"كراجات المشنططين".. ذلك اسم مجموعة أنشأها لاجئون سوريون على فيسبوك عام 2012، لتضم فيها عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، وكان الهدف منها تبادل الخبرات والمعلومات عن دول اللجوء وأساليب التكيف مع الحياة الجديدة، ومعرفة فرص العمل والتعلّم للاجئين.
لم يكن التأسيس العفوي لهذه المجموعة إلّا انطلاقًا من الحاجة للحصول على تلك المعلومات التي لا يعلمها كثير من هؤلاء اللاجئين، لا سيما في ظل غياب وسائل الإعلام الاحترافية التي تهتم بتغطية القضايا الخدمية المرتبطة باللاجئين، أو حتّى تمدّ لهم الجسور مع المجتمعات المضيفة.
تغيّر هذا الحال اليوم كثيرًا، وتراجع الاهتمام بتلك المجموعة ومئات المجموعات التي تقوم بالوظائف ذاتها، لأن غالبية الصحفيين المهاجرين -سواءً الذين فرّوا من دول الحرب أو انتقلوا إلى دولٍ أخرى للعمل- قلبوا هذه المعادلة، وأنشؤوا عددا من المنصات الإخبارية في دول أوروبية تركّز بشكلٍ رئيسي على قضايا هؤلاء اللاجئين، وتمنحهم معلومات مرتبطة بحياتهم، وتقدّمهم أمام الرأي العام في البلدان المضيفة.
ورغم وجود لاجئين شرق أوسطيين في "القارة العجوز" منذ سنواتٍ طويلة، فإن موجات الهجرة التي جاءت بعد الربيع العربي ضاعفت أعداد اللاجئين العرب في أوروبا، مما جعل وجود وسائل إعلام ناطقة بلسانهم وموجّهة لهم أمرًا حتميًّا.
مجلة "الصحافة" تستعرض في هذا التقرير ثلاث تجارب لصحفيين عرب، أسّسوا منصّات إعلامية متخصّصة في قضايا اللاجئين والمهاجرين، سعيا لتحقيق أهدافهم في تقديم تغطية احترافية وخلق تمثيل إعلامي للمهاجرين واللاجئين داخل دول اللجوء، على حد تعبير بعضهم.
إيلان
في الثاني من سبتمبر/أيلول 2015، وجد خفر السواحل التركي جثة طفل سوري مرمية على شواطئ بودروم التركية، بعد أن غرق على سواحل المدينة أثناء محاولة عائلته المُنحدرة من بلدة "عين العرب/كوباني" اللجوء إلى أوروبا بشكلٍ غير قانوني.
لاقت صورة الطفل "إيلان" تفاعلا كبيرا من الرأي العام والصحافة العالمية، وساهمت تلك الحادثة في جعل كثير من الدول الأوروبية تعيد النظر في سياستها تجاه ملف اللاجئين، بعدما أصبحت صورة الطفل "إيلان" وهو مسجى على الشاطئ جثة هامدة، رمزا للمدافعين عن حقوق اللاجئين.
"بعد غرق إيلان، واعتبار الطفل أيقونةً تعبّر عن أزمة اللجوء في العالم، وجدنا أن الطفل إيلان يعبّر عن قضية اللاجئين، لأن ذاكرة الناس قصيرة وفي بعض الأحيان تحتاج للإعادة من أجل التذكير بمن هو إيلان".. بهذه الكلمات يشرح الصحفي الأردني أحمد أبو حمد سبب إطلاق اسم إيلان على الموقع الذي أسّسه في السويد، والمتخصّص بقضايا اللاجئين في العالم، مضيفًا "عندما يتحدّث أحد عن قضايا اللجوء والهجرة يستعمل هذه الصورة لتسليط الضوء على القضية".
أبو حمد بدأ العمل الصحفي عام 2012 في الأردن كمعدّ لبرنامج "سوريون بيننا" في إذاعة "راديو البلد"، وهو برنامج متخصّص في قضايا اللاجئين السوريين في الأردن. كما درّب صحفيين لاجئين سوريين على إنتاج القصص الصحفية.
