في مقطع مصور يظهر صوت أحمد حجازي من خلف الكاميرا، بينما الصورة لرجل في أواخر الخمسينيات برفقة أربعة من أبنائه، يرفعون أيديهم أمام جنود وقناصة الاحتلال في منطقة مواصي خانيونس جنوبي قطاع غزة.
يُحدِّث الرجل أحمد وهو يرفع في يد هويته الشخصية، وفي الأخرى راية بيضاء: "نريد العودة إلى بيتنا كي نُخرِج بقية أفراد عائلتنا... نحو 50 فردا ما زالوا محاصرين هناك حتى اللحظة".
الرجل مضى، وكاميرا أحمد تتبعه، حتى إذا ما ابتعد بضع خطوات، أطلق قناص نيران رشاشه عليه فأرداه على الفور شهيدا. المشهد لم ينته! عاد أحمد ليصور انتشاله وسط استمرار إطلاق النار، ثم هرول معه ومع الشبان الذين هبوا لحمل جثمانه باتجاه جامعة الأقصى، حيث لجأ الناس احتماء من الرصاص المنهمر.
أحمد هو مواطن فلسطيني. ليس صحفيا، لكنه مشهور في مواقع التواصل الاجتماعي برسائله التوثيقية لواقع الحياة في قطاع غزة. في هذه الحرب، ومثل عدد لا بأس به من رواد وسائل التواصل الاجتماعي، تحول أحمد إلى عين من عيون الصحافة، فنقل قصصا من مدينة غزة وشمالها، بعضها لم تستطع الصحافة الوصول إليه بفعل موجة النزوح القسرية والاستهداف المتكرر لسيارات الصحفيين ومواقعهم، ثم أتبعها برسائل أخرى من المنطقتين الوسطى والجنوبية لاستهداف المنازل، وقهر الثكالى، وبكاء الأطفال.
في هذه الحرب، حمل أحمد وغيره من "المواطنين الصحفيين" على عاتقهم انتشال القصص التي كان يمكن أن تُدفن مع أصحابها تحت ركام منازلهم، "وإيصال أصوات المستضعفين في غزة". رغم ذلك، هم يعملون دون إطار رسمي يحميهم، أو حقوق يمكن أن تعوّضهم عن وقع الإصابة، وأحيانا "دون موثوقية" بالنسبة للوسط الصحفي عموما، لكونهم لا يحملون شهادة الصحافة.
أحمد مواطن فلسطيني. ليس صحفيا، لكنه مشهور في مواقع التواصل الاجتماعي برسائله التوثيقية لواقع الحياة في قطاع غزة. في هذه الحرب، ومثل عدد لا بأس به من رواد وسائل التواصل الاجتماعي، تحول أحمد إلى "عين صحفية".
يقول حجازي لمجلة الصحافة: "يتعامل معنا بعضهم على أننا دخلاء على المهنة. هذا محبط بعض الشيء، لكنه ليس سببا للتوقف".
ويتابع: "لقد تميز المواطنون الصحفيون في هذه الحرب بنقل ما يحدث. هذه الحرب تحديدا جعلت كل مواطن صحفي يحمل هَمّ نقل الرسالة، ليس انتصارا لوجعه فحسب، بل انتصارا للإنسانية. شهداؤنا ليسوا أرقاما، والقصص كلها يجب أن تُوثَّق وتصل".
يخبرنا أحمد أن بعض المؤسسات الإعلامية المحلية، والدولية الكبرى أيضا، اعتمدت في تغطية هذه الحرب منذ اندلاعها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، على قصص ومقاطع فيديو وثّقها مواطنون صحفيون، لا صحفيون مختصون وحسب". وهذا يدفعنا إلى التساؤل نحن أبناء الفئة الأولى: متى يمكن أن يكون لدينا إطار رسمي يحمي وجودنا، ويغطي رسائلنا بصبغة رسمية؟ ولا سيما في قطاع غزة حيث لا متسع للهدوء أبدا".
ورغم أن "صحافة المواطن" باتت تمثل حالة انقلاب في أنظمة التواصل، ورافدا لوعي الجمهور بالقضية الفلسطينية خلال هذه الحرب خاصة، فإن المدوِّنة سجى أحمد تشتكي ما وصفته بـ "عدم التقدير"، "وحصر التسهيلات الخاصة بالوصول إلى القصص والتغطيات المختلفة والمقابلات الخاصة على الصحفيين، والحاصلين على بطاقات الصحافة فقط".
