وأنا أمر أمام مقر شركة "كامبريدج أناليتيكا" في العاصمة البريطانية لندن، أستغرب كيف أن مكتبا عاديا في مبنى زجاجي، تمكَّن من اختراق موقع التواصل الأكبر في العالم، فيسبوك، وسرقة بيانات خمسين مليون مستخدم، واستغلال هذه البيانات، لتوجيه الرأي العام الأميركي خلال الانتخابات لصالح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بل إن الشركة نفسها استغلت منصة فيسبوك للتأثير على الرأي العام البريطاني والتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كيف لشركة بهذا الحجم أن تضع عملاق التواصل الاجتماعي في مأزق غير مسبوق، ويكون لها يد في التأثير على نتائج أحداث جسام، داخل دول عظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا؟
لعل التخوف من الوصول إلى هذه المرحلة، هو الذي دفع عددا من الناشرين والشبكات الإخبارية الكبرى، لمطالبة فيسبوك بدفع ثمن استخدام ونشر ما ينتجونه من مواد صحفية تتوفر فيها المعايير المهنية الصحفية، إن رغب فيسبوك في الحصول على المضمون الصحفي الجيد والخبر الموثوق، عوض الأخبار الزائفة التي تنتشر بشكل كبير في هذا الموقع، وكانت مطية لشركة مثل "كامبريج أناليتيكا" للتأثير في توجهات الرأي العام.
كان أول من أطلق هذه الدعوة وألح عليها هو روبرت مردوخ، إمبراطور الإعلام الدولي والمدير التنفيذي في مؤسسة "فوكس 21"، بحديثه عن ضرورة استفادة الشبكات الإخبارية الكبرى، من نشر فيسبوك لمضمونها الإعلامي. حجّة مردوخ تتلخص في أن مضمون تلك المؤسسات الإعلامية مكلف، وهو السبيل الوحيد لمواجهة الأخبار الزائفة. أما دعوته تلك، فكانت لسان حال عدد من المؤسسات الإعلامية الكبرى، الممتعضة من استغلال فيسبوك لمضمونها الصحفي، بل إن هذه المؤسسات الصحفية تجد نفسها مضطرة للدفع مقابل ضمان انتشار أوسع لموادها الصحفية. معادلة تصب بالكامل لصالح شركة مارك زوكربيرج، ومع ذلك فالأخير، سيرد بالإعلان عن تغيير سياسة شركته في النشر، بالاستعاضة عن نشر الأخبار بإعطاء حيز أكبر للأنشطة الشخصية وصور العائلة والأصدقاء. تغييرٌ كان بمثابة إعلان حرب ضد الشبكات الإخبارية المرئية منها والمكتوبة، فلمن ستكون الغلبة في هذه المعركة المفتوحة؟
الأخبار الزائفة.. رب ضارة نافعة
يستند العمل الصحفي على البحث عن المواضيع المهمة ومناقشتها، والتدقيق في مصادر الأخبار، وتقديم المعلومة للجمهور أو القارئ، بغرض الحكم عليها وتكوين وجهة نظره حول قضية معينة. بيد أن المؤسسات الإعلامية التي تراعي في اشتغالها معايير العمل الصحفي، وجدت نفسها بين مطرقة الكلفة العالية لإنتاج أخبار دقيقة وذات مصداقية، وسندان القوانين الجديدة التي فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي، من سرعة وإثارة والتركيز على الكم، لا الجودة والكيف.
وسبق لصحيفة غارديان البريطانية، أن كشفت أن عددا من الناشرين البريطانيين راسلوا الحكومة أكثر من مرة لممارسة ضغوط على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُغرق سوق الإعلام بمحتوى لا يراعي مقومات العمل الصحفي، بأن تحترم التعددية الإعلامية. وكان هاجس المؤسسات الإعلامية، أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تتقمص دور الوسيلة الإعلامية، رغم تأكيد شركة فيسبوك أكثر من مرة أنه وسيلة للتواصل الاجتماعي وليس وسيلة إعلامية، وإنما هو فقط حامل لنشر المحتوى الإعلامي.
هذه المطالبات سواء الموجهة للحكومات أو لشركة فيبسوك، من طرف الشبكات الإخبارية الكبرى، لم تجد آذانا صاغية لدى مواقع التواصل الاجتماعي المأخوذة بحمى الأرباح التي تحققها من وراء ما تدفعه المؤسسات الإعلامية للترويج لمنتوجها. وعلى سبيل المثال، ففي الولايات المتحدة الأميركية، كانت القنوات التلفزيونية تحتكر 70 مليار دولار من الميزانية الموجهة للإشهار. وقد تراجع هذا المبلغ، لصالح فيسبوك.
