قال صديقي ذات مرّة، وخلال أحد النقاشات في الصحافة، إن الصحافي يولد بالفطرة معارضًا، وإن لم يكن كذلك، فهو ليس صحافيًا".
أجد في القول هذا، الذي جاء في سياق نقد "صحافة السلطة"، معنىً قابلًا للقياس في شتّى ميادين العمل الصحفي. فأن نكون صحفيين معارضين، لا يعني أن نكون "رافضين" فحسب. تبدأ "المعارضة" في العمل الصحفي من "الشكّ". الشكُّ في الصورة، في المشهد، في الوقائع، في المستندات، في الأقوال، في الخطاب، وفي كلّ شيء. وهو شكُّ، يقود الصحافي إلى أن يسلك مسار البحث عن الحقائق الكامنة وارء كلّ ما شاهده وسمعه وقرأ عنه، ليكون بذلك معارضًا من أجل الحقيقة، وليس على حسابها.
لم يكن سهلاً أن أخوض تجربتي الأولى في الصحافة الاستقصائية وأنا في السادسة والعشرين من عمري فقط، وما زلت في بداية مشواري المهني في الصحافة السياسية (المحلية) وفي صحافة المجتمع.
كان تحدياً بالنسبة لي، التحقيق الاستقصائي الأول لي في بيئة لا تحتضن هذا النوع من الصحافة بالشكل الكافي، كنت أعرف أن احتمال الفشل وارد، لكنني لم أتوقف.
ما قبل التحقيق
في صيف العام 2018، دعتني صديقتي للمشاركة في تدريب تنظمه إحدى الجمعيات اللبنانية حول "الصحافة الاستقصائية في قضايا العنف القائم على النوع الإجتماعي"، حيث كانت التجربة غنيّة ومكثفة، تعلمنا فيها مبادئ أساسية وخطوط عريضة في مفهوم الصحافة الاستقصائية.
في نهاية التدريب، طُلب منّا كمشاركين التخطيط لتحقيق استقصائي، قدمتُ فكرتي، وتم عرضها على لجنة متخصصة شكلتها الجمعية، على أن يكون التحقيق تحت إشراف صحافيين استقصائيين.
لحسن الحظّ، وقع الاختيار على مخطط مشروعي للتحقيق الاستقصائي، لتشرف عليه الصحافية اللبنانية يمنه فواز، وكنت منذ البداية قد وضعت نصب عينيّ الهدف الآتي: لا رجوع عن إنجازه، مهما كلّف الأمر. وهذا ما حصل.
استقصاء بالصدفة
اختيار فكرة التحقيق الاستقصائي، يوازي صعوبة إنجازه، وكوني أعيش في طرابلس شمال لبنان، حصرتُ النطاق "الجغرافي" لتفكيري في اختيار تحقيقي الاستقصائي، ضمن مدينتي. هذه المدينة الشائكة والمعقدة بخصوصية أحداثها، تعمّقت معرفتي بها، منذ أصبحت مراسلة صحافية أتابع جميع ملفاتها، لصالح جريدة المدن الإلكترونية، حيث أعمل. ومنها، بدأت رحلتي الأولى في الاستقصاء، التي دامت لخمسة أشهر.
في البداية، فكرتُ أن أتناول قضيّة تخصّ مقاتلين طرابلسيين عائدين من سوريا، بعد أنّ التحقوا بمنظمات إسلامية، مثل "النصرة" و"داعش"، منذ انطلاق الثورة السورية في العام 2011. وأثناء تبلور الفكرة، مرّ أمامي بالصدفة، مشهدٌ بدّل مسار توجهي، من البحث في قضية مقاتلين إسلاميين، نحو البحث في قصّة بنات "أبو رجال".
كنتُ أقوم بمهمةٍ تغطية صحفية، في "منطقة البقار"، المحاذية لمنطقتي جبل محسن وباب التبانة شمال لبنان، وهي أيضًا واحدة من خطوط التماس في جولات القتال الطاحنة، التي دارت في الماضي القريب بين المنطقتين. فجأةً، لمحت ثلاث فتيات، في حيّ منطقة البقار، كنّ جالسات أمام منزلهن، ثم سمعت جدالاً وصراخاً، ما دفعني للاستفسار، حتى علمتُ من أحد سكان الحي، أن أربع فتيات كنّ يتعرَضن للتحرش من قبل والدهنّ، ويومها، قررت أن أبحث في القصة.
كانت المهمة صعبة، الموضوع بحد ذاته والمنطقة التي سأعمل فيها. قسّمت تحقيقي إلى قسمين، الأول يروي قصة البحث عن هوية الفتيات في تلك المنطقة المنكوبة التي مكثت فيها شهورًا، وعن تجميع أدقّ المعلومات عن حياتهن. سمعتُ وقيل لي حكايا كثيرة، كانت كفيلة بأن تشعرني باليأس، لكننّي أصرّيت على إكمال التحقيق، رغم الاختفاء المفاجئ للفتيات عن منزل والدهنّ، وبقائهنّ مع والدتهنّ المطلقة منه. ورغم ذلك، وصلت لأصغرهن وهي قاصر، بعد جهدٍ كبير. كانت هي مفتاح القصّة، للوصول إلى قصص شقيقاتها ووالدها ووالدتها. كانت القصص مترابطة ومتباعدة ومنفصلة ومتشابكة في وقتٍ واحد. التحدّي الأصعب الذي يمكن أن يواجهه صحافي استقصائي داخل مدينة ذات خصوصية دينية واجتماعية مثل طرابلس، هو في كيفية التعاطي مع أصحاب القضية وأبناء المنطقة، من دون أن يثير خوفهم أو حتّى غضبهم.
