ما هو ميتافيرس؟
في أواخر أكتوبر الماضي، أعلنت شركة فيسبوك -حينذاك- أنها قد غيرت اسمها لـيصبح Meta. كان هذا التغيير، حسب بيان الشركة، للتوجه نحو دعم تجربة "ميتافيرس" وهي فضاء افتراضي، ثلاثي الأبعاد في بعض تطبيقاته، ينقل تجربة التواصل الاجتماعي إلى مرحلة جديدة، وكذلك للإنترنت ككل (1).
المواقف من هذه الوعود الجديدة، تباينت كما دائما، بين من ينظر لهذه التجربة الواعدة كاختراق جديد لعالم الإنترنت، مشابه لذلك الذي بدأته فيسبوك قبل أكثر من 15 عامًا، والذي مهدت فيه لعالم مختلف تماماً، وبين من يرى أنها صيحة زائلة من صيحات وادي السيلكون التي تجذب الاهتمام رفقة مئات ملايين الدولارات، وسرعان ما يختفي وهجها دون تحقيق أي نجاح ملموس (2).
"ينظر لهذه التجربة الواعدة كاختراق جديد لعالم الإنترنت، مشابه لذلك الذي بدأته فيسبوك قبل أكثر من 15 عامًا، والذي مهدت فيه لعالم مختلف تماماً".
هذا الموقف المشكك في احتمالية نجاح تجربة ميتافيرس، له ما يؤيده من سوابق موثقّة، لتجارب مماثلة، بدأت بحماس بالغ، ثم سرعان ما اختفت ولم تعد موجودة سوى في استعارات حوارات رجال وادي السيلكون في وصفهم للمشروع المفرط الحماسة الحتمي الفشل.
أشهر هذه المشاريع، وربما أقربها لميتافيرس من حيث الشكل العام، هو مشروع النظارات الذكية من غوغل "Google Glass"، التي طرحتها الشركة للبيع في مايو عام 2014، والتي سرعان ما واجهت انتقادات واسعة حول التكلفة العالية لاقتنائها وأخرى تتعلق بمخاوف صحية من استخدامها أو تجاه انتهاكات محتملة للخصوصية (3).
لكن، وعلى عكس نظارات غوغل التي ربما كانت تجربة غير ناضجة ومحدودة الإمكانيات، فإن مشروع "ميتافيرس"، في تصوراته العامة الحالية، قد يخدم الصحافة ويساعدها في تقديم محتوى يمكن أن نسميه "انغماسي" Immersive journalism، فما هي سيناريوهات ذلك؟
خيارات مغرية.. لكن هل من جمهور؟
إن الخيارات التي سيؤمنها ميتافيرس، حسب التصورات الحالية، قد تكون واسعة حتى إنه لن تستطيع غرف الأخبار استيعابها بسهولة، وستعاني في التأقلم معها أكبر من معاناتها في محاولة تطوير القوالب الصحفية لمواكبة خصوصيات مواقع التواصل الاجتماعي قبل 15 عامًا. مرد ذلك هو غياب الفرق المتخصصة في التفكير بأشكال تطوير المحتوى، وتعنّت ما يُعرف بـ"الحرس القديم" داخل غرف الأخبار آنذاك، وهو مصطلح ربما سيُطلق قريباً على الجيل الحالي من الصحفيين المتخصصين بالمنصات الرقمية.
" يُمكن استشراف بعض الملامح التي ربما يخدم بها ميتافيرس الصحافة، استنادا على تجارب صحفية حالية، بدت واعدة فيما يتعلق بإعطاء الجمهور حرية اختيار تسلسل السرد في القصة بناء على رغباته".
وكي لا ندخل بحماسة زائفة، يبقى ميتافيرس -لغاية الآن- غير واضح الملامح على وجه الدقة، ولا طبيعة الإمكانيات التي سيؤمنها، فيبقى نوع الصحافة الممكنة فيه رسم التكهنات لا أكثر. لكن، يُمكن استشراف بعض تلك الملامح استنادا إلى تجارب صحفية حالية، بدت واعدة فيما يتعلق بإعطاء الجمهور حرية اختيار تسلسل السرد في القصة بناء على رغباته، في عصر تفضيل الجمهور للخيارات المتعددة وحب التجربة المباشرة، فتعطيه حرية اختيار ترتيب بنية السرد في القصة الصحفية.