يقول أبو حمد "خلال تلك الفترة بدأت أشعر بإشكالية التغطية الصحفية لقضايا اللجوء والهجرة، مثل تصاعد خطاب الكراهية تجاه اللاجئين والمهاجرين بطريقة ضخمة في العالم، إضافةً إلى غياب صوت اللاجئ في مواقع الأخبار، حيث كان اللاجئ طرفا ثالثا في هذه العملية التي طرفها الأول الصحفي والثاني هو الحكومات أو المنظمات المعنية"، لافتًا إلى أنه لم يكن هناك من يأخذ برأي اللاجئ في قضايا تتعلق بحياته هو.
يعتبر أبو حمد أن التغطية الصحفية المتخصّصة في قضايا اللاجئين لم تكن إنسانية، ويتم التعامل معها من طابع سياسي صرف، إضافة إلى تهميش قطاعات مهمة بين اللاجئين مثل قضايا المرأة والطفل وذوي الإعاقة، ووجود جهل بين كثير من الصحفيين والمؤسّسات الصحفية بالتشريعات الخاصة باللاجئين، فيغطّون الأخبار والأحداث دون أن يعرفوا ما يحق للاجئ وما لا يحق له.
في العام 2016 انتقل أبو حمد من العمل الصحفي إلى العمل مستشارا سياسيا بالسفارة الهولندية في عمّان ومسؤول الشؤون الصحفية فيها، قبل أن ينتقل لاحقا للعيش في السويد.
بدأت فكرة إيلان عام 2016، وانطلق المشروع عام 2018، وكان هدفه الرئيسي محاولة خلق سردية جديدة في تغطية القضايا المتعلقة باللاجئين، والتصدّي لخطاب الكراهية، و"منح اللاجئ صوتا أعلى" وفقا لأبو حمد الذي يوضّح أن موقع "إيلان" لا يكتفي بنقل المعلومات، بل يحاول المشاركة في خلق سياسات أفضل لتمثيل اللاجئين في الإعلام، سواء عبر المواد الصحفية أو عبر بعض المقالات التي يكتبها اللاجئون أنفسهم، مشيرًا إلى أن فريق إيلان مكون أغلبه من اللاجئين. يتابع أبو حمد حديثه قائلا "بعد أن بدأنا العمل بالموقع، اكتشفنا أن معظم المؤسّسات الصحفية الموجّهة للاجئين، تعمل على تغطية حوادث اللاجئين وتنقل القوانين الجديدة الخاصة بهم، ولم يكن هناك عمق في التغطية، بل اكتفاء بنقل أخبار مجرّدة. كما أن غالب المؤسّسات الصحفية الجديدة دُشّنت بأيدي لاجئين سوريين تحديدا، لذلك تغطّي قضايا اللاجئين السوريين فقط".
ويضيف "نحاول تغيير النهج ونركّز على القضايا دون التركيز على الأحداث المتكرّرة حتى لو لم نخرج بتقرير واحد يوميًّا"، موضحا أن موقع "إيلان" أصبح يقدّم ما يشبه ورقة سياسات، عبر جمع كم هائل من الأخبار المجردة وبناء تقييم شامل حول قضايا معينة، يتم تقديمه للقارئ بحيث يصبح لدينا "ويكيبيديا للاجئين" (RefuPedia)". كما يضع الموقع ضمن تقاريره المطوّلة، توصياتٍ موجّهة للحكومات والمنظمات المهتمّة باللاجئين.
يرى أبو حمد أن معظم المؤسّسات الصحفية المتخصّصة باللاجئين غير قادرة على أن تعكس احتياجات اللاجئ بشكل حقيقي، لأن اللاجئ يحتاج هيكلية تنظيمية في التعاطي مع قضاياه، تختلف عن الصحافة بشكلها التقليدي في الاكتفاء بنقل الأخبار، بل "يجب أن يكون دورنا هو الرقابة على المنظمات التي تقدم الخدمات والرقابة على المشاريع والإنفاق، وهذا ما نقوم به عبر تتبع جميع الأخبار الخاصة بحاجة اللاجئين إلى خدمات تعليمية مثلا، ونتتبّع المشاريع التي تم تنفيذها لسد احتياجاتهم، ثم نعود بعد ستة أشهر لنتأكد من حل المشكلة، وإذا لم تُحَلّ نفتح تحقيقًا في القضية".
"كامبجي" … تجربة في الشرق الأوسط
في لبنان، شارك مجموعة من الشباب اللاجئين في إطلاق منصّة إعلامية إلكترونية، لتعبّر عن قضايا اللاجئين وتعكس احتياجاتهم. ويستضيف لبنان 997 ألف لاجئ سوري، وفقًا للمتحدّثة باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بلبنان ليزا أبو خالد، فضلا عن لاجئين من جنسياتٍ أخرى.
