في العام 2015، صعد مدير شركة الاتصالات "أوريدو" في الجزائر على المنصة وخاطب ثلة من الصحفيين المدعوين: "بعد اليوم، لن تستفيد وسائل الإعلام التي تهاجم النظام أو تروج لخطابات مناهضة للدولة من الإعلانات".
وفي العام 2018، بينما كانت المقاطعة الشعبية تكبد شركات كبرى في المغرب خسائر قياسية، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي تقود حملة غير مسبوقة للامتناع عن الشراء، كانت الكثير من وسائل الإعلام المؤثرة تتعامل مع حدث أعاد ترتيب الخريطة السياسية المغربية، وأثار نقاشا حساسا حول تشابك القرار السياسي بلوبيات الاقتصاد، وبمنطق "شاهد ماشافش حاجة".
وحينما أرسل رئيس الوزراء الإسباني السابق خوسي ماريا أثنار زوارق وطائرات حربية لطرد جنود مغاربة من جزيرة يزعم أنها في ملكية بلده، كتبت المؤرخة الإسبانية ماريا روسا ردا طويلا، ضمنته شواهد تاريخية تبين أن جزيرة "ليلى" -محل النزاع- مغربية، ثم بعثته إلى جريدة "إلباييس" المؤثرة في القرار السياسي والاقتصادي، ليصادَر داخل قاعة التحرير. شرح صحفي من الجريدة فيما بعد أن الرقابة الذاتية والخوف من المزاج العام، حجبَا المقال.
داخل قاعات التحرير، ليست الأنظمة وحدها من تستثمر في الخوف، أو تصادر الحق في التعبير، وترسم الحدود، بل إن المعلنين، والشعور العام، والتقاليد، والأعراف، والدين، والعلاقات الخاصة للصحفيين مع رجال السياسة، كل هؤلاء يمارسون تأثيرا بالغا على عمل الصحفيين، والنتيجة تختصرها منظمة "مراسلون بلا حدود" في تقاريرها الأخيرة: ازدهار الرقابة الذاتية حتى داخل البلدان العريقة في الديمقراطية داخل فضاء الاتحاد الأوروبي.
في أوروبا أيضا
حوّلت أحزاب اليسار واليمين البرلمان الأوروبي إلى جلسات مرافعة مفتوحة امتدت لشهور، وهي تعرض مضامين تقرير حاد (1) بعنوان "صحفيون تحت الضغوط.. الخوف والتدخل والرقابة الذاتية"، يتحدث عن الأساليب الجديدة التي تلجأ إليها الحكومات للجم حرية التعبير.
يشكّل العنف المعنوي واللفظي، والتحقيقات، وترهيب الشرطة، والضغوطات النفسية المستمرة، والأجور الزهيدة، والتهديد بالملاحقات القضائية، لائحة طويلة ملأت الصحيفة السوداء بطرق خشنة تُستعمل في قمع الصحفيين، وترسخ الشعور بالرقابة الذاتية والاستشعار القبلي للمحاسبة أو المحاكمة.
بإيجاز شديد، قال التقرير إن بعض الصحفيين المستجوبين وصلوا إلى درجة الاكتئاب والخوف الشديد، وعبّر جزء منهم بشكل صريح جدا عن التفكير في تغيير الحرفة أمام ارتفاع المتابعات الأمنية والقضائية.
التقرير هز الأوساط السياسية وصار موجها ليس فقط إلى قضايا الإعلام، بل دفع زعماء الاتحاد إلى إدراجه ضمن جدول أعمال اجتماع القمة الأوروبية لعام 2017. وفي ثنايا هذا النقاش، أثيرت قضية خطوط التماس بين الصحفي والسياسي، وأين تبدأ الحرية وأين تنتهي "هيبة الدولة" التي أصبحت غطاء لشرعنة الرقابة على الصحافة.
