إن كنت صحفيا إيرانيا أو عربيا تتقن اللغة الفارسية وتقيم في إيران، فلن يتوقف هاتفك عن إعطاء إشعارات متتالية طيلة النهار.. سيكون أول ما تفعله صباحا هو تفقد مئات الرسائل التي فاتتك حتى لو كانت ساعات نومك قليلة، وأعني حرفيا أنها ستكون بالمئات، وسيكون آخر ما تفعله قبل الخلود إلى الفراش، هو محاولة تفريغ الرسائل المتراكمة في تطبيق التلغرام، تطبيق التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية بين الإيرانيين والأكثر استخداما بين الصحفيين والمواطنين على حد سواء، والمستخدم للحصول على الأخبار اليومية على اختلاف أنواعها، والذي استطاع أن يزيح -بجدارة واضحة للجميع- كل تطبيقات ومواقع التواصل الأخرى عن عرشها في إيران، ولا سيما أنها محظورة في غالبيتها رغم إمكانية الولوج إليها باستخدام تطبيقات بسيطة تضعها على الهاتف الذكي.
أكاد أجزم أن كل صحفي "حقيقي" في إيران بات مضطرا للاشتراك في عشرات القنوات على تطبيق التلغرام، لكل واحدة منها صوتها وتيارها السياسي، وقد تكون مستقلة في بعض الأحيان، عساه يلحق بركب أخبار تبثها جيوش من الصحفيين الآخرين ممن يديرون هذه النوافذ من خلف شاشات صغيرة. وأكاد أجزم أيضا أن هذا التطبيق بات المصدر الأول لكثيرين لإرسال أخبارهم العاجلة إلى وسائلهم الإعلامية الأجنبية، وللحصول على صور وفيديوهات تصبح متاحة وعلى مرأى مشاهدين موزعين في العالم برمته بعد مشاركتها في مواقع تواصل أخرى. وبالنتيجة بات التلغرام المكان الذي نحصل منه على أخبار إيران الرئيسية، فاستطاع حقيقة أن يتغلب على الوكالات الإخبارية التقليدية التي كانت يوما ما المصدر الأول، وأصبحت اليوم المكان الذي نحصل منه على تفاصيل الخبر التلغرامي، أو للتأكد من صحته إذا ما نشر على قناة غير رسمية فيه، فالتلغرام أصبح الوسيلة المبتكرة البديلة للوكالات وللمواقع الإلكترونية الإخبارية الإيرانية، وعدم قبول واقع هذا العالم الجديد يعني الخروج من السباق.
أذكر كم كان لهذا التطبيق دور في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في مايو/أيار الفائت. كثر هم من تابعوا مجريات وتفاصيل وكواليس المناظرات التلفزيونية بين المرشحين على قنواته، بل فتح كل مرشح قناته الخاصة، وأطلق شعاراته عبرها. أكثر من هذا، تفاعل أصحاب الحملات الدعائية الانتخابية مع هذا الواقع الإلكتروني الجديد، واستخدموا التطبيق بديلا عن الحملات في شكلها التقليدي، وتفاعل معهم المواطنون ممن انضموا إلى قنوات يقرؤون ما ينشر فيها، ويعيدون نشرها في مجموعات تلغرامية تسمح بتفاعلهم على نطاق واسع.
كنت أرى الإيرانيين يقرؤون صحفهم في الصباح فقط وهم في طريقهم إلى العمل، بعضهم يشتري الصحيفة، وآخرون يكتفون بقراءة العناوين من على صفحاتها الأولى وهي موضوعة في واجهات كشك الجرائد، دون تكبد عناء شرائها.. بعضهم يقول إنها متشابهة، وآخرون يرون أنها مسيسة فتتوزع بين خطابي الإصلاحيين والمحافظين، لا مكان للنقد الحقيقي فيها، أو للتركيز على القضايا التي تعني المواطن بالدرجة الأولى. أما اليوم فقد اختلف الأمر، ورفع التلغرام من سقف الحريات.. حرية قلم الصحفي أحيانا، وحرية تفاعل المواطن مع قضاياه في أحيان كثيرة أخرى.
فتح التلغرام الباب أمام عالم صحافة بشكل جديد في إيران، وهذا ما يؤكد عليه إحسان آريا الصحفي الإيراني ومسؤول قسم الأخبار الحكومية في وكالة "تسنيم" المحافظة، فيرى أن التلغرام استطاع أن يحتل المرتبة الأولى لكونه الأسرع والأدق في نقل الأخبار، كما ساهم في انتشارها بشكل أوسع، فباتت تصل إلى الإيرانيين بشرائحهم الاجتماعية المختلفة.
يقول آريا إن المواطن اليوم يصل إلى الأخبار بسهولة، بل ويشاركها مع الآخرين، ويحصل على تفاصيل الخبر وصوره، وفتح المجال أمامه لكتابة رأيه، فبات جزءا من عملية صناعة الخبر، وهو ما غيّر طريقة تعامل الإيرانيين مع الأخبار والصحافة.
وتزامنا مع حظر العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، يخضع التلغرام ومستخدموه للرقابة كذلك. ومع هذا، وجدت المواقع المحافظة في التلغرام سبيلا للترويج لخطابها، رغم أنها الأكثر "تحفظا" في تعاملها مع وسائل الإعلام الجديد، بينما تدعو الفئة المتشددة منها للحذر من كل هذا الانفتاح.