ويمكننا الإحالة للمشروع الصحفي "Inaccessible Cities" الذي أطلقته منصة AJ Contrast مؤخرا (6)، كمثال جيد على السرد التفاعلي الذي يدخل القارئ في تجربة انغماسية في تفاصيل الحياة اليومية للأشخاص ذوي الإعاقة، والتحديات التي يواجهونها خلال محاولاتهم التنقل داخل المدن. حيث تمنح القصة، بتصميمها التفاعلي، فرصة للقارئ لمحاكاة السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة أثناء تنقلهم، تستند إلى نوع القرارات التي يتخذها القارئ في كل مرحلة من مراحل تلك الرحلة.
"هذه العراقيل التي حالت دون انتشار هذا النوع الجديد من القصص، تنذر بتحدٍ جوهري ينتظر ميتافيرس؛ وهو عجز الجمهور عن امتلاك المتطلبات اللازمة لدخول هذا العالم".
كما أن تجربة الوثائقيات التفاعلية (Interactive documentary) قد تجد في ميتافيرس بيئة مثالية لإحداث قفزة في هذه الصناعة الحديثة، المستندة إلى مفهوم تعدد القصص تحت اختيار المشاهد، أي أن المشاهد يملك حرية بناء تسلسل سردية الفيلم عبر اختياره الشخصيات أو الأحداث التي يرغب في مشاهدة قصتها أولا، وحجم التعمّق الذي يريده في كل قصة. هذا النوع من الأفلام بدأ في الإنتاجات الدرامية بصورة أكثر تعقيدا من خلال فيلم "Black Mirror: Bandersnatch" عام 2018، حيث اعتمد الفيلم على تقنية منح المشاهد قرار اختيار الحبكة التي سيسير عليها الفيلم، بناء على قرارات يتخذها في مراحل مختلفة من الفيلم، حيث يظهر على الشاشة في كل مرحلة خياران يختار المشاهد أحدهما فتبنى سردية الفيلم بناءً على تلك القرارات، فتجد أن كل شخص قد شاهد فيلما مختلفًا عن الآخر (7).
الصحفيون المتخصصون في هذا النوع من القصص الصحفية والأفلام الوثائقية، قد ينظرون تجاه "ميتافيرس" كتجربة تفتح لهم خيارات واسعة تطور تفاعلية قصصهم، وتسمح للجمهور بتجربة أكثر انغماسا في القصة. إلا أن السؤال الجوهري هو: هل سيكون ثمة جمهور في ميتافيرس؟ وما طبيعته؟
دروس من تجربة تقنيات الواقع الافتراضي (VR) وتطبيقاتها في الصحافة
مطلع عام 2020 أصدرنا في معهد الجزيرة للإعلام دليلًا (4) حول آليات إنتاج القصص الصحفية بتقنية 360 درجة، وهي واحدة من تقنيات الواقع الافتراضي VR. حينها كان هذا النوع من القصص يلقى رواج بداياته الأولى، وتنافست المؤسسات الصحفية الكبرى، كالجزيرة ونيويورك تايمز، على إنشاء وحدات خاصة لإنتاج هذا النوع من القصص. ففي نيويورك تايمز، أطلقت الصحيفة عبر منصاتها الرقمية مشروع "The Daily 360" (5)، عام 2016، أنتجت خلالها عشرات القصص الصحفية المصورة بتقنية 360 درجة، إلا أن الصحيفة توقفت عن إنتاج هذا النوع من القصص في عام 2018، دون أي توضيح لسبب التوقف.
كما أن منصة AJ Contrast توسعت من مجرد إنتاج القصص المصورة بتقنية 360 درجة إلى إنتاج قصص تفاعلية شاملة تجاوزت الاعتماد على تقنية 360 درجة كوسيلة لإنتاج القصص.
تشي هذه التجارب بأن إنتاج القصص بهذه التقنية لم يلقَ الرواج المتوقع بين الجمهور، لا سيما بسبب المعدات الواجب توفرها عند الجمهور ليتمكن من عيش التجربة التفاعلية بشكلها الأمثل.