يعملون دون إطار رسمي يحميهم، أو حقوق يمكن أن تعوّضهم عن وقع الإصابة، وأحيانا "دون موثوقية" بالنسبة للوسط الصحفي عموما، لكونهم لا يحملون شهادة الصحافة.
سعت سجى منذ بداية الحرب على قطاع غزة إلى النشر عبر منصاتها المختلفة (إنستغرام وتيك توك تحديدا) لتوثيق ما يحدث في قطاع غزة، ورصدت بكاميرا هاتفها المحمول العديد من الأحداث والقصص، "حتى إننا حصلنا على قصص لم تصل إليها الصحافة، ووصلنا بها إلى العالم كله، ودحَضنا من خلالها الروايات الإسرائيلية بشأن مبررات قتل المدنيين العزل في مناطق القطاع المختلفة".
وتضيف سجى: "ورغم حربنا التي نعيشها على الأرض، وحربنا بمحاولة النشر في كل مرة بسبب انقطاع التيار الكهربائي وصعوبة الوصول إلى الإنترنت، فإننا نعمل وحدنا. لا توجد جهة يمكن أن تدعمنا أو تحدد حقوقنا وواجباتنا، أو حتى تعوضنا في حال أُصبنا خلال التغطية على سبيل الافتراض".
ويتفق أحمد وسجى على أن مصطلح "المواطن الصحفي" ينطبق على الرسائل التي يقدمانها؛ إذ تحمل عناصر النقل الموثّق للأحداث، "وقد لا تخلو من هفوات ينتبه إليها الصحفيون لكونهم أبناء المهنة، وأصحاب التخصص" كما تقول سجى.
"حصلنا على قصص لم تصل إليها الصحافة، ووصلنا بها إلى العالم كله، ودحَضنا من خلالها الروايات الإسرائيلية بشأن مبررات قتل المدنيين العزل في مناطق القطاع المختلفة".
لكن ما لا يمكن أن يقبله الاثنان هو التعامل معهما على أنهما عبء على العمل الصحفي، أو محاولة التقليل من جهودهما في تغطية جرائم الاحتلال، بدعوى عدم حصولهما على شهادة صحافة، أو اتهامهما بعدم الإلمام بالمعايير المهنية أو الوطنية في التغطية، "فيكفينا ما نحصل عليه من إشادة على الملأ ورضانا عما نقدمه نصرةً لقضيتنا" حسب شهادة أحمد.
صانع المحتوى محمد أبو رجيلة يرى أيضا أن كل المواطنين الفلسطينيين باتوا يتنافسون في نقل الرواية الفلسطينية عبر أدواتهم البسيطة، غير منكر أن بعضهم لا يلتزم بضوابط النشر ومعاييره، "وهذا طبيعي، فالمواطن الصحفي ليس كالصحفي المواطن في تمرسه بنقل الأحداث والقدرة على فرزها وتحديد ما يمكن نشره وما لا يمكن، وصولا إلى مرحلة الحقوق والواجبات".
إن هذه الحرب، حسب أبو رجيلة، أثبتت الدور الفاعل لصناع المحتوى أو "المواطنين الصحفيين" في نقل الرسالة، وتوثيق الأحداث، والوصول إلى الضحايا وإيصال أصواتهم.
إن هذه الحرب - حسب أبو رجيلة - أثبتت الدور الفاعل لصناع المحتوى أو "المواطنين الصحفيين" في نقل الرسالة، وتوثيق الأحداث، والوصول إلى الضحايا وإيصال أصواتهم، "ولهذا فإن على الجهات المسؤولة استثمار قدراتهم ما بعد الحرب بتأهيلهم وتدريبهم على معايير النقل والنشر، والتفريق بين الإعلام والإعلان، والتوعية بأهمية الرسالة الإعلامية في تحريك الرأي العام تجاه القضايا المختلفة".
من جانبها، ترى مديرة مركز تطوير الإعلام في جامعة "بيرزيت" نبال ثوابتة أن المواطن الصحفي كان بارزا "ونموذجيا" في مشاركته بتغطية أحداث الحرب في غزة، مستدركة: "بل أبلى بلاء أكثر من رائع -على الأغلب- رغم المخاطر العالية، ورغم المعرفة المسبقة بأن أي خطر لن يكون من السهل تجاوزه، لكونه لا ينضوي تحت لواء أي جهة أو نقابة أو مؤسسة تحميه أو تعوضه".