باسم محاربة الإرهاب وحماية الأمن القومي، حاصرت دول مثل بلجيكا وفرنسا حرية التعبير، وأشاعت الخوف في نفوس الصحفيين، وتدخلت بوسائل مختلفة لمنع صياغة أخبار أو تحقيقات صحفية عن القصة الحقيقية لهروب "صلاح عبد السلام" أحد المتهمين في قضية تفجيرات باريس عام 2015، رغم أنه اجتاز حواجز أمنية قبل وصوله إلى حي "مولمبيك" في بروكسل.
لم تعد الدول وأجهزتها بحاجة إلى التدخل المباشر في قاعات التحرير للحجز على المواد التي ترى أنها تمس الأمن القومي، فقد تشكّل لديها وعي لا يتزعزع بأن المزاج العام، وإعلان حالة الاستنفار الأمني، وطغيان الصورة الأمنية في التلفزيون، ستردع الصحفيين، وسيتحرك الأنا الأعلى، مما يفضي إلى طمس الكثير من الحقائق، مثل اعتقال أشخاص أبرياء، والتوقيف العشوائي، والتحقيق دون سند قانوني.
هذه الحقائق ظهرت على شكل قصص صحفية فيما بعد، لكنها صارت دون تأثير على الأحداث، لذلك فإن وظيفة الرقابة الذاتية تتجاوز إقبار الحقائق أو التصرف فيها، إلى خلق حالة تطبيع جماعي مع انتهاكات حقوق الإنسان، وإحداث شرخ في وظيفته الكلاسيكية باعتباره قوة مضادة للسلطات الأخرى.
الإعلانات.. لا تعض صاحب اللقمة
"الحرية هي أن تقول كل شيء شريطة ألا تزعج المعلنين".. مثل فرنسي يبدو أنه يعبّر بجلاء عن تحكم المعلنين في الصحافة. وما صرح به مدير شركة "أوريدو" يختزل ذهنية سائدة تريد أن تجعل الصحفي وسيلة تسويقية، ومن وسائل الإعلام وكالة إعلانية فاقدة للحس النقدي، ترضى بالدعم السخي، وتطمئن للخطوط المرسومة بعناية شديدة.
رأس المال جبان في مبادئ الاقتصاد الرأسمالي، يبحث عن الربح بالقانون أو "بالاحتيال" عليه. أما الصحفي فوظيفته البحث عن الحقائق، وضمان الحق في الوصول إلى المعلومة. إنهما في الأخير رغبتان متعارضتان، تنتهيان إما بتدخل مديري النشر الذين يتصرفون مثل مُلاك، وإما بتمرد الصحفيين تماما كما وقع داخل التلفزيون الإسباني (2) حيث توقف الصحفيون عن العمل بعد ضغوط شديدة جدا مارستها الشركات الكبرى لتبني تغطية متحيزة لمظاهرات كتالونيا المطالبة بانفصال الإقليم عن مدريد.
ولا تعوزنا الأمثلة من كل قارات العالم حول تدخل رجال الأعمال في قاعات التحرير، لكن الذي يقيد حرية الصحفيين يتعدى مبدأ "رأس المال جبان"، إلى جعله وسيلة لتأديب وسائل الإعلام المزعجة التي لا تلتزم بالخط التحريري للدول. وعلى هذا الأساس، تتدخل الحكومات لدى الشركات لسد منافذ الإشهار/الإعلان عليها، فقط لأنها خرجت عن مسار "الإجماع".
قد تكون تجارب الدعم العمومي للصحف والمواقع الإلكترونية أداة توظفها الحكومات لضمان قدر أكبر من استقلالية الصحف عن السلطة الاقتصادية، لكن سرعان ما يتحول ميزان القوى لصالح السلطة السياسية. وإذا كانت بعض الدول لا تأخذ بعين الاعتبار الخطوط التحريرية في دعمها للصحف، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب الذي يعتمد بالأساس على معايير تقنية تهم السحب وحجم الانتشار (3)، إذ تستفيد جرائد تمتلك مواقف مضادة للدولة من الدعم السنوي، فإن دولا أخرى في أوروبا الشرقية -مثلا- تنظر إليه مثل مكافأة للصحفيين الذين يخدمون أجندتها، وتمنعه عن صحف أخرى لتتركها تواجه شبح الموت ببطء لأنها معارضة.