وحملت هذه المنصّة اسم "كامبجي" (1) نسبة إلى "مخيمجي" (الشخص الذي يعمل في المخيم)، وتأسّست عام 2017.
يقول هشام كايد وهو مخرج سينمائي وناشط في مركز الجنى (جمعية أهلية تعنى بالتعلم الفاعل) ويعمل منسّقًا لمشروع كامبجي، إن "المنصّة تعبّر عن احتياجات ومتطلّبات اللاجئين وتعكس واقعهم، وتركّز على جمع وتوثيق قصص حياة وحاجات اللاجئين لإحداث التغيير والتأثير".
وأضاف كايد لمجلة "الصحافة" أن منصة "كامبجي" التي أشرف مركز الجنى على إطلاقها، لا تتوجّه إلى فئة محددة، بل تستهدف مختلف اللاجئين في لبنان، وأن أهمّيتها تكمن في كونها جمعت شبابًا تدرّبوا كصحفيين على التحرير والإنتاج الإعلامي، بحيث أصبح كل واحدٍ منهم قادرًا على إنتاج المحتوى الصحفي بشكل كامل من بدايته إلى نهايته، حيث تغطّي محتويات المنصة كامل الأراضي اللبنانية.
ويوضّح كايد أن معظم العاملين في "كامبجي" من اللاجئين، وهذا ما يعطي حيّزًا لتكون المنصّة قريبة منهم، "لدينا اجتماع تحريري نناقش فيه المواضيع التي يحتاجها اللاجئون والقصص التي سنغطّيها لتسليط الضوء على احتياجات اللاجئين غير القادرين على إيصال صوتهم إلى الرأي العام".
ومن أهداف المنصّة أيضًا، الحفاظ على هوية اللاجئ رغم انخراطه في المجتمع المحيط، وذلك بسبب المخاوف من ضياع الهوية، بحسب كايد الذي تابع "نسلط الضوء على المبادرات النوعية للاجئين والفنانين والمثقفين لنعطي الوجه الآخر للاجئين، لأن معظم وسائل الإعلام حاليا تتعامل مع اللاجئين كسلعة للنشر حسب سياسة الحكومات".
وفي مضمار تغطية وسائل الإعلام اللبنانية لقضايا اللاجئين، اعتبر كايد أن هذه الوسائل تغطّي قضايا اللاجئ وكأنّه مشكلة بحد ذاته، فلا تركّز على كونه ضحية سياسات مختلفة، لافتًا إلى أن "الإعلام يحتاج إلى كبش فداء ليضع كل علل البلاد فيه، فوجد في اللاجئين ضالته لتحميله نتائج كل المشاكل الموجودة في لبنان".
ويرى كايد أنّه في مقابل الهموم والمشاكل الخاصة باللاجئين، هناك فوائد لهم على المجتمعات المضيفة، ولكن معظم وسائل الإعلام تنكر هذه الفوائد وتحاول بيان العكس، مشيرا إلى أنه من هنا جاءت فكرة منصة "كامبجي" للتركيز على حياة اللجوء بحد ذاتها، بتفاصيلها وفرحها وحزنها وقوتها وضعفها، حتى تكون الصورة واقعية.
تجربة رائدة
ساهم الشاب الفلسطيني-السوري قتادة اليونس في إطلاق ثلاث صحف عربية في السويد، منها أوّل صحيفة عربية مطبوعة هناك. لم يكن قتادة يعمل في مجال الصحافة، حيث كان يعمل في التجارة عندما كان يعيش في مخيم اليرموك بدمشق. غير أنّه بعد العام 2011، سحبت الشركات التي كان يتعامل معها أموالها، وتعرضت تجارته للخسارة. في تلك الفترة، كان قتادة يُجري دورات تدريبية مع مراكز دانماركية عن الثقافة والاختلاط والتعرف على الأديان، وكان ينسّق التواصل بين صحفيين أجانب وناشطين سوريين في بداية المظاهرات بسوريا.