يقول الصحفي محمد الدلو إن الدور الذي أداه المواطنون الصحفيون في قطاع غزة كان بارزا ولولا أنهم شاركوا في نقل الصورة لبقيت كثير من القصص مدفونة تحت ركام المنازل برفقة جثامين أصحابها، بسبب عدم قدرة الصحفيين على الوصول إلى المناطق كافة"
في هذه الحرب تحديدا، أصبح هناك تفكير فعلي في تغيير التعامل معهم في الجوانب الحقوقية والنقابية. وتقول نبال: "ثمة إجماع على أنهم يؤدون رسالة، لكن من دون مرجعية قانونية أو أكاديمية، ومن دون أن يتحرى جميعهم المعايير الأخلاقية والمهنية في النقل، ومن ثَم فإن احتواءهم في نقابة الصحفيين بحاجة إلى ترتيبات".
وترى في السياق نفسه أنه "يجب التفكير في إدماجهم ببرامج تدريب، وفي ائتلافات ومنتديات محددة لاكتساب الخبرات المختلفة والتعرف إلى معايير النقل والنشر المهنية. شخصيا أنا مع هذا الاتجاه".
وتشرح ثوابتة وجهة نظرها بالقول: "أصبح الإعلام يُدمج اليوم بتخصصات أخرى، كحقوق الإنسان، واللغة العربية، والتنمية، واللغة الإنجليزية. هذا يجعلنا نفكر في إمكانية ابتكار تخصصات إعلامية يمكن أن تشمل منصات التواصل الاجتماعي والنشر عبرها، ومحبي هذا التوجه من المواطنين الصحفيين"، موضحة أن التفكير في خلق إطار نقابي خاص بهم هو أمر مبكر لأن الأولى الآن تنظيم عملهم، وتدريبهم، وتطوير قدراتهم، وخلق بيئة مناسبة لعملهم وفق آليات وضوابط ونظم تحصّنهم وتحدد إطار عملهم من الناحيتين القانونية والحقوقية.
الصحفي محمد الدلو، قال لمجلة الصحافة إن "الدور الذي أداه المواطنون الصحفيون في قطاع غزة كان بارزا خلال الحرب منذ بدايتها وحتى اليوم، ولولا أنهم شاركوا في نقل الصورة لبقيت كثير من القصص مدفونة تحت ركام المنازل برفقة جثامين أصحابها، بسبب عدم قدرة الصحفيين على الوصول إلى المناطق كافة".
"طبيعة الوضع، ومحاولات إيصال الرسالة تحت النار، تجعل من الأخطاء والهفوات أمرا واردا لدى الصحفيين المتمرسين، فما بالكم ونحن نتحدث عن مواطنين يحاولون فقط نقل الرسالة بدافع إنساني، ولا يعون بشكل واضح معايير النشر وآدابه المتخصصة؟" ويضيف الدلو: "لا يمكن -مهنيا- التعامل مع المادة التي يقدمها الناشط كالمادة التي يقدمها الصحفي المُعتَمد، وفي الوقت نفسه لا يمكن التقليل من قيمة ما يقدمه الناشطون تحديدا في أوقات الحروب".
"ثمة إجماع على أنهم يؤدون رسالة، لكن من دون مرجعية قانونية أو أكاديمية، ومن دون أن يتحرى جميعهم المعايير الأخلاقية والمهنية في النقل، ومن ثَم فإن احتواءهم في نقابة الصحفيين بحاجة إلى ترتيبات".
ويتحدث محمد عن أهم معايير النشر التي يجب أن يتحرّى الناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي في قطاع غزة الالتزام بها، ومنها "احترام خصوصية المواطنين في عين الكاميرا وكرامتهم؛ تحديدا الناجين من تحت الأنقاض، وعدم استغلال معاناة الناس والأطفال أو القُصَّر للحصول على هبات أو أموال، والحرص على تجنب نشر ما يثير الفتنة أو يحرض عليها أو يدعو إلى العنصرية الحزبية وكل ما يدور في فلكها، وعدم توظيف أنشطتهم لخدمة مصالح خاصة وفئوية، إضافة إلى تجنب التسرع في مشاركة أي منشور أو تأييد ما فيه قبل التثبّت من صحته، ولا سيما إذا كان له تأثير في الرأي العام، وعدم توجيه أي تهمة لأي شخص أو جهة أو جماعة، ما لم يُقدَّم دليل يثبت صحة ذلك".