حمل فجر الثالث من مايو/أيار 2024 مفاجأة لكل الموريتانيين وربما للعرب والمعنيين بشأن الصحافة وحرياتها عالمياً. فقد قفزت موريتانيا دفعة واحدة إلى صدارة العالمين العربي والإفريقي على مؤشر حرية الصحافة، والتي تصدره سنويا منظمة "مراسلون بلا حدود"، بمناسبة اليوم العالمي للصحافة.
لقد احتلت موريتانيا الرتبة 33 على سلم هذا المؤشر من بين 180 دولة حول العالم، محقّقةً تقدماً بـ53 نقطة دفعة واحدة، حيث كانت في الرتبة 86 في التقرير الصادر العام الماضي.
وقد نالت موريتانيا هذه الرتبة رغم أن التقرير نوّه إلى أن الصحفيين الموريتانيين ما يزالون "يعيشون هشاشة كبيرة" وأنهم ينشطون "في ظل وضع اقتصادي هش"، وأنّ الصحفيين هناك يتعرضون "لضغوط كبيرة من السلطة السياسية". إلا أنها مع ذلك أشارت إلى أنهم يعملون "في بيئة أقل قمعا.. منذ إلغاء تجريم المخالفات الصحفية عام 2011".
نوّه التقرير إلى أن الصحفيين الموريتانيين ما يزالون "يعيشون هشاشة كبيرة" وأنهم ينشطون "في ظل وضع اقتصادي هش"، وأنّ الصحفيين هناك يتعرضون "لضغوط كبيرة من السلطة السياسية". إلا أنها مع ذلك أشارت إلى أنهم يعملون "في بيئة أقل قمعا.. منذ إلغاء تجريم المخالفات الصحفية عام 2011".
كما نبه التقرير إلى أن "الإطار القانوني ما زال يحتوي على العديد من القيود التي تعيق ممارسة الصحافة"، فذكر بشكل خاص بالقانون المعروف بـ"قانون الرموز"، مؤكدا أنه "قد يشكل عائقا أمام الصحفيين، بسبب بعض مواده التي قد يتم تأويلها لقمع الصحفيين في حالة حديثهم عن بعض المواضيع والشخصيات".
وهنا يبرز السؤال حول سر هذا "الاستثناء" الموريتاني؟ وما العوامل التي تقف وراء التقدم الكبير على مؤشر حرية الصحافة؟
يمكن إرجاع هذا التقدم إلى جملة من العوامل، منها المحلي الذي يرتبط بالتجربة الإعلامية الموريتانية، وصيرورتها، وتطوّر السياق الذي يعمل به الصحفيون. ونذكر من هذه العوامل ما يلي:
صحافة طليقة: فالصحافة الموريتانية خلال السنة المنصرمة كانت صحافة طليقة، فلم يسجل خلال هذه الفترة سَجن أي صحفي، خلافا لما عليه الواقع في العديد من البلدان العربية والإفريقية، وغيرها من دول العالم، وإن كان هذا لا ينفي تعرض صحفيين للتوقيف المؤقت، أو الاستدعاء والمساءلة أمام الأمن، أو المضايقة خلال التغطية.
لقد حققت الصحافة الموريتانية هذا المكسب، أي إلغاء الحبس في قضايا النشر منذ العام 2011، وذلك ضمن مسار نضالي طويل، بدأ منذ عقود، وعرف محطات فارقة، كطفرة الصحافة الورقية مع بداية التعددية في البلاد (1990 – 1991)، ومرحلة تحرير الفضاء السمعي البصري (2006). فيما كانت مرحلة الإعلام لإلكتروني ثالث هذه المراحل، والتي بدأت بالمواقع الإلكترونية، ووصلت الآن مرحلة منصات التواصل الاجتماعي.
إعلام إلكتروني بالأساس: ساهم في تحقيق هذا المكسب اعتماد الصحافة الموريتانية على الإعلام الإلكتروني، والتراجع الكبير – حد الاقتراب من الغياب – للصحافة الورقية، وهذا ما رفع سقف الحرية، وحد كثيرا من التدخلات المباشرة والعقوبات التي تعقبها وتطال الصحف وأصناف المطبوعات الإعلامية، فتنجح في مضايقتها والحد من وصولها للجمهور، وهذا ما نجح الإعلام الرقمي بالتخفّف منه وتجاوزه في كثير من الأحيان.