ومهما كان النموذج الاقتصادي لوسائل الإعلام ناجحا وفعالا، فإن غياب الإعلانات، وشح الدعم العمومي الذي باتت دول كبرى تلجأ إليه، سيفضي في نهاية المطاف إلى إغلاقها بشكل نهائي، وهو ما جعل حكومات كثيرة مقتنعة بأنه بدل الرقابة الأمنية المشددة على المضامين الصحفية، ينبغي فقط تطوير غريزة الرقابة الذاتية، وأصبحت الإعلانات -تبعا لذلك- إحدى الوسائل الأكثر نجاعة.
أساليب جديدة
وفي أذربيجان، ابتدعت السلطات أساليب جديدة في قمع الصحفيين باعتقال أفراد من عائلاتهم وتلفيق تهم وهمية كالتهرب الضريبي أو إهانة موظفين أثناء تأديتهم لعملهم، وبهذا ينمو الأنا الأعلى الصحفي أكثر فأكثر. وليست أذربيجان وحدها من تفعل ذلك، وفق تقارير متواترة، فالصين وكوبا تقومان بنفس الشيء، بحيث تمتد القبضة الأمنية إلى التضييق على عائلات بكاملها لتطويع الصحفيين.
أما حين تعجز الدول عن تدجين الصحفيين، وحين يخفق رأس المال في إعادتهم إلى حظيرة الطاعة، تنتقل إلى مرحلة استهداف حياتهم الخاصة عن طريق نشر أخبار على وسائل إعلام تابعة لها تنبش في حميمياتهم: صور قديمة مع فتيات هنا، وأخرى وهو يعاقر الخمر هناك، أو التعسف في تأويل كتابات ليظهر كأنه يعادي الدين ويلحد في الله، أو فبركة فيديوهات تزعم وجود ممارسات فاضحة، أو في أقصى الحالات الاعتقال بدعوى القيام بممارسات خارج القانون (السكر العلني، الإجهاض..).
حدث ذلك في أكثر من دولة، خاصة في الدول العربية، فها هي وسائل الإعلام المصرية الموالية للسيسي لا تكتفي فقط بتشويه سمعة المعارضين السياسيين، وإنما تسعى إلى القتل الرمزي للصحفيين المنتقدين للرئيس، بإثارة قضايا من حياتهم الخاصة على التلفزيون وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي أغسطس/آب الماضي، نشرت "نيويورك تايمز" تقريرا مطولا (4) يفضح كيف أن التشويه والنبش في حياة الصحفيين بغية ردعهم ليس اختصاصا حصريا للأنظمة الدكتاتورية. وتحدث التقرير عن استهداف فريق دونالد ترامب لصحفيين من "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"سي.أن.أن"، بالتنقيب في تاريخهم على وسائل التواصل الاجتماعي، و اجتزاء تدوينات من سياقها. كما أن مستشارا غير رسمي لابن ترامب، قال بما لا يدع أي مجال للتأويل إن "نيويورك تايمز واهمة إذا رأت أنها ستحل المشكلة.. نحن قادرون على فضح صحفييها المتعصبين".
ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نلقي كل اللوم على الأنظمة في قضية تشويه سمعة الصحفيين، ففي الاحتجاجات التي عرفها الريف المغربي خلال السنوات الماضية مثلا، وجدت نفسي على هيئة "عميل للدولة"، ثم اكتشفت أني أتوفر على ممتلكات عقارية فارهة، و استفدت من امتيازات. كنت أتمنى لو كنت أمتلك ولو جزءا يسيرا منها فقط، ثم تلقى نفسك وقد صرت محرضا على الاحتجاج، وتحفل صفحتك الفيسبوكية بالتعليقات الجارحة بأنك تزعزع أركان الدولة.