الانتخابات الأميركية وما استتبعها من تحقيقات، أظهرت دور الأخبار الزائفة في توجيه الناخبين، كما أظهرت صواب رهان المؤسسات الإخبارية التي تعتمد على شبكة واسعة من المراسلين والمصادر عبر العالم، وتستثمر ميزانيات ضخمة لتحقيق المعادلة الصعبة بين السبق والمصداقية؛ فمنذ الانتخابات الأميركية، بات التعامل مع الأخبار الزائفة "قضية دولة"، تتعامل معها أجهزة المخابرات وتتعقبها لتعرف مصدرها. وأمام هذا الكم الكبير من الأخبار الكاذبة والدعائية، باتت المعلومات والمواد المنتجة من طرف مؤسسات إعلامية كبرى في العالم، عملة نادرة وغالية من صالح فيسبوك الترويج لها، حتى لا يوسم بأنه منصة للأخبار الزائفة.
ولأن المعركة سجال بين فيسبوك والشبكات الإخبارية، فقد لجأت مؤسسات كبرى إلى الترويج لمنتجاتها بعيدا عن فيسبوك، بينما لجأت أخرى لمطالبة فيسبوك بالدفع مقابل استعمال ما تنتجه من أخبار وتقارير، مكتوبة أو صحفية، لاسيما التحقيقات الصحفية التي تتطلب مجهودا بشريا وتكلفة مادية. وهذا ما لجأت إليه صحف عدة مثل "نيويورك تايمز" و"غارديان"، حيث سحبَتا أخبارهما العاجلة من فيسبوك، بل باتت تعتمد على تطبيقاتها ومواقعها الإلكترونية.
هذه التغيرات وغيرها دفعت فيسبوك للاعتراف بأن تضرُّر المؤسسات الإعلامية الكبرى، سيلحق الضرر حتى بأعمال فيسبوك. وهو ما عبرت عنه الإعلامية الأميركية الشهيرة، كامبل براون، ورئيسة الشراكات الإخبارية في فيسبوك، بقولها "إذا فشلت المؤسسات الإعلامية في التعايش مع مناخ مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا أمر سيء بالنسبة لها ولكنه أيضا يضر بأعمال فيسبوك"، تغيير في نبرة الخطاب الموجه إلى المؤسسات الإعلامية، بعد أن تحولت الأخبار الزائفة إلى عبء على منصة التواصل الاجتماعي، وهذا خبر جيد للشبكات الإعلامية الكبرى.
الصحافة الجيدة.. استثمار مكلف
من يعتقد أن الأخبار الصحيحة باهظة الكلفة، فليجرب كلفة الأخبار الزائفة. وليعذرني ديرك بوك، المدير السابق لجامعة هارفرد، على تحوير مقولته، لكنها تبقى معبرة عن المشهد الحالي في الإعلام، وذلك الصراع بين مؤسسات اختارت الاصطفاف في خندق المهنية، والاستثمار لتقديم منتوج خبري دقيق وموثوق، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تميز الغث من السمين في انتقائها للأخبار التي تنشرها، فتكبدت جراء ذلك خسائر مادية فادحة.
فمباشرة بعد الإعلان عن دور وسائل التواصل الاجتماعي، في نشر الأخبار الزائفة على نطاق واسع، لعدم تمحيصها مصادر هذه الأخبار، تراجعت أسهم فيسبوك بثلاثة في المائة، قبل أن يتلقى نفس الموقع ضربة موجعة بإعلان اختراق بيانات خمسين مليون مستخدم، من طرف شركة "كامريدج أناليتيكا". ومباشرة تراجعت قيمة شركة فيبسوك بحوالي 60 مليار دولار في أسبوع واحد، كما تم استدعاء مؤسس الشركة مارك زوكيربرج للكونغرس الأميركي لاستجوابه حول هذه القضية، وكذلك فعل مجلس العموم البريطاني.
أمام هذه الخسائر المادية والمعنوية لصورة فيسبوك، تجد المؤسسات الإعلامية الكبرى ضالتها في صحافة التحقيق، كواحدة من الأجناس الصحفية الراقية، والتي تتطلب استثمارا في المال والوقت والجهد، لكن حصيلتها دائما تكون جيد بتقديم معطيات ومعلومات وقضايا هزت العالم. ولنا خير عبرة في التحقيقات، التي نشرت بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، وتدخل لوبيات عربية حتى، لتوجيه القرار السياسي في الولايات المتحدة، فهذه التحقيقات أظهرت الدور المهم للصحافة الجيدة، ذات المصداقية، والقادرة على تغيير مجريات الأمور في العديد من الملفات الحساسة في العالم.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، اختارت مؤسسات إعلامية أن تولي أهمية كبرى لقسم التحقيقات داخل غرف تحريرها، وتخصص لها إمكانيات كبيرة (صحيفة نيويورك تايمز، واشنطن بوست، قناة الجزيرة، شبكة بي بي سي.. إلخ). ما زالت تلك المؤسسات تنتج تحقيقات شكلت وثائق وأدلة، معتمدة على التحقيقات الجارية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، حول التدخل الروسي في الانتخابات، أو العلاقات بين بعض الأنظمة العربية، ولوبيات التأثير في واشنطن.