تراكم التجربة الديمقراطية: كما أن من هذه العوامل تراكم التجربة الديمقراطية في البلاد. فرغم النكسات التي عرفتها، من خلال الانقلابات العسكرية (2005 – و2008)، والاختلالات التي ترد في حقها، إلا أنها في النهاية ساهمت في تعزيز الثقافة والقيم الديمقراطية الحديثة، وبالتالي في التجربة الصحفية والوعي بأهمّيتها وحق المواطنين في أي مجتمع مدني بها. كما استفادت الصحافة أيضاً من أخطائها، وراكمت إيجابياتها، وعززت من مكاسبها القانونية.
إطلاق مسار لإصلاح الصحافة: فقد شكل الرئيس محمد ولد الغزواني في يوليو/حزيران عام 2020 لجنة عليا كلفها بتقديم تصور لإصلاح الصحافة، وذلك بعد أقل من سنة من تسلمه السلطة في البلاد.
وقد أعدت هذه اللجنة التي ترأسها الوزير والدبلوماسي السابق محمد محمود ولد ودادي، تقريرا سلمته للرئيس فبراير/شباط 2021، وتضمن تشخيصا شاملا لواقع الإعلام في البلاد، إضافة إلى ـ64 مقترحا لحل أزمته. وقد غطت المقترحات محاور متعددة، في مقدمتها اعتماد سياسة وطنية للإعلام، وإعادة هيكلة جهة الإشراف على القطاع بالعودة لوزارة الاتصال، وإنشاء مجلس أعلى للصحافة، ومراجعة كل القوانين الناظمة للإعلام في البلاد، وجمعها في مدونة واحدة منقحة ومحيّنة، وإصدار قانون حول حق النفاذ إلى المعلومات يعزز الحريات ويكمل الترسانة القانونية التي من شأنها أن تحمي هذه المكتسبات.
ومع أن عددا معتبرا من مقترحات وتوصيات هذه اللجنة ما تزال طي الأدراج ولم تأخذ طريقها إلى التنفيذ، فإن إنجاز التصور، والمصادقة على بعض النصوص القانونية يعد من العوامل التي ساهمت في تحقيق التقدم.
كما أسهم في التقدّم الذي أحرزته موريتانيا على صعيد حريّات الصحافة والصحفيين مؤثرات إقليمية ودولية لا بدّ من الإشارة إليها. لقد استفادت البلاد من تقهقر دول أخرى على هذا الصعيد، ونجت حتى الآن من التأثّر سلباً بالاتجاه السائد من تراجع كبير تعيشه الصحافة والصحفيون في العالم، وخصوصا في المحيطين العربي والإفريقي. وهو ما جعل هذه الدول بين المتقهقر في الترتيب، أو المتقدم تقدما طفيفا؛ فمالي والجزائر وبوركينا فاسو والنيجر، والعراق، ولبنان، والإمارات، ومصر، وعدة دول أخرى تراجعت على هذا المؤشر بشكل متفاوت. أما تونس، والسنغال، والمغرب وليبيا ودول أخرى فقد تقدمت تقدماً محدوداً. وضمن هذا السياق، بدا التقدّم الذي حققته موريتانيا لافتاً بشكل مضاعف.
"قفزة نوعية" أم "تناقض بيِّن"
تباين تقييم التصنيف بين الجهات الرسمية، والإعلاميين والقانونيين. فقد رأت فيه وزارة الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان "قفزة نوعية وشهادة بارزة وتثمينا للجهود الجبارة التي بذلتها الحكومة.. لتمهين الحقل الصحفي وتمكينه من ممارسة عمله في جو تطبعه الحرية والاحترافية".
ومضت الوزارة في الاحتفاء بالتقرير، مؤكدة أنه "لم يأت من فراغ، بل كان انعكاسا لجملة من الإصلاحات القانونية والمؤسسية بدأت بتشكيل لجنة وطنية مكلفة بإصلاح قطاع الإعلام شخصت في تقريرها أهم الاختلالات التي تعيق العمل الصحفي، ليتم بعد ذلك سن القوانين المنظمة للقطاع".
وأكدت الوزارة في بيان أصدرته بالمناسبة أن "هذا التصنيف لم يأت من فراغ، بل كان انعكاسا لجملة من الإصلاحات القانونية والمؤسسية بدأت بتشكيل لجنة وطنية مكلفة بإصلاح قطاع الإعلام شخصت في تقريرها أهم الاختلالات التي تعيق العمل الصحفي، ليتم بعد ذلك سن القوانين المنظمة للقطاع".
أما الكاتب الصحفي والعضو السابق في السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية "الهابا" أحمد سالم سيدي عبد الله فرأى في تصريح خاص أن تقرير مراسلون بلا حدود "حمل تناقضا بينا، يكشف عن الحالة الموريتانية الاستثنائية في هذا الجانب".