أصحاب تلك التعليقات مواطنون عاديون، لا علاقة لهم بالدولة ولا بالأنظمة (دون تعميم)، ولا يقيمون التمايز بين الصحفي والمناضل، وبين نقل الحقائق والتضخيم، وبين التهويل والبتر والحذف. والذي يدفع الثمن في الأخير، هو حرية الصحفي الذي يفضل أن يبني قصصه في "الدرجة الصفر" من القيم الصحفية، ثم تنتعش الرقابة الذاتية.
"تحايل" مشروع
في سياق عالمي مناهض لحقوق الإنسان، مدموغ بعودة القبضة الأمنية الحديدية، وفي بيئة عربية لا تكنّ الكثير من الود للصحافة، يبحث الصحفيون عن قاموس جديد للإفلات من مقص الرقيب والتحايل على الرقابة الذاتية، كأن يكتفوا بانتقاد الحكومة التي لا تتوفر على سلطة اتخاذ القرار، بينما يعجزون عن انتقاد الملوك أو الرؤوس بشكل مباشر، في الوقت الذي يستحوذون فيه على صلاحيات اقتصادية وسياسية.
لنقرأ هذه الفقرة المقتطفة من موقع إخباري يخص الأردن:
الملك عبد الله الثاني يترأس جزءا من الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء، وطرح على الوزراء استفسارا: أريد أن أعرف من الوزراء ماذا تفعلون؟ وماذا سنقول للمواطن الأردني قبل نهاية العام الحالي؟ بمعنى آخر، يسأل الملك حكومة الرئيس الدكتور عمر الرزاز، والتي بقيت دوما "وزارة مدللة" عن تلك الخطط في المسار الاقتصادي حتى نهاية العام الحالي".
وفي موضع آخر، يوظف الصحفيون عبارات فضفاضة لا تحيل على المعنى الحقيقي، ولا تقصد المسؤولين بشكل مباشر، ويمكن أن يتمدد هذا القاموس ويتقلص حسب منسوب حرية التعبير. ولئن كان من الصعب جدا حصره، فإنه يضم عبارات من مثل: الدولة، الدولة العميقة، السلطات، القوة العمومية، شركات اتصالات (بدل تسميتها).
وبصيغ مبنية للمجهول، وتعويم مقصود، ولغة فضفاضة، وتعابير ابتُكرت لتتواءم مع السياق المناهض للحريات، يسير الصحفي في حقل ألغام، ويفرض على نفسه ألا يسقط في لائحة الممنوعات الطويلة. بمعنى آخر، تصبح الرقابة الذاتية بمثابة جنس صحفي جديد لا مفر منه في العمل اليومي.
السياسيون ورجال الأعمال والراغبون في تأبيد مصالحهم، قد يختلفون وقد تتصارع غاياتهم، لكنهم يتوفرون على بنك أهداف مشترك من عناوينه البارزة: دفع الصحفيين إلى تنمية الشعور بوجود مراقبة فوقية تؤنب الصحفي في ما يشبه المونولوغ: لا تكتب عن المعلنين، ستغلق الصحيفة، لا تُثر سيرة السياسي، ستذهب إلى السجن، لا تتحدث عن الإرهاب، ستتهم بزعزعة السلم الاجتماعي، لا تحقق في طغيان المؤسسة الدينية أو ممارساتها غير الشرعية، سيرجمك المجتمع، لا تعلّق على القضاة، سينتظرونك عند أول منعطف، لا تنتقد الرئيس، ستجد صورك العارية على وسائل التواصل الاجتماعي، لا بد من تخفيف حدة هذه الجملة وتهذيب تلك الفقرة، سيلاحقون عائلتك.. ثم تلفي نفسك -بعد أن تحدد قائمة المحظورات- أنك تزاول مهنة أخرى غير الصحافة.
2- https://elpais.com/cultura/2017/10/02/television/1506953757_894756.html
4- https://www.nytimes.com/2019/08/25/us/politics/trump-allies-news-media.html