هذا النوع من المحتوى الصحفي، يفرض نفسه على المتلقي ولا يحتاج الترويج بطريقة كمية على منصات التواصل الاجتماعي؛ فالمواطن الأميركي أو البريطاني أو الغربي بصفة عامة، الذي يشاهد أن ديمقراطيته ونظامه السياسي باتا مهددين في الصميم، لن يدخر جهدا في البحث عن المعلومة الدقيقة، والتي لها مصداقية. والأكيد أنه بعد ما شاهد الاختلالات التي تعتري نشر فيسبوك للأخبار، سيفكر كثيرا قبل استهلاك المحتوى الإخباري المنشور على هذه المنصة، وسيعود للمؤسسات الإعلامية الكبرى.
فيسبوك.. قريب من التواصل بعيد عن الإعلام
لفترة طويلة ظل فيسبوك، يستغل تلك المساحة الرمادية بين الإعلام والتواصل، وواصل نشر المحتوى الخبري، على أساس أن من صميم دوره كوسيلة للتواصل. بيد أن الضغط الذي مارسته مؤسسات إعلامية كبرى مصحوبة بالقضايا الأخيرة التي أثيرت حول الأخبار الزائفة، وانتهاك خصوصية المستخدمين للتأثير على آرائهم السياسية، دفع بمؤسس فيسبوك للإعلان أن الموقع سيعود لدوره الأصل، وهو الربط بين الناس، والتواصل بينهم.
تصريح غائم لا يظهر كل الحقيقة؛ فهذه العودة لمهمة التواصل كانت عودة مضطر، بناء على استطلاعات داخلية أنجزها فيسبوك، أظهرت أن أغلبية المستجوبين يفضلون تقاسم أفكارهم وصورهم مع الناس، ومعرفة أنشطة الناس المقربين منهم، أكثر من اهتمامهم بالحصول على الأخبار، لأن للأخيرة مصادر معروفة.
وينضاف لهذا التوجه لدى مستخدمي فيسبوك، العديد من المشاكل التي واجهت الموقع، بسبب اختياراته "التحريرية"، فخلال سنة 2016 وجهت انتقادات للموقع لإغلاقه صفحة جريدة نرويجية، فقط لأنها نشرت الصورة الشهيرة لحرب فيتنام والتي تُظهِرُ طفلا عاريا وهو يركض مرعوبا. اعتبر الموقع أن هذه الصورة تنتهك قوانين نشره، في حين اعتبرتها وسائل إعلام تضييقا عل حرية التعبير. تكرر ذلك الأمر مع وسائل الإعلام التي تنشر مواد إعلامية مؤيدة للقضية الفلسطينية، فهي الأخرى تتعرض للحظر، بدعوى التحريض على العنف.
وللتخلص من "صداع الرأس" أعلن فيسبوك سياسته الجديدة، "أخبار أقل وخصوصية أكبر"، لكن مجلة كلية الصحافة في جامعة كولومبيا في نيويورك "كولومبيا جورناليزم ريفيو" لها رأي آخر، مفاده أن هذه السياسة لن تحل مشكل التخلص من الأخبار الزائفة بل ستكرسها، لأن مصدر هذه الأخبار لا يكون دائما مؤسسات إعلامية، وإنما حسابات وهمية. وتحذر المجلة من أن المحتوى المثير دائما ما يجذب المستخدمين، وتضيف بأن الموقع ترك للمستخدمين تقييم المصادر، إن كانت موثوقة أم لا. وهذا التقييم سيتعمده فيسبوك لتصنيف مصادر الأخبار، لتخلص المجلة الأميركية إلى أن هذه السياسة الجديدة لن تحل المشكلة.
ولعل المرحلة المقبلة ستقنع فيسبوك، بأن الشبكات الإخبارية الكبرى شريك وجب الحوار والتفاوض معه، عوض التجاهل. فهي من تملك صنعة الإعلام والقادرة على مواجهة زحف الأخبار الزائفة، وإظهار تقدير أكبر، لما ينتجونه من محتوى إعلامي مهني.
من قال إن الصحافة في خطر؟
أدى الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، وظهور مفاهيم جديدة كصحافة المواطن، وهو مفهوم كان في البداية حكرا على مناطق الصراع، حيث يصعب على الصحفي الوصول إليها، إلى الحديث عن "نهاية الصحافة". وعزز هذا التوجه، إطلاق فيسبوك تقنية البث المباشر. وهكذا، كثر الغبش حول الحدود بين العمل الصحفي، وبين ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من صور ومقاطع فيديو، وحتى تعليقات باتت تعتبر مصدرا للأخبار. واستغلت العديد من الجهات السياسية وحتى الأمنية هذه الضبابية، لنشر الإشاعات والأخبار الزائفة.
وهكذا فلا حل، سوى الاعتماد على المؤسسات الإعلامية المهنية، ولا محيد عن أخلاقيات المهنة، فهذه المؤسسات، بما تتوفر عليه من إمكانيات وتجربة واحترافية، قادرة على تمحيص هذا الكم الهائل من المعطيات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقادرة على تطويرها، ووضعها في قالب صحفي. مهامٌّ لا يقدر عليها القائمون على مواقع التواصل الاجتماعي. ولعل إدراك فيسبوك لخطأ التغول على المؤسسات الإعلامية، ومزاحمتها في دورها، هو بداية الطريق لإنهاء الكثير من الأطروحات والتوقعات، بنهاية الصحافة.