وأضاف أنه "من غير المنطقي أن تتصدر منظومة "هشة" مهما كانت طبيعتها أي مشهد؛ فالهشاشة عائق وتصنيف سيئ، يحرم الصحفيين من المحافظة على مهنيتهم، ويجعلهم عرضة للاستغلال، من طرف الجميع، فلا حرية بدون استقلال مادي، وبنية مؤسسية قوية".
ولفت إلى أن هذا التصدر جاء مقروناً بإقرار المنظمة بواقع "الهشاشة" الذي تعيشه الصحافة الموريتانية، "وهو تعبير شبه دقيق عن مستوى الترهل الذي تعيشه المؤسسات الإعلامية في موريتانيا، وانعكاس ذلك على واقع الصحفي الموريتاني".
فيما ذهب الخبير القانوني والمحامي محمد المامي مولاي اعل إلى القول إن تقدم موريتانيا في تصنيف حرية الصحافة يقوم على أساس معايير تأخذ في الحسبان عدد الصحفيين المحبوسين بسبب جرائم النشر، وهو تقدم لافت ومبشر.
وأضاف ولد مولاي اعل في تصريح خاص أنه رغم إلغاء عقوبة حبس الصحفيين في جرائم النشر منذ سنة 2011 بموجب تعديل قانون حرية الصحافة، فإن طبيعة القوانين الموريتانية الحاكمة للمجال تجعل من الممكن حبس صحفيين على جرائم نشر تحت غطاء تكييف مغاير، بحيث لا تظهر كحالات حبس عن جرائم النشر.
وأكد ولد مولاي اعل أن نصوصاً جديدة صدرت خلال السنوات الأخيرة عاقبت جرائم النشر بعقوبات حبسية، وأصبحت هي المعتمدة في تكييف وقائع النشر، كالقانون المتعلق بالجريمة السيبرانية، الذي نص في مادته الثانية على انطباقه على الجرائم المرتبطة باستخدام (تقنيات الإعلام والاتصال) مستثنياً منها البث الإذاعي والتلفزي فقط، وكذلك القانون المتعلق بمكافحة التلاعب بالمعلومات، وقانون حماية الرموز الذي نص على أنه يهدف لتجريم ومعاقبة الجرائم المرتكبة باستخدام (تقنيات الإعلام والاتصال الرقمي ومنصات التواصل).
تاريخ من التأرجح
تأرجحت موريتانيا على هذا المؤشر كثيرا، وخصوصا خلال العقدين الأخيرين، من التقدم للاقتراب من منافسة الدول ذات التصنيف الجيد، إلى ارتكاس إلى درك الدول الأدنى تصنيفاً على مؤشر الحريات. ولئن كان في طبيعة الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد ما يفسر بعض هذه التصنيفات، فإن بعضها الآخر ظل مثار جدل وتساؤل لدى الرأي العام الموريتاني، وفي صفوف الإعلاميين بشكل خاص.
وإجمالا، انتقلت موريتانيا من الرتبة 138 عالميا خلال العام 2004، وغطى التقرير حينها 167 دولة، إلى الرتبة 33 عالميا العام الجاري (2024)، والذي يغطي التقرير فيه 180 دولة.
تأرجحت موريتانيا على هذا المؤشر كثيرا، وخصوصا خلال العقدين الأخيرين، من التقدم للاقتراب من منافسة الدول ذات التصنيف الجيد، إلى ارتكاس إلى درك الدول الأدنى تصنيفاً على مؤشر الحريات
وكانت أفضل رتبة حققتها موريتانيا خلال العقدين الأخيرين، هي الرتبة 48 في العام 2016، تليها الرتبة 50 في العام 2007. لكن اللافت أن البلاد كانت تنتكس بعد كل تقدم، وتخسر رصيدها بتسارع كبير أحياناً. ففي العام 2008 خسرت البلاد 55 نقطة دفعة واحدة، لتنتقل من الرتبة 50 إلى 105 عالمياً، وغطى التقرير حينها 173 دولة. وقد صنفت موريتانيا في العام 2017 في الرتبة 55، ثم تراجعت بشكل مطرد حتى وصلت إلى الرتبة 97 في العام 2022.
ويبقى التحدي الأبرز الآن: هل تحافظ موريتانيا على رتبتها المتقدمة وتعزز من تجربتها، أم تعاود سيرتها الأولى بالتقهقر مجددا بوتيرة مشابهة لوتيرة صعودها وربما أسرع؟