على إثر هذا النشاط، اعتقل قتادة لأسابيع ثم خرج وحصل بعدها على تأشيرة الدانمارك مدّتها أسابيع، وذلك مطلع العام 2012. حينها لم تكن طرق اللجوء قد فُتحت إلى القارّة الأوروبية، وبعد فترة من وصوله إلى الدانمارك، توجّه إلى السويد وقدّم طلبًا للجوء هناك، وخلال تلك الفترة كان يسأل المواطنين عن سبب عدم وجود صحيفة عربية في السويد. في اليوم التالي أخبره مكتب العمل بتوفّر فرصة عمل لإطلاق قسم عربي في إحدى الصحف السويدية.
على الرغم من أن قتادة لم يكن صحفيًّا محترفًا، فإنّه توجّه إلى هناك وأجرى مقابلة مع المسؤولين عن الصحيفة، وحصل على الفرصة لإطلاق أول صحيفة عربية في السويد، حملت اسم "أخبار سكونا".
يوضّح ابن الـ 29 عامًا أنّه شرح لمسؤولي الصحيفة خطّته من وجهة نظر غير أكاديمية، وطرح أفكارًا لنشر الصحيفة بين القراء العرب هناك. غادر قتادة الصحيفة التي أطلقها بعد ستة أشهر، بسبب عدم وجود تطابق في وجهات النظر بينه وبين إدارتها إزاء المواضيع التي تتم تغطيتها، فانتقل للعمل على إطلاق صحيفة مطبوعة تصدر عن موقع "الكومبس" السويدي.
يقول قتادة "أسّست صحيفة مطبوعة في الكومبس بتمويلٍ ذاتي، دون الحصول على أي تمويل حكومي أو من منظمات المجتمع المدني، حيث كانت الصحيفة تموّل نفسها من الإعلانات لتغطية النفقات، وتمكّنت من إقناع الإدارة بذلك".
يوضّح قتادة أنه ترك العمل في الكومبس بعد عامين ونصف حيث قرر في تلك الفترة إكمال دراسته، إلا أن فكرة إنشاء صحيفة كمشروع شخصي ظلّت تراوده، إلى أن أطلق صحيفة "نبض الأوريسند". ويتابع "في البداية كنّا مرهقين ماديًا بسبب التكلفة المرتفعة للطباعة، فقرّرت عام 2016 إيقاف الطباعة والاتجاه نحو الرقمنة ومواكبة الثورة التكنولوجية التي دخلت الإعلام".
في العام 2017، تغيّر اسم موقع الصحيفة ليصبح "أكتر" (2). ويغطّي الموقع الآن قضايا اللاجئين في السويد، ويعتمد أسلوب الصحافة المتأنّية لإعداد تقارير معمقة، وعدم نشر أي معلومة إلا بعد التثبّت منها من مصادر متعددة على حد تعبير قتادة، موضحًا أن الموقع لديه الآن مكتبان: الأول في العاصمة ستوكهولم والثاني في مالمو، ويموّل نفسه ذاتيًا من خلال ما يعرف باسم "Business to Business" كالإعلانات وحملات التوعية والدراسات الإعلامية، حيث لم يتلقَّ الموقع أي دعم سواء من داخل السويد أو خارجها.
وعن سياسة الموقع يشرح قتادة "نحن مقتنعون بأن الجمهور بات لديه معرفة عميقة، وأصبح قادرًا على البحث ومقاطعة المعلومات وتنويع المصادر وكشف الأخبار المغلوطة، ولا سيما اللاجئين الناجين من الحروب الذين عاصروا الشائعات في بلادهم بشكلٍ كبير، لذلك نعمل على تقديم خدمات ومعلومات دقيقة بشكلٍ احترافي للاجئين. وفي الشهرين الماضيين انضم إلى الموقع 81 ألف مستخدم جديد، ورُشّح للفوز بجائزة ملك السويد في العام القادم".
وعلى الرغم من أن عمل قتادة ينطوي على التخطيط والدراسة للمشاريع الإعلامية وإطلاقها، فإنّه يرى أن مشكلة الصحفيين المهاجرين تكمن في عدم مواكبتهم لمستجدات المهنة، لا سيما مع التطوّر التكنولوجي المتسارع، "فمن أكثر المشاكل التي واجهتني عدم وجود كوادر صحفية محترفة ومؤهّلة للعمل في القارة الأوروبية، على عكس الشرق الأوسط، حيث يصبح من السهل العثور على فرق وكوادر صحفية ذات خبرة".
المراجع:
* الصورة: شون جالوب- غيتي.