وتفسيرا لهذا الأمر، اعتبر آريا الذي يعمل في وكالة "تسنيم" التي يشترك في قناتها على التلغرام أكثر من 300 ألف متابع، أن العالم الافتراضي يخضع لرقابة لجنة ثقافية عليا، وأن العديد من المسؤولين في البلاد يؤكدون على ضرورة إيصال المعلومة بشكل "سليم" بما لا يضر بالأمن القومي، حسب تعبيره.
يرى أيضا أن وسائل الإعلام الجديد -بما فيها التلغرام- احتلت مكان وسائل الإعلام التقليدية في إيران، لكونها شغلت الفراغ الواضح في الإعلام الإيراني المكتوب والمرئي على حد سواء.
بحسب مركز "إيسبا" للإحصاء في إيران، فإن تطبيق التلغرام يحتل المرتبة الأولى من بين أكثر مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي شعبية. وبحسب استطلاع الرأي الذي أجراه المركز فقد حصل التطبيق على نسبة تأييد 58% من المشاركين، أكدوا أن التلغرام هو الأفضل.
كما ارتفع عدد مستخدميه بمرور الوقت، ووصل اليوم إلى 58.4% من الإيرانيين ممن تزيد أعمارهم عن 18 عاما. ووفقا لذات الاستطلاع رأى 54.2% ممن شاركوا فيه أن استخدام شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي مفيد، بينما أبدى 38.8% قلقهم منها.
وفي ذات السياق، أعلن المركز الوطني للعالم الإلكتروني والافتراضي في إيران أن التلغرام يحتل 60% من مساحة خطوط الإنترنت الرئيسية، ويستخدمه في الوقت الراهن أربعون مليون إيراني، وأكثر الساعات استخداما بين العاشرة ليلا والواحدة بعد منتصف الليل. وبحسب ذات المركز يوجد على تطبيق التلغرام 580 ألف قناة إيرانية، من بينها 16 قناة يزيد عدد أعضائها عن مليون شخص، وبعضها قنوات خبرية إعلامية.
ورغم كل هذا الإقبال من المواطنين والصحفيين وحتى المسؤولين والناطقين باسم التيارات السياسية في إيران، مر التطبيق بمراحل تضييق، فحُجبت الاتصالات الصوتية عبره، وهو أمر برره المعنيون بضرورة المحافظة على عمل شركات الهواتف النقالة، فشعبية التلغرام قد تعني إفلاسها لاحقا. كما أغلقت بعض القنوات بحجة الترويج لمفاهيم غير أخلاقية، بحسب المعنيين كذلك. وهكذا تعدى التلغرام واقع أن يكون مصدرا خبريا وصحفيا وحسب، ليصبح وسيلة إعلانية لمنتجات قد تخالف القانون في هذا البلد.
أما الشائبة الكبرى فكانت حين اعتقلت السلطات العام الماضي 12 مديرا لقنوات إعلامية على التلغرام، كلهم من الإصلاحيين أو محسوبون على هذا التيار، وهو أمر أثار انتقادات هذا الطيف وحتى المقربين من الحكومة، وقد أطلق سراح بعضهم في وقت لاحق، بينما لا يزال آخرون يقضون أحكاما متفاوتة بالسجن بعدما وجهت لهم اتهامات تتعلق بالأمن القومي.
كل هذا لم يثن الإيرانيين عن نشاطهم في قنوات هذا التطبيق الذي فتح نافذة لطالما بقيت مغلقة في وسائل الإعلام التي يصفها البعض بأنها غير مستقلة وتفتقد الحيادية واللسان الناقد، بل وبات سلاحا أقوى تستخدمه وسائل الإعلام المحسوبة على التيارات السياسية.
يرى علي أصغر شفيعيان المدير المسؤول عن موقع "إنصاف" الخبري والمحسوب على التيار الإصلاحي، أن سبب كل هذا يعود إلى واقع أن الإيرانيين باتوا هم مصدر الخبر.. الخبر الذي ينتشر على مساحة أوسع وبطريقة أسرع وأبسط، قائلا إن وسائل الإعلام الجديد المبتكرة هذه فتحت خط تعامل بين القارئ أو المتلقي وبين وسائل الإعلام، وهي علاقة كانت مغيبة في الوسط الإعلامي الإيراني التقليدي.
وأضاف شفيعيان أن مساحة الحرية الموجودة حاليا تتسبب بمشكلات ثانية، فالتلغرام بات أيضا مكانا لنشر الشائعات والأخبار غير الصحيحة التي تثير الذعر بين المواطنين أحيانا، ومن هنا تكمن أهمية ضرورة التحكم بالمحتوى من قبل الصحفيين أنفسهم، والتأكد من كل ما يصلهم عبر التلغرام قبل نشره في قنواتهم الرسمية.
يعتبر هذا الصحفي أن قراءة المواقع الخبرية الإلكترونية أو الصحف لم يعد كافيا في الوقت الراهن، فالإيرانيون يبحثون عن تحليلات لا عن عناوين الأخبار العادية، وهو ما أمّنه التلغرام لهم بعدما فتح مساحة للصحفيين ممن يدركون ضعف الواقع الإعلامي في البلاد، فغطى هذا التطبيق تلك الثغرات.
هذا كله يجعل إيران جزءا من معادلة التطور الإلكتروني التي أصبحت تسود العالم برمته، ويجعل الإيرانيين من المواطنين وحتى الصحفيين الذين يشاركون على طريقتهم في العالم الافتراضي، فتفوق التلغرام على مواقع التواصل التي تقوم بدور إعلامي مشهود له عالميا من قبيل تويتر وفيسبوك.