هذه العراقيل التي حالت دون انتشار هذا النوع الجديد من القصص، تنذر بتحدٍ جوهري ينتظر ميتافيرس؛ وهو عجز الجمهور عن امتلاك المتطلبات اللازمة لدخول هذا العالم. ما يرجّح أن الصحافة إن قررت ركوب قطار وادي السيليكون، المتجه بتفاؤل مبالغ فيه تجاه ميتافيرس، واستعدادها لاستثمار ملايين الدولارات فيها، قد تكتشف في نهاية المطاف أن الجمهور لم يركب القطار أصلاً.
الخطر من "متلازمة الأشياء اللامعة"
تشير دراسة (8) نشرها معهد رويترز لدراسة الصحافة في جامعة أوكسفورد، إلى واحدة من أكثر المتلازمات التي أدخلت الصحافة في أزمة بالسنوات القليلة الماضية؛ "متلازمة الأشياء اللامعة Shiny Things Syndrome"، والناتجة عن الهوس المَرَضي عند كثير من الصحفيين لمواكبة التطورات التكنولوجية الجديدة وتطويعها للصحافة، لكن دون أي استراتيجية واضحة. تؤثر هذه المتلازمة على المهنة بجعلها منقادة بالتقنية لا بالقيم والمبادئ الصحفية، فتتحول الصحافة لمفهوم هلامي يتغير بتغير القوالب التي تطرحها كل تكنولوجيا جديدة.
فبدلا من أن تطور الصحافة قوالبها سعيا لمواكبة اهتمامات وتفضيلات جمهورها ومن ثم البحث عن التقنيات المناسبة، يصبح ذلك السعي مقترنا بمواكبة التقنية ومن ثم البحث عن جمهور يفضل هذا المحتوى، كيفما كان.
يمكنني هنا ترك المجال أمام الصحفيين لتذكر محاولات مشابهة قامت وتقوم بها الصحافة لمواكبة التقنية، وأوقعتها في أزمة أخلاقية ومهنية كبرى، وتحديدا عن "الفيل في غرفة الأخبار": صفحاتها على منصات التواصل الاجتماعي. كنا قد أسهبنا بالحديث في هذا الموضوع في دليل أصدرناه مؤخرا في معهد الجزيرة للإعلام "دليل أخلاقيات الصحافة في العصر الرقمي" (9)، حاولنا فيه "طرق الخزان" الذي ينقل الصحافة دون وعي تجاه الانقلاب على مبادئها الأساسية ويحولّها لمنصات ترفيه تقتات على الوصول والتفاعل، لا القيمة الخبرية، في خضم رحلة الصحافة الوعرة لمسايرة التقنية، والخوارزميات على وجه التحديد.
ما نخشاه، أن تنبهر بعض المؤسسات الصحفية بميتافيرس، هذا الشيء الجديد اللامع، وتنسى قيمها الأساسية في سبيل الوصول أولاً لذلك الفضاء الافتراضي، من ثم، وبعد أن تلقى الثناء اللازم من وادي السيليكون، وتحصد مجموعة جوائز مستحدثة لأفضل محتوى صحفي على ميتافيرس، تلحق بها مؤسسات صحفية كبرى، سعيا للتنافس، لكن ليس على السبق الذي يحقق المصلحة العامة في هذه الحالة.
ولتجنب ذلك، يجب على غرف الأخبار إنشاء وحدات متخصصة داخلها، تعنى فقط بدراسة كل تقنية جديدة وفهم أبعادها ومميزاتها، من ثم محاولة تطويعها لخدمة القيم الصحفية الأساسية، والخروج بمقاربة متوازنة، مهنيا وأخلاقيا، تحفظ للصحافة سمعتها، وتطور قوالبها في الوقت ذاته.
المراجع:
(1) https://about.fb.com/news/2021/10/facebook-company-is-now-meta/
(2) https://www.bloomberg.com/news/newsletters/2022-02-11/the-metaverse-mak…
(3) https://www.business2community.com/tech-gadgets/5-reasons-google-glass-…
(5) https://www.youtube.com/c/nytimes/search?query=360
(6) https://inaccessiblecities.ajcontrast.com/
(7) https://www.hollywoodreporter.com/tv/tv-news/black-mirror-bandersnatch-…;
(8) https://reutersinstitute.politics.ox.ac.uk/sites/default/files/2018-11/…;
(9) https://bit.ly/3Jodukx