في الشبكات البرامجية التلفزيونية عبر ترويج خطاباتها في منصاتها الخاصة عبر مواقعها الإلكترونية، قبل أن تتطور الأمور إلى إنشاء صفحات خاصة في منصات التواصل الاجتماعي، مما ترك فراغاً داخل القنوات التلفزيونية بغياب الخطابات السياسية والمدنية الجادة لصالح الإشهار والدعاية.
متطرفون في جبة صحفيين
ورصدت دراسة لمركز البحث "إيتوبيا" (ETOPIA) حول موضوع "الإعلام واليمين المتطرف"، أن خبراء التسويق بداية من العام 2003 بدؤوا يحرضون الإعلام على تقوية التوجه نحو خطاب معاد للمؤسسات، وتجنب المواضيع السياسية على اعتبار أنها باتت منفرة للمشاهد، والتقليل من التحليل والعمق لصالح الكثير من الصور والأحداث المثيرة، بدعوى أن "الجمهور من يطلب هذا".
لكن الدراسة نفسها تفند هذا الأمر وتعتبر أن مديري المؤسسات التلفزيونية في فرنسا خاصة وأوروبا عامة، احتال عليهم خبراء السوق، ورسخوا في أذهان القائمين على شبكات البرامج صورة خاطئة عن الجمهور مبنية على أن الأخير لا يأبه بالسياسة والمواضيع الجادة، وإنما يبحث عن الترفيه والمنوعات. وبناء على هذه الصورة الخادعة، ينبغي على القنوات التلفزيونية أن تتوجه إلى مشاعر الناس لا إلى عقولهم، "فالمشاعر تؤدي إلى الانخراط، والانخراط يؤدي إلى الرفع من حصة السوق"، حسب الدراسة.
وعندما نصل إلى إنتاج خطابات تتوجه إلى العواطف، فلن نجد أفضل من السياسيين الشعبويين في إتقان هذه اللعبة. وتقوم إستراتيجية هؤلاء منذ 15 سنة على الأقل على التسويق للخطاب الشعبوي المبني على الإكثار من أخبار الجريمة والقصص البوليسية التي لا عمق فيها ولا مكان للتحليل، واستغلال المنافسة الشرسة بين القنوات، التي قلبت الأولوية لديها بالتركيز أكثر على كل ما يمس المشاعر ومسرحة الحياة العامة، وأخيرا تقديم "ما يطلبه الجمهور"، بمعنى التماهي مع الصور النمطية لما يعرف بالأغلبية الصامتة، حول الكثير من القضايا التي تهم المهاجرين والانتخابات ومؤسسات الدولة والدين وخصوصا الإسلام.
هذه الإستراتيجية أنتجت في المشهد الإعلامي الأوروبي عموماً والفرنسي خصوصاً "نادي اليمين الشعبوي في الصحافة"، والقصد أولئك الضيوف الذين باتوا ضيوفاً دائمين على مختلف البرامج التلفزيونية ويتم تقديمهم على أنهم إما كتاب صحفيون أو مدونون، وأن استقبالهم يأتي من باب التنوع، بينما الحقيقة أن هؤلاء يحملون أفكاراً عنصرية. وكنموذج يمكن ذكر الصحفي الفرنسي إيريك زمور الذي توبع أكثر من مرة أمام المحاكم الفرنسية بتهم العنصرية وازدراء المهاجرين، ومع ذلك فالأخير -ومعه عدد غير قليل ممن يحملون أفكاره- ما زالوا حاضرين في القنوات التلفزيونية، والمبرر أن هؤلاء بخطابهم يجذبون المشاهد لكونهم يخلقون الجدل، وفي كل حلقة يحلون عليها ضيوفاً يثيرون الضجة، وهو ما باتت تلهث وراءه الكثير من القنوات التجارية.
وهكذا تحوّل الأمر إلى صفقة قنوات تحصد مشاهدات، وأهل اليمين الشعبوي ينالون منصات يروجون بها لخطابهم. ومن المعروف في علوم الإعلام أن تكرار نفس الرسالة -وإن كانت صادمة- في قوالب جمالية ومثيرة، يجعل المشاهد يطبّع معها، وذلك حسب نظرية "دوامة الصمت" للباحثة الألمانية إليزابيت نوال نيومان، وهذا ما حدث لكثير من الأفكار التي كان يستحيل مناقشتها قبل عقدين، إذ أصبحت الآن مباحة.
ويبقى السؤال: هل تنبهت القنوات التلفزيونية -العامة أو الخاصة- لهذه المعادلة التي يخرج منها اليمين الشعبوي رابحاً، بينما تفقد هذه القنوات ثقة مشاهديها؟
إلى حدود كتابة هذه الأسطر، ما زال الخطاب الإعلامي الغربي والفرنسي خصوصا، لم يحدث ما كان مطلوباً لكسب ثقة المشاهدين، في حين يكسب اليمين المتطرف وخطابه المزيد من المساحة في المشهد الإعلامي.
مراجع:
http://www.etopia.be/IMG/pdf/medias_et_extreme_droite.pdf