قصّة الفتيات، كانت مأساوية واستثنائية، لا سيما أنّها تجمع مختلف قضايا العنف الأسري والاجتماعي في عائلةٍ واحدة: اغتصاب، تعنيف جسدي ومعنوي، تزويج قاصرات، العمل في الجنس، تسرب مدرسي، مخدرات وأطفال مكتومي القيد.
الأحداث التي عشتها أثناء الضلوع في القصّة، كانت مشوقة وخطرة، قطعت فيها بمراحل مختلفة. بداية، قمت بجولة طويلة لتجميع معلومات وتفاصيل عن الفتيات، في الحيّ وخارجه، ومنها كان عبر "وسطاء" نتيجة تعذر الوصول إليها. بعد ذلك، أجريت مقابلة مصورة مع الفتاة القاصر، ثمّ مع والدتها، مرورًا بإجراء مقابلات مع أشخاص على علاقة بالوالد، وبعض المتواطئين معه، وصولًا إلى إجراء مواجهة مباشرةٍ مع "أبو رجال" (لقب الوالد)، ووضعت المستندات والوثائق والفيديوهات التي في حوزتي أمامه، بعد أن استمعت مطولًا إلى شهادته.
تحقيق بوسائط متعددة
في محصلة التحقيق الذي يصعب شرحه مفصلًا في مقالٍ واحد، أخذت القضيّة حيزًا واسعًا من اهتمام الرأي العام اللبناني، وتحولت قضية "بنات أبو رجال" (اسم التحقيق) إلى قضية جماعية في البلد بعد عرضها. مزجتُ في التحقيق، بالتعاون مع الجمعية والصحافية يمنه فواز، عدّة وسائط، فجمع التحقيق بين الكتابة والفيديو وصناديق المعلومات وصور الانفوغرافيكس، لا سيما أنني ارتكزت في التحقيق أيضًا على معلومات طلبتها من قوى الأمن الداخلي اللبناني، ومن استشاريين قانونين وحقوقيين.
لكن، ما بعد نشر الجزء الأول من التحقيق، لم يكن كما قبله. فمنذ اللحظات الأولى لانتشاره إعلاميًا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وصلتني تهديدات خطيرة ومباشرة من الوالد، كما هدد ابنته القاصر بالقتل لأنّها وافقت الحديث عن قصّتها.
في هذه الأثناء، كنتُ على تنسيق مباشرٍ مع وزارة الداخلية، التي تولت متابعة القضية، بتوصية مباشرة الوزيرة ريا الحسن. في اليوم التالي، وبعد استدعائي إلى جهاز أمن فرع المعلومات اللبناني، للإدلاء بشهادتي وتزويدهم بالوثائق الموجودة في حوزتي، اكتفيتُ بما أستطيع تقديمه لهم، بوصفي صحافية ولست "مخبرة". وعلى إثر ذلك، أخذ فرع المعلومات إشارةً من القضاء، وألقى القبض على الوالد، واستدعى الوالدة وبناتها للتحقيق معهن، ونتيجة الاعترافات في التحقيقات القضائية، أصدرت محكمة الأحداث حكمًا مبرمًا بنقل الفتاة القاصر إلى مكان آمن، بعيدًا عن بيئتها، لما تتعرض له من تعنيف نفسي ومعنوي وجسدي. وهذا بالنسبة لي، أيّ حماية الفتاة، كان الجزء الأهم من عملي. وكلّ هذه الأحداث، فصّلتها في جزءٍ ثانٍ من التحقيق، لوضعه بين يدي المعنيين والرأي العام، ولإيماني أنّ فتحٍ ملف قضية ما، أيًّا تكن، لا يتكلل بالنجاح، إن لم نُحسن إغلاقه بما لا يؤذي الضحايا والناجين والناجيات.
رحلتي الأولى في الاستقصاء، الشائكة والشّيقة، بدأت بالصدفة ثم انتهت في القضاء، تعلمت منها الكثير، وقد تكون درسًا دسمًا لن أنساه حين أنوي الخوض مستقبلاً في تجارب استقصائية أخرى. وإذا كان الدرس الأول، هو أن أكون عنصرًا مساهمًا في تعزيز مفهوم "الصحافة الحساسة للنزاعات"، سواء في المصطلحات أو في أدبيات معالجة القضايا، غير أنّ إيماني بالصحافة المكتوبة تعزز أكثر. فالصحافة المكتوبة، التي أمارسها بشغفٍ كبير، ما زالت قادرة على مخاطبة الجماهير وجذبهم، رغم كلّ الوسائط الرقمية والإلكترونية المنتشرة حول العالم؛ وهي قادرة أيضًا، أنّ تهزّ العالم وتصنع التغيير وتناصر قضايا حقوقية كبرى، لأنّها أصل الصحافة، وسرّها الجامع في مخاطبة حواس الإنسان كلّها.